حوار مع جاري المُنتِّت
*********************************
( مع الاعتذار لعادل أبوالفتوح المتجلّي)
عبدالجواد خفاجى
(1)
لي جار مُنَتِّت (عاشق للنت) مغرم دنف ، شاب في الخامسة والعشرين .. يقول إنه صاحب صولات وجولات في عالم النت، ويدخل شات كثيراً مع شخصيات من كل البلدان، ذكور وإناث، وله نوادر وطرائف يحكيها، ومواقف ومقالب يرويها، ومفارقات ومناوشات يزجيها، ويقول أيضاً ـ والعهدة على الراوي ـ إنه أديب كبير، يكتب كل شيء ( الله أعلم بكل شيء) .. وله إميل ـ من ضمن الإميلات الكثيرة التي يمتلكهاـ يبدأ بكلمة الأديب وإن كانت بلغة إفرنجية، ويقول إنه عضو في منتديات كثيرة تفوق عدد شعر رأسه، والغريب أنه يحفظ أسماءها اسماً اسماً، ويحفظ أسماء أعضائها عضواً عضواَ .. ويقول إنه يشترك في المنتدى الواحد بأكثر من خمسة أسماء وبأكثر من خمسة إميلات مختلفة، له أسماء عديدة يدخل بها المنتديات، بعضها أسماء ذكور، وبعضها أسماء إناث، ذكر لي أنه مشترك في أحد المنتديات بالأسماء: المتغطرس، و محمود الدكروني ، وهيفاء إبراهيم ، وريم ، وسيد أبو محارب ، ومجاهد في سبيل الله، والعجل.، لكن الذي أعرفه أنا أن اسمه في الأوراق الثبوتية الرسمية هو " عادل أبوالفتوح المتجلّي".
وعن أسمائه الوهمية يقول إن الاسم الأخير ( العجل) يلعب دور الشخصية المشاكسة التي تهاجم لأجل الهجوم .. ينطح .. يكتب تعليقات قاسية على قصيدة " هيفاء إبراهيم" فتغضب ريم ؛ فترد عليه ، وينبري مجاهد في سبيل الله للدفاع عن ريم و هيفاء، فيغضب محمود الدكروني، ويهاجم كلا من مجاهد وهيفاء ، فيتحرك سيد أبو محارب بثقله كله ويدافع عن القصيدة ويهجم على محمود الدكروني، فتتدخل هيفاء مرة أخرى، حتى يزهق المتغطرس ويضيق صدره فيتدخل منفجراً في الجميع .. وهكذا إلى أن يغضب رئيس المنتدى فيتدخل محذراً الجماعة المتناطحة.
كل هذه التحركات والمعارك والخطط الحربية يحركها شخص واحد هو صاحب القصيدة، حتى إنه يقول إن قصيدته دائما في مقدمة المنتدى، ما أن تنزل إلى أسفل حتى تدور المعركة حولها، ومن ثم تصعد.
إي هراء هذا ؟! .. سألت نفسي هامساً .. لكن صوتي علا بعدها .. وكان لا بد أن يعلو : ـ أرني إحدى قصائدك أو مقطوعاتك أو شذراتك أو أي شيء .. أرني .. فسحبني من يدي ، وأجلسني أمام جهاز الكمبيوتر، ودخل بي إلى عالم النت .. تحركت أصابعه فوق الماوس عدة تحركات سريعة ، وقال لي : اقرأ.
والحقيقة قرأت .. وما كان لي غير أن أقرأ ، وأنا الذي طالبته أن يُقرئني ما كتب .. تركني وذهب ليحضر كوبا من الشاي ، وأنا بدوري أشعلت سيجارة، وانطلق دخانها في أفق الحجرة، وتعبق المكان برائحة التبغ، ولف الدخان كشبورة فوق رأسي، وقرأت قصيدته منشورة في أحد المنتديات:
قصيدة ( عتاب ) للشاعر : المتغطرس
يقول فيها :
أنا غلطان
لا .. أنا لست غلطان
أنا كنت صادق لما حبيتك
وأنت التي خنتيني
يا بنت الناس
وأنا عارف
وعارف إن الخيانة طبع في الإناث
لكن
الصبر طبيب
وأنا صابر
ويا ريت تيجي يا بنت الناس
لأن أمي
طابخة اليوم قلقاس.
