موقف الإمام الحسين ( عليه السلام ) من يزيد بن معاوية
جسَّد الإمام الحسين ( عليه السلام ) في هذا الموقف الرسالي الفريد أحد أبرز مصاديق وحدة الهدف في تحقيق مصلحة الإسلام حين نهض ( عليه السلام ) في وجه يزيد بن معاوية مسترخصاً كل شيء في سبيل تلك المصلحة .
و من أبرز مصاديق الحكمة في نهضة الإمام الحسين ( عليه السلام ) هي :
أولاً :
إن معاوية في تنصيبه لابنه يزيد من بعده للخلافة قد نقض عهده المبرم في صلحه مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وبذلك أصبح الإمام الحسين ( عليه السلام ) أمام أمر مستحدث يقتضي منه موقفاً يتناسب وما تمليه مصلحة الإسلام العُليا .
ثانياً :
إن تنصيب يزيد من قبل أبيه معاوية خليفة للمسلمين أصبح أكبر قضية تُهدِّد أساس العقيدة الإسلامية ، وذلك من خلال الانحراف الخطير الذي سيطرأ على مسألة الحكم الإسلامي وخلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فإن تنصيب مثل يزيد للخلافة – وهو المتجاهر بالفسق والفجور والزنا وشرب الخمور – يعني على أقل تقدير وقوع الحكم الإسلامي في خطر التَحوّل الجذري ، والانقلاب الكلي في الحكم الإلهي الذي جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما يقوم على أساسه من عدل وقسط وصلاح .
ثالثاً :
إن مشكلة الانحراف الجذري في مسألة الخلافة آنذاك لم تكن في إدراك مجمل هذه الحقيقة .
فقد كان المسلمون المخلصون – وعلى رأسهم كبار الصحابة والتابعين من الموالين لأهل البيت ( عليهم السلام ) ومحبِّيهم – مدركين لها ولخطورتها .
إلا أن الإرادة العامة للمسلمين لم تكن بمستوى هذا الإدراك ، مما دفع الإمام الحسين ( عليه السلام ) لتحمّل هذه المسؤولية الكبرى .
فانبرى ( عليه السلام ) لبذل دمه ودماء أهل بيته وأصحابه لتكون وقوداً ساخناً لإلهاب تلك الإرادة الهامدة ، وتعرية حقيقة الجاهلية الكامنة في خلافة يزيد بن معاوية .
وقد بدأت منذ نهضته وبعد استشهاده ( عليه السلام ) مرحلة المواجهة والجهاد العنيد لهذا الخطِّ المنحرف ، ليقوم للدين عَمود ولتستقيم كلمته في العباد .
ولتصديق ذلك لا بُدَّ لنا من إلقاء نظرة على نماذج من أقواله ( عليه السلام ) ، لنتلمس من خلالها المحتوى المبدئي في حفظ مصلحة الإسلام ورعايتها التي ضحَّى الإمام الحسين ( عليه السلام ) بنفسه وأهل بيته وأصحابه ( عليهم السلام ) من أجلها .
ومن هذه الأقوال ما يلي :
الأول : قوله ( عليه السلام ) :
( لا بَيعةَ لِيَزيد ، شارب الخُمور ، وقاتِل النَّفس المحرَّمة ... ) .
وكتب يزيد إلى الوليد بن عتبة كتاباً يطلب فيه أخذ البيعة على أهل المدينة ، ثم أرفق الكتاب بصحيفة صغيرة فيها :
خذ الحسين ، وعبد الله بن عُمر ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ، ومن أبَى فاضرب عنقه ، وابعث إليَّ برأسه ، وقام العامل بهذه المهمة ، فبعث إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) في منتصف الليل .
ولما استقر المجلس بالإمام ( عليه السلام ) نعى الوليد إليه معاوية ، ثم عرض عليه البيعة ليزيد ، فقال ( عليه السلام ) :
( مِثلِي لا يُبَايِعُ سِرّاً ، فإذا دعوتَ النَّاسَ إلى البَيعَة دَعوتَنا معَهُم فكان أمراً واحداً ) .
