والخلاصة : إنّ علم الأئمة الطاهرين عليهم السلام علم لدني من الله سبحانه وتعالى كعلم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اكتسبوه من خلال الطرق التي أشرنا إليها .
وعليه فليس هناك ما يمنع أن يطلع الأئمة عليهم السلام على بعض الأمور الغيبية من خلال مصادر علمهم المذكورة ، وعلماء أهل السنة يعترفون بأن النبي صلى الله عليه وآله قد أخبر بعض الصحابة ببعض المغيبات وأطلعهم على بعض المخفيات ، فهذا القسطلاني في كتابه إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري عند شرحه لقول أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه : (
حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأمّا أحدهما فبثثته ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم
) يقول : ( ...
وأراد بالوعاء الأول ما حفظه من الأحاديث وبالثاني ما كتمه من أخبار الفتن وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام من فساد الدين على يدي أغيلمة من سفهاء قريش ، وقد كان أبو هريرة يقول : لو شئت أن أسميهم بأسمائهم ، أو المراد الأحاديث التي فيها تبيين أمراء الجور وأحوالهم وذمهم ، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعض ذلك ولا يصرّح خوفاً على نفسه منهم
... ) (1) .

ورووا أن حذيفة بن اليمان قال : (
والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة
... ) (2) .
وروى مسلم وغيره عن عمرو بن أخطب قال : (
صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا
) (3) .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد أخبر أبا هريرة بأسماء بعض أمراء الجور الذين يأتون بعده وبعض أحوالهم وغير ذلك من الأمور والفتن والأحداث التي ستحدث في مستقبل الزمان مما أطلع عليه من قبل الوحي ، وأخبر الصحابة بما كان وبما هو كائن وكان حذيفة يعلم بكل فتنة هي كائنة فيما بينه وبين الساعة فمن باب أولى أنّه أطلع علياً عليه السلام بمثل ذلك وأخبره بالكثير من الوقائع والأحداث والفتن والأمور التي ستقع وتحدث فيما يأتي من الزمان وبما كان وبما يكون إلى يوم القيامة لكونه عليه السلام خليفته صلى الله عليه وآله والإمام على الأمة والقائم بشؤونها وأمورها بعده فهو أولى بأن يعلم مثل هذه الأمور لحكم منصبه القيادي هذا ، وانتقل ذلك إلى الأئمة الطاهرين من بعده عليهم السلام أيضاً لكونهم قادة الأمة ، فكل إمام ينقل هذه العلوم إلى اللاحق إمّا مشافهة أو عن طريق الكتب التي ورثوها من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، إضافة إلى ذلك ما يطلع عليه الإمام من مخفيات وغيبيات من طريق الإلهام والتحديث من قبل الملائكة .
وقد ثبت في الآثار المروية عنهم عليهم السلام أنهم أطلعوا على مثل هذه الأمور ، كما وثبت أنهم عليهم السلام أخبروا ببعض ما يعد أمراً غيبياً ، وإخبارهم بذلك ليس لأنهم يعلمون الغيب بالذات وإنما لأنهم أطلعوا عليه ممن يعلم الغيب بالذات وهو الله عزّ وجل .
قال الشيخ المفيد رحمه الله : (
إنّ الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ويعرفون ما يكون قبل كونه ، وليس ذلك بواجب في صفاتهم ولا شرطاً في إمامتهم وإنّما أكرمهم الله تعالى وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم والتمسك بإمامتهم وليس ذلك بواجب عقلاً ولكنه وجب لهم من جهة السماع ، فأمّا إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو منكر بيّن الفساد لأن الوصف بذلك إنّما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد ، وهذا لا يكون إلاّ الله عزّ وجل وعلى هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ من شذّ عنهم من المفوّضة ومن انتمى إليهم من الغلاة
) (4) .