الله .. ما أجمل هذا الطبيخ !! .. ما شاء الله على الشباب وعلى الشِّعر والشعير، وسلام على النت والمتنتتين ، وعلى الزمن الجميل.. الله الله .. ما أروعك من شاعر .. لكن : كيف تخونك بنت الـ.... ؟!
المهم تركنا (أنا وهو) الجهاز والقصيدة والمنتدى وانهمكنا في التدخين وشرب الشاي وحكاية بنت الناس التي خانته .. وظل يحكي ويحكي .. ولأني حقيقة كنت راغباً في الانصراف، نصحته أن يوفر طاقته التي يستهلكها في الحكي .. يوفرها للكتابة والشعر، ويعبر عن التجربة كلها في ديوان كامل ينشره في أي منتدى يشاء.
تلك هي المرة الأولى التي جلست معه فيها، وكانت في بيتهم بدعوة من والده على الغداء.
لكن هذه المرة هو جاءني في بيتي .. وجلس معي أمام الجهاز موقَّراً، والحقيقة كنت منهمكا في ضبط ومراجعة ما انتهيت من كتابته مؤخراً .. قمت وأحضرت له العصير، ورحبت به وودت أن أسأله عن مشروعه الشعري الخطير ، وهل أنجز ديوانه الأخير .. لكنه حقيقة هو الذي بدأ بالسؤال، ومن ثم لم تكن أمامي فرصة غير أن أجيب في كل الأحوال.
سألني: ـ لماذا لا تقتحم عالم النت؟
فأجبت بغير اكتراث: ـ مزاج.
فسأل مستغرباً : ـ مزاج؟!
فقلت: نعم
قال: النت هو المزاج نفسه .
ثم أردف : ـ النت وطن.
ـ النت وطن ؟!!
فاجأتني الجملة التي انزلقت بها شفتاه كرمية بغير رامٍ .. شعرت كأن لها معناً كبيراً، أو لكأنها الحقيقة نفسها.
وعدت أسأل:
ـ النت وطن ؟
أجاب : ـ نعم .. النت وطن من لا وطن له.
تأملت دلالة العبارة .. وداورتها في رأسي ، ورشفة رشفة شاي من كأسي ، وأدركت أن فيها معناً حقيقياً كبيراً، وإن كانت تبدو كالألغاز، غير ما تحمله من مجاز.
ووجدتني أهتف إعجابا : ـ الله
وسألته: ـ من أين تحصلت على هذه العبارة؟
فقال: ـ واحد قالها له على الشات.
فقلت : ـ الآن فقط عرفت لماذا يستوطن أبناء العروبة النت؟
لست أدرى إن كان قد فهم ما قلت أم لا .. وجدته يسألني بعدها:
ـ هل جربت المنتيدات الأدبية؟
فقلت : ـ نعم .. ولكنني أقلعت
فقال لي : أنت شخص غريب
قلت : ـ يا بني .. أنت لا تستطيع أن تكيِّف حالتي .. أنا لست غريباً ولا شيء .. إنها أعراض الشيخوخة.
فأقسم أنني شخص غريب .
فقلت راجياً : ـ يا بني أنا في سن والدك .. عيب عليك .. أرجوك احترم من هم أكبر منك سناً.
فصمت قليلا ثم اعتذر. وعاد يسأل:
ـ لماذا أقلعت عنها.
قلت : ـ لأن فيها ما يغيظ
ـ فقال وما الذي يغيظك فيها ؟
قلت : ـ الكثير.
