اليرموك «أمّ الولد»، هكذا وصفه لي جدي منذ عقود، منذ أن خرجت في أول تظاهرة لدعم انتفاضة الحجارة في الثمانينيات. لم أفهم وقتها ما يعنيه، استلزم الأمر... سنوات
متولي أبو ناصر
كيف يكون مخيم «أمّ الولد»؟ مضت سنوات طويلة على ذاك الحديث، واليوم فقط فهمت ما كان يقصده جدي بقوله ذاك. أفهم جيداً أن اليرموك، هذا المخيم الذي احتضنت شوارعه ذكريات أجمل شهداء فلسطين، هو في الحقيقة بحجم الوطن، تماماً كالأم التي تتفقد أطفالها في آخر الليل. عشرة ملايين فلسطيني يتفقدهم المخيم كل يوم. إذا جرح طفل فلسطيني صغير في أي بقعة في العالم؟ ترى اليرموك قد انتفض عن بكرة أبيه، يخرج كالأم المجنونة الى الطرقات والشوارع، يصرخ من دون أن يبكي. حتى عندما خذلته قيادته بعد إنهاء دوره النضالي إثر اتفاق أوسلو المشؤوم، بقي المخيم «أمّ الولد». في نهوض الثورة في لبنان كان أمّ الولد، وعندما حوصرت المخيمات وبيروت كان أمّ الولد وقدم مئات الشهداء من أبنائه، وأثناء انتفاضة الأقصى في فلسطين، وأثناء عدوان غزة، وبرغم بعده وإبعاده عن الفعل كان المخيم لا ينام، كالأم المصابة بالقلق على غياب أحد أطفالها لا تستطيع النوم قبل أن يعود.
منذ يومين، ورغم الجوع الذي يعانيه اليرموك، يخرج أبناؤه الى الشوارع للتضامن مع... مخيم ضبية شرقي بيروت! وترفع اللافتات المنددة بقرارات الإزالة والهدم بحجة وجود مخالفات! وقد كتب عليها شعارات بسيطة من نوع: «من مخيم اليرموك الى مخيم الضبية: ابتسم خيا»، فعندما تعبس المدن الكبيرة تبتسم المخيمات الفلسطينية.
تقول الحاجة أم محمد وهي من مهجري مخيم سبينة السوري الى مخيم عين الحلوة اللبناني: «يا خالتي في مؤامرة علينا الفلسطينية من زمان وخاصة على المخيمات، ما بدهم يانا نرجع، شايف شو عم بصير فينا؟ وأبو مازن كاعد بلف بأوروبا كأنو ملوش ناس عم تنكتل بسوريا، يا خالتي بطلع على التلفزيون تبع السلطة ما فيش ولا خبر بيحكي عن المخيمات».
يدمر مخيم سبينة بالكامل، ونصف مخيم الحسينية و السيدة زينب سوي على الأرض، وجزء كبير من مخيم حندرات في حلب، ويدمر اليرموك دماراً شاملاً والحبل على الجرار ولن يكون مخيم النيرب ببعيد عن الحال، فقط مسألة وقت لا أكثر. المشهد ذاته نراه في مخيمات لبنان ولكن بطريقة أخرى وأبشع، التدمير هناك ليس للأبنية بل للاجئ الإنسان، فقر وتعتير وبطالة وسلاح بيد شباب صغار، واشتباكات دائمة، تشدد ديني، حشيش، حبحبة ومخدرات، ضيق المكان، تدخلات دائمة للأطراف السياسية المتناحرة في لبنان تؤدي في كثير من الأحيان الى سقوط قتلى، وقد يأتي اليوم الذي قد تنفجر فيه هذه المخيمات وتشعل لبنان كله.
جسر الباشا وتل الزعتر و صبرا، والنبطية وتهجير غالبية عائلات مخيم الضبية... كلها مخيمات إما هدمت على أياد إسرائيلية أو لبنانية مشبوهة.
ليس هذا الكلام سببه نبش الجراح بقدر ما هو تجميع لفسيفساء متناثرة في الزمن. هي بانوراما تبدو للوهلة الأولى غير متماسكة، ولكنها إذا ما اكتملت، تشير بوضوح الى فعل منظم لقتل المخيم كرمز لحق العودة.
يكتب الشاعر والفنان التشكيلي الفلسطيني الحكم النعيمي من قلب مخيم اليرموك المجوع منذ تسعين يوماً على صفحته: «مخيم اليرموك، المدينة الضائعة، القذائف التائهة، القناص، الأبراج، الحرس، مدينة يسكنها آلاف الرجال. مخيم الخوف، القهر والجوع. مخيم يريدون لنا أن نتناساه. لكن هذا المخيم البعيد يمتد فوقنا بظلاله، كأننا جميعنا كنا هناك، كأن كل شيء يدخل في كل شيء، فنصير نحن المحاصرين ونغدو كلنا المخيم».