وقال العلامة الطبرسي رحمه الله ردّاً على من اتّهم الشيعة الإمامية الإثني عشرية بأنّهم يدّعون علم الغيب لأئمتهم : (
إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم – يعني الشيعة – ولا نعلم أحداً منهم بل أحداً من أهل الإسلام يصف أحداً من الناس بعلم الغيب ، ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدّين ، والشيعة الإمامية براء من هذا القول فمن نسبهم إلى ذلك فا الله فيما بينه وبينهم
) (5)
وقال أيضاً : (
ولا نعلم أحداً منهم – يعني الشيعة – استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق ، فإنما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المخلوقات ، وهذه صفة القديم سبحانه العالم لذاته لا يشركه فيها أحد من المخلوقين ، ومن اعتقد أنّ غير الله سبحانه يشركه في هذه الصفة خارج على ملة الإسلام
) (6) .
وقال العلامة المجلسي رحمه الله : (
اعلم أنّ الغلو في النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام إنّما يكون بالقول بإلوهيتهم أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبودية أو في الخلق والرّزق ، أو أنّ الله تعالى حلّ فيهم أو اتّحد بهم ، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى ، أو بالقول بأنّ معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي ، والقول بكل منـها إلحادٌ وكفـرٌ وخـروجٌ عـن الدين كما دلّت عليه الأدلة العقلية والآيات والأخبار
) (7) .
وقال الشيخ محمد تقي فلسفي رحمه الله: (
إن علم الغيب في هذا العالم بأسره يختص به وحده ، وإنّ أي موجود آخر أرضياً كان أو سماوياً بشراً كان أو من غير البشر لا علم له بالغيب ولا يمكنه الدخول في هذا المجال المقدس بصورة مستقلة من تلقاء ذاته
) .
وقال : (
ولكن هناك بعض الأشخاص يحظون – إلى حدٍ ما – بمعرفة بعض الأمور الغيبية وذلك وفقاً لما تسمح به مشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته ، وهذا ما نصّت عليه بعض آيات القرآن الكريم : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (8) (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) (9) .
إذن فالطريقة الأولى للإطلاع على غيب العالم هي أن يأذن الله سبحانه بذلك .
فهناك أشخاص مقربون من الله وأوليائه المنتجبين الكرام تحدّثوا خلال فترة وجودهم في هذه الدنيا عن الأمور الغيبية ، وهذا كان بإذن الله سبحانه وتعالى واستناداً إلى الإلهام الرباني
) (10) .
وقال الشيخ محمد جواد مغنية : (
إنّ كلمة الغيب لا تدل على معناها فحسب بل تدل أيضاً على أنّ الغيب لله وحده وبالإضافة إلى هذه الدلالة فإنّ أقرب الناس إلى ربّه يعلن للأجيال بأنّه أمام الغيب بشر لا فرق بينه وبين غيره من الناس ، ثم لا يكتفي بهذا الإعلان بل يستدل على ذلك بالحس والوجدان وهو أنّه لو علم الغيب لعرف عواقب الأمور
) (11).
وقال : (
فلا يكون إخبار الرسول به – بالأمور الغيبية – علماً بالغيب ، بل نقلاً عمّن يعلم الغيب ، والفرق بعيد بين مصدر العلم وبين النقل عن مصدره ، لأنّ الأول أصل والثاني فرع
) (12) .
وقال السيد محمد جواد فضل الله : (
والواقع الذي لا جدال فيه أنّ علم الغيب من حيث كونه صفة ذاتية مما يختص به سبحانه وتعالى ، الذي هو عالم الغيب والشهادة دون أن يشاركه فيه أي موجود مهما كانت منزلته ، ومهما كان مقامه ، ومعنى علم الغيب هنا هو إنكشاف واقع الأشياء ذاتاً دون الحاجة إلى الاستعانة بأي شيء آخر لتحقيق ذلك الانكشاف ، ولا يمكن نسبة علم الغيب بهذا المعنى للأئمة فإنه الغلو بل هو الشرك بعينه.
أمّا علم الغيب بمعنى انكشاف الواقع في بعض الحالات للنبي أو الإمام بمعونة من الله لاقتضاء بعض الضرورات الرسالية أو لإظهار تميز النبي أو الإمام عن غيره من البشر الذي ربما يكون في بعض الحالات ضرورة رسالية ملحة فلا نرى أي محالية في نسبته للأئمة بل هو أمرٌ ممكن عقلاً قابلية ووقوعاً ، فإذا ثبت إمكانه العقلي ثبت إمكانه الوقوعي بالضرورة .