فقال: ـ اعطني مثالا واحداً يغيظك في المنتديات الأدبية.
الحقيقة كان الولد لحوحاً، وجريئاً، وكان لابد أن أتكلم ، وافتح صدري وأبوح، أو أصمت وأنوح، فأشعلت سيجارة ، وشحذت في رأسي العبارة، واستأنفت القول:
ـ أول ما يغيظني في المنتديات الأدبية الأسماء غير الحقيقية ، أنا لا استسيغ التعامل أو التخاطب أو التواصل مع شخص يُنكر عليَّ اسمه ، صحيح أن بعض من يخفون أسماءهم الحقيقية من الإناث لهم أعذارهم الوجيهة أحياناً ، ولكن كثير من الأعذار تغيظ، أو تحمل على الغيظ رغم وجاهتها، ربما لأنها تتعارض مع ما اعتاد المرء عليه.. لقد اعتدنا التعامل مع الأشخاص بأسمائهم أو بأسمائهن الحقيقية .. هذا ما اعتدنا عليه .. ربما لذلك إخفاء المرء اسمه الحقيقي يغيظ أحيانا ، ولموضوع الأسماء قصة طريفة حدثت معي أرويها بهذه المناسبة ، بغير خجل أو مواربة:
مرة سافرت إلى دولة عربية ـ أيام الشباب ـ وأقمت في فندق من فنادقها لمدة شهر تقريبا .. المهم منذ اليوم الأول لإقامتي في الفندق صادفت رجلا ـ لا أعرفه ـ ولكني عرفت أنه من محافظة قريبة من محافظتي ، ولهجته قريبة من لهجتي ؛ فتقربت منه بغرض الحديث معه؛ دفعا للملل ، سألته لماذا تقيم في هذا الفندق؟ فأجاب : الحقيقة أنا هنا في انتظار "نخلة" القادم من مصر بعد أسبوع وسنسافر كلانا إلى دولة عربية أخرى .. فسألت : ـ ومن "نخلة" هذا حتى تنتظره ؟ قال: هو صاحبي، وقد أرسلت إليه ليحضر فاستجاب ، وأنا في انتظاره في هذا الفندق؟ فسألت: لابد أن صاحبك "نخلة" له صفات عظيمة مريحة ، ولا شك أنكما مخلصان لبعضكما ؟ فأجاب : نعم .. قلت : حدثني عن صديقك نخلة.. فقال: أووووه .. يا ليتك تعرف "نخلة" .. إنه رجل لا يشبهه رجل.. شهم شجاع كريم ذو مروءة مخلص .. يرمي نفسه في النار من أجلك .. لا يهمه خطب، ولا يثنيه بأس، هو ................ إلخ .
الحقيقة شردت رأسي بعيداً عن حديث الرجل، وطارت في أجواء عالية فسيحة وراحت تتخيل صورة " نخلة" وهيأته وسمته ... وتخيلته رجلاً في هيبة "أبي زيد الهلالي" وهيأته .. طويل القامة، قوي البنية، واسع الخطو، متين البدن، عريض المنكبين، واسع الصدر، غير أني تخيلته جهوري الصوت، ناصع البياض، عريض الجبهة، له مهابة وجلال إذا أقبل أو أدبر، تهتز الأرض من تحته إذا مشي أو تبختر .. ولأنني ملطوش (مجنون) لغة " لعبتْ مفردة "نخلة" برأسي ـ بما تحمله من دلالات الطول والسموق والشموخ والضخامة والمتانة ـ لعبت المفردة برأسي .. ورسمت صورة ليس بعدها صورة لأخينا الغائب "نخلة".
