وقد أشار الإمام الخميني (ره) في كلمته بمناسبة النصف من شعبان إلى هذه المسألة المهمة حسب تعبيره قائلاً:
«إنّ قضية غيبة صاحب العصر، قضية مهمة توقفنا على العديد من المسائل. منها أنّ الله تبارك وتعالى قد ادّخر المهدي الموعود (سلام الله عليه) للبشرية من أجل تحقيق هذا العمل العظيم وهو تطبيق العدالة بمعناها الحقيقي في جميع المعمورة، تلك التي لم يسبقه أحد لها. فقد جاء الأنبياء من أجل تطبيق العدالة وبغيتهم هي تطبيق العدالة في جميع العالم ولكن لم يوفقوا لذلك. حتى الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي جاء لإصلاح البشر ولتطبيق العدالة ولتربية الناس، لم يوفق لذلك في زمانه... فلم تتوافر الإمكانية لأيّ أحد من الأولين والآخرين، وقد توافرت للمهدي الموعود فقط إمكانية نشر العدالة في جميع العالم، حيث ادّخره الله تبارك وتعالى لتحقيق ما لم يوفق إليه الأنبياء مع أنهم جاؤوا لذلك، ولتطبيق ما كان يرمي إليه جميع الأنبياء وجميع الأولياء ولكن الأسباب حالت دون ذلك.»[1]
ويقول الإمام الخامنئي أيضاً:
«إذا لم تكن المهدوية كان معنى ذلك أن كل مساعي الأنبياء وكل الدعوات وكل البعثات وكل هذه الجهود المضنية لا فائدة منها ولا أثر لها. إذن قضية المهدوية قضية أصلية رئيسية ومن أكثر المعارف الإلهية أهمية وأصالة. لذلك يوجد في كل الأديان الإلهية تقريباً - في حدود اطلاعنا طبعاً - شيء لبابه ومعناه الحقيقي هو نفس هذه المهدوية.»[2]
ومن هنا فإن من الإيرادات الموجّهة لديننا بل ولكافة الأديان الإلهية من دون النظر إلى المجتمع المهدوي، هي أنّ دينكم يحمل بين دفتيه تعاليم قيمة للغاية ولكن لا يمكن إدارة حكومة من خلاله؛ كما أنّ أولياء الله أيضاً لم يتمكّنوا من ذلك.
يُنقل أنّ في عصر أحد ملوك الصفوية، عُقد مجلس بحضور الحاكم. فقام أحد الحاضرين بالحديث عن عدل علي (ع) كثيراً لعلمه بادّعاء ملوك الصفوية حبّهم لعلي بن أبي طالب (ع). فعرف الحاكم أنه يتحدّث بتلميح وتهكّم. وبعد انتهاء المجلس وذهاب الحاضرين، أشار إليه بالبقاء وقال له: «ما لك تتكلّم بهذا المقدار عن عدل علي (ع)؟»
فأجابه أخيراً وقال: «كانت لديّ أرض وأخذها رجالك مني بالقوة ولا أجد من أتظلّم إليه.» فقال الحاكم: «قل لي من الذي اغتصب أرضك حتى أعيدها إليك، ولكن لماذا كل هذا الكلام عن عدل علي (ع)؟»
قال الرجل للحاكم: «إنك تدّعي حب علي (ع)، وعليك أن تتصرف مثله بعدالة.» فأجابه الحاكم: «صحيح بأننا نحبّ علياً، غير أنّ حكومة علي (ع) لم تدم أكثر من خمسة أعوام لعدالته. وأنا أريد أن تدوم حكومتي أكثر.» يريد أن يقول: لا يمكن الحكم من خلال عدل علي (ع) ونهجه.
لماذا يتّهم البعض الدين باللاواقعية؟
وهذه هي عقيدة الكثير من المتنصّلين عن الدين الذين يعتبرون الدين أمراً لطيفاً ولا يُستفاد منه سوى لتلطيف روح الإنسان؛ وما زاد عن ذلك فلا للدين أمر محتمل ولا للمجتمع ممكن التطبيق. ومن هنا يصفون الدين باللاواقعية معتبرين أنه مجرد أشعار وحكايات يتحدث بعبارات مبالغ فيها عن القمم والأساطير البعيدة المنال ويبيّن أشدّ المواعظ مبالغة وغلواً ليترك ولو أثراً إيجابياً قليلاً في نفوس المخاطبين.
علماً بأنّ هذه الرؤية شائعة إلى حدّ ما في أوساط الكثير من المؤمنين والمتدينين. أي أنّ عدداً من المؤمنين قد ابتلوا بنوع من العلمانية بدرجات مختلفة، وقد تظهر هذه الرؤية في مواقفهم السياسية. ولا يعبّرون عن ذلك باللادينية بل يعتبرون رؤيتهم هذه مزيجاً بين الواقعية والمبدئية.
الدين كله ممكن التطبيق ويتحقق في المجتمع المهدوي
فلو سأل سائل: «لو كان دينكم برنامجاً للحياة، وممكن التطبيق، فلماذا لم تتوافر إمكانية تطبيقه على يد النبي (ص) وأوصيائه المعصومين (ع)؟»، لا سبيل لنا سوى أن نعده بالمستقل إلى جانب ذكر الموانع الموجودة في السابق بأدلة منطقية، ونقول له بأنّ هذا الدين بصفته أفضل برنامج للحياة في هذه الدنيا، ممكن التطبيق وسيتضح ذلك عبر ظهور المجتمع المهدوي العالمي في المستقبل.