ويظهر من هذا أنّ الإتهام الظالم الذي ألصقه بعض كتبة التاريخ – من القدماء والمحدثين – بالشيعة من أنهم يعتقدون في أئمتهم علم الغيب هو من الصفات المختصة بالله سبحانه وتعالى لا يعدوا كونه تجن مفتعل وتجاوز على الحقيقة
) (13).
وقال السيد أمير محمد الكاظمي : (
ليس في الشيعة من يقول بأنّ الأئمة عليهم السلام يعلمون علم الغيب من عند أنفسهم ، ومن ينسب ذلك إليهم فهو مفترٍ عليهم ، لأن علم الغيب مخصوص بالله وحده ، وإنّما يقولون إنّهم ينبئون عن بعض المغيبات بتعليم الله لهم ، وليس في هذا شيءٌ من الغلو وإلاّ كان ماقصه الله تعالى عن نبيّه عيسى عليه السلام بقوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (14) غلواً باطلاً وهو كفر صراح
) (15) .
وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله : (
وأما قوله : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ) (16) فلا يدل إلاّ على اختصاص علم الغيب بالذات به تعالى كسائر آيات اختصاص الغيب به ، ولا ينفي على الغير به بتعليم منه تعالى كما يشير إليه قوله : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) (17) وقد حكى الله سبحانه نحواً من هذه الأخبار عن المسيح عليه السلام إذ قال : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ ) (18) ومن المعلوم أنّ القائل أن النبي عليه السلام كان يخبر الناس بما يكون في نحو لا ينفي كون ذلك بتعليم من الله له .
وقد تواترت الأخبار على تفرقها وتنوعها من طرق الفريقين على إخباره صلى الله عليه وآله بكثير من الحوادث المستقبلية
) (19) .
قال الشيخ غلام رضا كاردان : (
تعتقد الشيعة الإمامية بأن الله عزّ وجل وحده يعلم الغيب والشهادة ، ولا أحد غيره يعلم ذاتاً بشيء ، وإنّما علم كل عالم وجميع الكمالات الأخرى وأصحابها مملوكة لله عزّ وجل ولكن قد يُعلم الله عزّ وجل بعض الأشخاص من علمه بحسب المصلحة كما يقول القرآن المجيد : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (20) أو كما في قوله : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) فالمستفاد من الآيتين أنّ الله عزّ وجل قد يصطفي أحداً من أنبيائه فيطلعه على الغيب
) (21) .
___________________
(1) إرشاد الشاري 1/317 .
(2) صحيح مسلم 4/2216 برقم : 2891 ، المستدرك على الصحيحين 4/518 برقم : 8454 ، مسند أحمد 5/388 برقم : 23339 ، مسند الشاميين 4/130 برقم : 2917 ، فتح الباري 6/607 ، تاريخ دمشق 8/351 و 12/266 ، السنن الواردة في الفتن 1/233 ، الفتن 1/28 برقم : 3 ، سير أعلام النبلاء 2/365 ، تهذيب الكمال 5/501 ، الدر المنثور 7/480 .
(3) صحيح مسلم 4/2217 برقم : 2892 ، صحيح ابن حبّان 15/9 برقم : 6638 .
(4) أوائل المقالات صفحة 67 .
(5) تفسير مجمع البيان 3/447 .
(6) تفسير مجمع البيان 5/353 .
(7) بحار الأنوار 25/346 .
(8) آل عمران : 179 .
(9) الجن : 26 – 27 .
(10) المعاد بين الرّوح والجسد 1/273 – 274 .
(11) الكاشف 3/431- 432 .
(12) الكاشف 3/433 .
(13) الإمام الصادق خصائصه ومميزاته صفحة 75 – 76 .
(14) آل عمران : 49 .
(15) محاورة عقائدية صفحة 32 .
(16) النمل : 65 .
(17) الجن : 26 – 27 .
(18) آل عمران : 49 .
(19) تفسير الميزان 15/393 .
(20) آل عمران : 179 .
(21) الرّد على شبهات الوهابية صفحة 15-16 .
يتبع ... يتبع ... يتبع >>>