نصيحةٌ من أهل الشام: «البسوا في أرجلكم القبقاب، فهو من الخشب ومريحٌ للقدمين، ولا يتأثر بالحرارة أو البرودة، ولا يسبب التشققات الجلدية، وبعدين ما في أحنَّ من الخشب على بني آدم..».
لو عدنا إلى كُتُب التاريخ والتراث لوجدنا أنَّ لبس القبقاب كان منتشراً في البلاد العربية والإسلامية، حيث ينسب البدري في كتابه «نزهة الأنام في محاسن الشام»(11) هذين البيتين لابن هانئ الأندلسي في وصف لسان حال القبقاب:
كنتُ عضنـاً بين الأنـام رطيبـاً مائس العطف من غناء الحمام
صرتُ أحكي رؤوس عداك في الذل بـرغـم أداس بـالأقــدام
وتعتبر دمشق من أشهر المدن العربية الإسلامية التي عُرفت بصناعة القبقاب، وكان لها سوق مخصوصة وراء الجدار القبلي من الجامع الأموي، يعرف بسوق القباقبية، ومن هذا السوق العريق كانت تُحمل مصنوعاته الخشبية المختلفة، وخاصةٌ القباقيب إلى مصر وبيروت وإستانبول، برغم وجود الحرفيين المهرة، إلا أنَّهم ليسوا بحرفية ومهارة الدمشقيين.
وعادةً يستعمل في صناعة هذا المداس الخشبي خشب الجوز والمشمش والتوت والصفصاف والزان، أمَّا في دمشق فيصنع من خشب الصفصاف والحور، حيث يقطعونه شرائح على أشكال أسافين ويرسمونه على قدر قدم الإنسان حسب المقاس، وبعدها تأتي عملية التفكيك، وفيها إزالة الزوائد الخارجية من الجانبين، ثم النشر بعملية اللف وهي إزالة الزوائد الأمامية والخلفية، وبعدها تأتي عملية التقدير، وهي تشكيل كعب القبقاب، ثمَّ يأتي دور التنعيم أي حفُّ القبقاب تمهيداً لِطَلْيهِ، وأخيراً يركب عليه السيّر، وهو قطعة من الجلد تثبت على مقدمة القبقاب بمسامير خاصة تسمى «مسامير قباقبية» ويكون السيَّر بألوان مختلفة وأحياناً يُطعم بالصدف والعظم، وتُمَدُّ فيه أسلاك من القصدير، أو الرصاص.
ومن المتعارف عليه أن القبقاب كان يلبس داخل البيت خاصةً لسيدات وربات البيوت، باعتباره مريحاً في الحركة والعمل في شؤون البيت، وفي الأسواق والأزقة، كان الرجال يلبسونه أيضاً اتقاءً للوحل أيام الشتاء حيث يقول في ذلك أبو الحسن الجزار:
جبتي في الأمطار جلدي ولُبَّا دي ثوبي، وبغلتي قبقابي (1)2
وللقباقيب الدمشقية أشكال ومسميات، ولم يحفظ من أسمائها القديمة إلاَّ الزحاف، ويقال له الزحافي، وقد ذكره "المقريزي" عند المجادلة الكلامية بين قاضي القضاة زين الدين التفهي الحنفي مع الميموني، عندما حكم عليه بسفك دمه والميموني يقول له: «اتق الله يا عبد الرحمن، أنسيت قبقابك الزحَّاف وعُميَّمتكَ القطن» (2) .
وبالمناسبة يعتبر الزحاف أكثر الأشكال رواجاً لرخصه، وترغبه العوام لسهولة المشي والجري به.
وشكل آخر كان يسمى فيما يبدو «قبقاب سجك»: قدمه لاصق بالأرض و المؤخرة كعب بطول ثلاثة قراريط، وقد أشار إليه ابن إياس في وفاة قاضي محيي الدين بن النقيب بمصر 922/1516م :
«وكان سبب موته أنه كان يمشي في الأسواق بقبقاب سجك فتوجه إلى خان الخليلي فرفسه فرس فوقع على فخذه فأنكسر فحَملوه إلى خلوته التي في المدرسة المنصورية فأقام بها أياماً ثمَّ مات» (1)3
وفي دمشق اليوم ما يسمى « الشبراوي» والتسمية جاءت لارتفاعه شبراً، وهو قبقاب نسائي استخدمته المرأة الدمشقية، ويكون خشبه مصدفاً وسيره مطرزاً بخطوط الفضة، وهناك القبقاب الجركسي أو ما يسمى «المهاجرين» وجاءت تسميته لقيام بعض الحرفيين من المهاجرين والجراكسة، الذين قِدموا دمشق بصناعَتِهْ على أهل بلادهم الأصليين، وهو أقل الأشكال ارتفاعاً وألصقها بالأرض وأبخسها ثمناً، وهناك العكاوي وهو دون الشبراوي علواً، ولا يُدرى سبب التسمية، هل لأن أهل عكا يلبسونه خاصةً، أم كان يُصنع قبلها في مدينتهم عكا ؟؟
وهناك قبقاب «الكندرة» ويشبه قبقاب الجراكسة إلا أنَّ له مقدمة ومؤخرة أرجل بطول «أربعة قراريط» لاصقة بالقبقاب لأنها تنزل في تجويفين من مقدم سطح القبقاب ومؤخره وهي تصنع خاصةً لحمامات دمشق فقط، ويلبسها صَّناع الحمام والزبائن في البَرَّاني، وقد يلبسه أيضاً كثير من الفقراء والموسرين اتقاءً لأوحال الشتاء، كما ورد ذكر قبقاب «نصف كرسي» من ضمن الأشكال المعروفة، ولكن لا يوجد مصدر واحد للتعريف به.
هذا عن شكل القبقاب، أما عن ارتفاعه فربما وصل الارتفاع إلى نصف ذراع، وكان يلبسه من كان يرغب في تطويل قامته لابتلائه بالقصر المفرط، أو كان محبَّاً للعظمة والظهور، فيعمل بهذا القبقاب إلى وصل قامته بطول قبقابه ، وقديماً كان منهم على سبيل المثال والمزاح: «الحسام أفوش، المؤذن بالجامع الأموي في القرن السابع للهجرة»: «حيث عُمل له قبقاب عالٍ جداً ليرفعه عن الأرض، كان يطلع به جرياً على سلالم كلِّ مئذنةٍ واعتادَ ذلك» (1)4 وفي قصص التاريخ أغرب من ذلك ما حُكي عن أحد لاعبي السيرك الذي حضر لدمشق من حلب 924/1518م حيث: «نصبَ في بركة القرع بالحسينية صواري وحبالاً وكان يوم جمعة، فلما صعد على الحبال، أظهر فنوناً غريبة منها أنه مشى على الحبال وفي رجله قبقاب وتحته ألواح الصابون» (2)5 .
اعتاد الناس لبس القبقاب قديماً فكانوا يصعدون الجبال أو يسافرون به مشياً، وبهذا السياق حكى "أبو شامة" عن الشيخ أبي عمر شيخ الصالحية والمقادسة، والمتوفى 607/1210م : «أنَّه كان يصعد يوم الاثنين والخميس إلى مغارة الدم «في جبل قاسيون» ماشياً بالقبقاب فيُصلِّي فيها ما بين الظهر والعصر» (3)6
وأيضاً ما قيل عن الشيخ أبو العباس أحمد بن قدامة المقدسي المدفون في سفح قاسيون 558/1163م أنه: «كان صاحب كرامات، وأنه مشى على نهر يزيد بالقبقاب ولم يبتل) (4)7