ولا ينبغي أن نفسّر الحسنات والفضائل التي وصّى بها الدين بشكل يؤول إلى اتصافها باللاواقعية وإلى ظهور هذا التصور بأن المجتمع لا يمكن إدارته من خلال التعاليم الدينية. وعلى أيّ حال، فمن ساقه النظر إلى تاريخ أهل البيت (ع) الزاخر بالمظلومية وإلى جميع المظالم الحالة بالبشرية باسم الدين، إلى هذه الرؤية وهي أن التعاليم الدينية خيالية لا يمكن تحققها، فالجواب الوحيد له هو المجتمع المهدوي.
لماذا كلّ هذا التأكيد في ديننا عن الموعود؟
ولهذا فإنّ الاعتقاد بالمهدوية يمثلّ عاملاً مهماً في أن لا يقع أساس المعتقدات الدينية عرضة للتشكيك والتساؤل. ومن هنا نجد النصوص الدينية تؤكّد بشكل كبير على قضية الموعود، فقد خصص النبي الأكرم (ص) جزءاً كبيراً من كلامه في خطبة الغدير بالحديث عن الموعود[3]، لئلا يُتّهم الدين بأنه غير قابل للتطبيق.
يتبع إن شاء الله...
[1]. صحیفة الإمام، ج12، ص480.
[2]. كلمته في الأساتذة والخريجين المتخصصين في المهدوية، 09/07/2011.
[3]. يروي الإمام باقر (ع) القصة والخطبة الكاملة لرسول الله (ص) في غدیر خم. فقد أشار النبي في مقاطع مختلفة من هذه الخطبة إلى الإمام المهدي (ع) وصفاته ورسالته بالتفصيل قائلاً: «مَعَاشِرَ النَّاسِ! آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها. مَعَاشِرَ النَّاسِ! النُّورُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ مَسْلُوكٌ، ثُمَّ فِي عَلِيٍّ ثُمَّ فِي النَّسْلِ مِنْهُ إِلَى الْقَائِمِ الْمَهْدِيِّ الَّذِي يَأْخُذُ بِحَقِّ اللَّهِ وَبِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَنَا. لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَنَا حُجَّةً عَلَى الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُعَانِدِينَ وَالْمُخَالِفِينَ وَالْخَائِنِينَ وَالْآثِمِينَ وَالظَّالِمِينَ وَالْغَاصِبِينَ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ ... مَعَاشِرَ النَّاسِ! أَلَا وَإِنِّي مُنْذِرٌ وَعَلِيٌّ هَادٍ. مَعَاشِرَ النَّاسِ! إِنِّي نَبِيٌّ وَعَلِيٌّ وَصِيِّي. أَلَا إِنَّ خَاتَمَ الْأَئِمَّةِ مِنَّا الْقَائِمُ الْمَهْدِيُّ. أَلَا إِنَّهُ الظَّاهِرُ عَلَى الدِّينِ. أَلَا إِنَّهُ الْمُنْتَقِمُ مِنَ الظَّالِمِينَ. أَلَا إِنَّهُ فَاتِحُ الْحُصُونِ وَهَادِمُهَا. أَلَا إِنَّهُ قَاتِلُ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. أَلَا إِنَّهُ الْمُدْرِكُ بِكُلِّ ثَارٍ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أَلَا إِنَّهُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ. أَلَا إِنَّهُ الْغَرَّافُ مِنْ بَحْرٍ عَمِيقٍ. أَلَا إِنَّهُ قَسِيمُ كُلِّ ذِي فَضْلٍ بِفَضْلِهِ وَكُلِّ ذِي جَهْلٍ بِجَهْلِهِ. أَلَا إِنَّهُ خِيَرَةُ اللَّهِ وَاللَّهُ مُخْتَارُهُ. أَلَا إِنَّهُ وَارِثُ كُلِّ عِلْمٍ وَالْمُحِيطُ بِهِ. أَلَا إِنَّهُ الْمُخْبِرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُنَبِّهُ بِأَمْرِ إِيمَانِهِ، أَلَا إِنَّهُ الرَّشِيدُ السَّدِيدُ. أَلَا إِنَّهُ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ. أَلَا إِنَّهُ قَدْ بَشَّرَ بِهِ مَنْ سَلَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ. أَلَا إِنَّهُ الْبَاقِي حُجَّةً وَلَا حُجَّةَ بَعْدَهُ وَلَا حَقَّ إِلَّا مَعَهُ وَلَا نُورَ إِلَّا عِنْدَهُ. أَلَا إِنَّهُ لَا غَالِبَ لَهُ وَلَا مَنْصُورَ عَلَيْهِ. أَلَا وَإِنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَحَكَمُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمِينُهُ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ. مَعَاشِرَ النَّاسِ! قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ وَأَفْهَمْتُكُمْ وَهَذَا عَلِيٌّ يُفْهِمُكُمْ بَعْدِي.» الاحتجاج للطبرسي، ج1، ص61-63. وكذلك التحصین للسید بن طاووس، ص585-586.