ثم أقبل ( عليه السلام ) على الوليد وقال :
( أيها الأمير ، إنَّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فَتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل شَاربُ الخُمورِ ، وقاتلُ النفس المحرَّمة ، مُعلنٌ بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحَقّ بالخلافة ) .
الثاني : قوله ( عليه السلام ) :
( الخِلافَةُ مُحَرَّمَة على آل أبي سُفيَان ... ) .
بعد أن رفض الإمام الحسين ( عليه السلام ) بيعة يزيد لقيه مروان عند صباح اليوم الثاني ، فدار بينهما كلام ، ونصح فيها مروانُ الإمامَ ( عليه السلام ) ببيعة يزيد .
فاسترجع الحسين ( عليه السلام ) وقال :
( على الإِسلام السَّلام ، إذا بُلِيَت الأمة بِراعٍ مثل يزيد ، ولقد سَمِعتُ جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان ، فإذا رأيتُم معاوية على منبري فابقروا بَطنَه ) .
وقد رآهُ أهل المدينة على المنبر فلم يبقروا ، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق ) .
وطال الحديث بينهما حتى انصرف مروان مغضباً .
الثالث : قوله ( عليه السلام ) :
( لَو لم يَكُن في الدنيا مَلجَأ ولا مَأوىً لَمَا بَايَعتُ يَزيد ) .
روي أن محمد بن الحنفية قال للإمام الحسين ( عليه السلام ) : يا أخي ، أنت أحبّ الناس إليَّ ، وأعزّهم عليَّ ، ولستُ أدَّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاَّ لك ، وأنت أحَقّ بها :
تَنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثم ابعث برسلك إلى الناس ، فإن بايعوك حَمدتَ الله على ذلك ، وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص اللهُ بذلك دينَك ولا عقلَك ، ولم تذهب مروءتك ولا فضلك ... .
فقال الحسين ( عليه السلام ) : فأين أذهب ؟
قال : تنزل مكة ، فإن اطمأنَّت بك الدار ، وإلا لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجتَ من بلد إلى آخر حتى تنظر ما يصير إليه أمر الناس .
فقال الحسين ( عليه السلام ) :
( يَا أخي ، لَو لم يَكُن في الدنيا ملجأ ولا مأوىً لَما بايعتُ يَزيد بن معاوية ) .
الرابع : قوله ( عليه السلام ) :
( خَرجتُ لِطَلب الإصلاحِ في أُمَّة جَدِّي مُحَمَّد ... ) .
كتب الحسين ( عليه السلام ) قبل خروجه من المدينة وصيَّة لأخيه محمد بن الحنفية قال فيها :
( ... وإني لم أخرج أشِراً ولا بطراً ، ولا مُفسِداً ولا ظالماً ، وإنما خَرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جَدِّي ( صلى الله عليه وآله ) .
أريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي علي بن أبي طالب ، فَمن قَبلَني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم ، وهو خير الحاكمين ) .
الخامس : قوله ( عليه السلام ) :
( ما الإمامُ إلا العاملُ بالكتاب ، والآخِذُ بالقِسطِ ، والدائن بالحقِّ ... ) .
فقد ذكر المؤرخون أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) وَافَتْهُ في مكة كُتب أهل الكوفة من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة ، يسألونه القدوم عليهم لأنهم بغير إمام .
وكثرت لديه ( عليه السلام ) الكتب ، حتى ورد عليه في يوم واحد ستمِائة كتاب ، واجتمع عنده اثنا عشر ألف كتاب .
ولما اجتمع عنده ما ملأ خرجين ، كَتَب إليهم كتاباً واحداً دفعه إلى ابن عمّه مسلم بن عقيل ، وقال ( عليه السلام ) فيه :
( بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد :
فإن هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي قَصَصتُم وذكرتم ، ومقالةُ جُلَّكُم أنه : ليس علينا إمام فأقبِلْ ، لَعَلَّ الله أن يَجمعَنا بك على الهُدَى والحق .
وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمِّي وثقتي من أهل بيتي ، وأمرتُه أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإن كتب أنه قد اجتمع رأي مَلَئِكم وذوي الفضلِ والحِجَى منكم على مثلِ مَا قَدِمَت عليَّ بِهِ رُسُلكم ، وقرأتُ في كتبكم ، أقدمُ عَليكُم وشيكاً إن شاء الله .
فَلَعَمْرِي ، مَا الإمام إلا العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحق ، والحابس نفسه على ذات الله والسلام ) .
السادس : قوله ( عليه السلام ) :
( رِضَا اللهُ رِضَانا أهلَ البيت ... ) .
قد ورد أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) لمَّا بلغه أنَّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر ، وأمَّره على الحاج ، وولاَّه أمر الموسم ، وأوصاه بالفتك بالحسين ( عليه السلام ) أينما وُجِد ، عَزم ( عليه السلام ) على الخروج من مكة قبل إتمام الحج ، واقتصر على العمرة كراهية أن تستباح به حرمة البيت .
وقبل أن يخرج قام ( عليه السلام ) خطيباً فقال :
( الحمد لله ، وما شاء الله ، ولا قوة إلاَّ بالله ، وصلَّى الله على رسوله : خُطَّ الموت على وِلد آدم مَخطَّ القِلادة على جِيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مَصرع أنا لاقِيه ، كأني بأوصالي تُقطِّعها عُسلانِ الفلاة بَين النَّوَاويسِ وَكَربَلا ، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً .
لا مَحيصَ عن يَومٍ خُطَّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين ... ) .
السابع : قوله ( عليه السلام ) :
( نحنُ أهلُ بيتِ مُحمَّدٍ أوْلَى بولاية هذا الأمر ... ) .
سار الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد خروجه من مكة حتى نزل في شراف ، وهناك التقى بالحر الرياحي مع ألف فارس معه ، فقام فيهم خطيبا فقال :
( أيّها النَّاس ، إنَّكم إن تَتَّقوا الله وتعرفوا الحقَّ لأهله يَكن أرضى لله ، ونحن أهلُ بَيت محمد أوْلَى بولاية هذا الأمر من هَؤلاءِ المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين بالجور والعدوان ) .
وهناك أقوال كثيرة مأثورة عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) في هذا المجال مبيِّنة العِلَّة من موقفه هذا من يزيد ، وسبب خروجه عليه ، وكذلك تبيِّن عزَّة الإمام ( عليه السلام ) ومظلوميَّته هو وأهل بيته ( عليهم السلام ) .
وتَتِمَّة لما سبق نذكر سَرداً منها بشكل مختصر :
الثامن : قوله ( عليه السلام ) :
( مَن رأى سُلطاناً جائراً مُستَحلاًّ لِحَرام الله ، ناكثاً عهده ، مخالفاً لِسُنَّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أنْ يُدخِله مَدخَله ) .
التاسع : قوله ( عليه السلام ) :
( إِنِّي لا أرَى المَوتَ إلا سَعادةً ، وَالحَياةَ مَع الظالمين إِلاَّ بَرَماً ) .
العاشر : قوله ( عليه السلام ) :
( لا وَالله ، لا أُعطِيكُم بِيَدي إعطَاءَ الذَّليل ، وَلا أفِرُّ فِرارَ العَبيد ) .
الحادي عشر : قوله ( عليه السلام ) :
( هَيْهَات مِنَّا الذِّلَّة ، يَأبى اللهُ لَنا ذَلكَ وَرَسولُهُ والمؤمِنون ) .
الثاني عشر : قوله ( عليه السلام ) :
( يَا أُمَّةَ السّوء ، بِئسَمَا خَلفْتُم مُحَمَّداً فِي عِترتِه ، أما إنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي ) .
الثالث عشر : قوله ( عليه السلام ) :
( اللَّهُمَّ احكُم بَيننا وبَين قَومِنا ، فإِنَّهم غَرُّونا ، وخَذَلونا ، وغَدَروا بنا ، وقَتَلُونا ونحنُ عِترَة نبيِّك ) .