المهم .. مرت الأيام ، وفي ذات فجر، وبينما أنا واقف أمام الفندق أتنسم أنفاس الصباح الجديد ، شارداً في ملكوت الله الفسيح، سابحاً في جمال الطبيعة ، أعاين بياض الأفق، وهو يزيح الستارة الرمادية عن وجه السماء الجميل .. أقف في هدأة وسكون مستمتعاً بصمتي وهدوء المكان، وإذا ـ فجأة ـ بشخص يحط أمامي .. من أين أتي ، وكيف أتى، ومتى أتى ؟؟!! .. أصابتني رعدة الخوف، وقد فاجأني بحلوله .. عاينته بتأمل ـ رغم ما بي من رجفة: قذم أسود في لون الغراب، أمهط ( لا لحية ولا شارب له ) ضيق العينين والجبهة، ضامر الخدين، نحيل البدن، يضع على رأسه عمامة أكل الدهر عليها وشرب.. يرتدي ثياباً رثة، حاملاً في إحدى يديه حقيبة سفر جرباء، عليها تراب مثل تراب القبر، يشرئب بعنقٍ رفيع إلى أعلى ، مثبتاً نظراته في وجهي ببلادة وغباء شديدين.. سألته: من أنت؟ فأجابني بصوت رفيع لا ينم عن حياة: أنا "نخلة" !!! .. حقيقة ـ من يومها ـ كرهت التعامل مع الأشخاص بغير أسمائهم ، أو التعامل مع الأسماء بغير أصحابها.
مرة أخرى، وعندما كنت طالبا بالجامعة بالصعيد، دعاني أحد الطلبة من أقاربي الأثرياء الذين يدرسون بجامعة القاهرة .. دعاني لزيارة القاهرة والإقامة عنده في شقته، كي أتعرف على القاهرة والحياة فيها ، ولأنني كنت راغباً في ذلك سافرت إليه، وأقمت عنده في شقته قرابة الشهر.
وفي ذات صباح، وبعدما انصرف قريبي إلى الجامعة وجدت نفسي وحيداً في الشقة، وقد استبدت بي الغربة والشُّقة، وكنت قد لمحت هاتفاً في الركن، كامشاً وحيداَ كفرخٍ في كُنّ،، وهذه الخدمة لم تكن في ذلك الوقت متاحة لنا في صعيد مصر.. المهم تذكرت على الفور صديقتى " روز" .. فتاة إسكندرانية تعرفت عليها في فترة المراهقة عن طريق المراسلة .. وجدت عنوانها في إحدى المجلات في ركن التعارف، فراسلتها، وراسلتني، وكان من ضمن ما زودتني به من معلومات عنها، رقم هاتفها، فقلت أهاتفها .. وكانت المرة الأولى لي في حياتي استخدم فيها هاتفاً ، طلبت الرقم بتوجس ومهابة ورعشة، ووضعت السماعة ـ مثل الناس ـ فوق أذني ، وانتظرت.
الحقيقة أتاني صوت ناعم لينٌ هينٌ كالهمس، ربما لن أسمع مثله في غدٍ ، مثلما أني ما سمعت مثله في الأمس .. رقيق عذب حلو ينم عن وداعة ونعومة، وله نبرة تشف عن نداوة وأنوثة .. قل فيه ما تشاء من الأوصاف ، وأطلب من رب العباد الألطاف .. وتخيل ما شئت عن صاحبة هذا الصوت في رقتها أو روعتها.. يا الله .. معقول هذا الصوت السحري الندي الرقيق العذب يصدر من بشر، حتى لو كانت أنثي ؟!.
ـ ألو .. مين معاي ..
ـ أنا عبدالجواد
ـ مش معقول ... مفاجأة .. أنا "روز" .. أين أنت ؟
ـ في القاهرة .
ـ سأحضر إليك .. يوم الخميس .. إنها فرصة نادرة ، أنا لي خال يقيم بالقاهرة .. سأحضر عند خالي ، وسأقابلك حتى لو في أنصاف الليالي.. اعطني العنوان وغني، ورقم الهاتف كي يطمئن قلبي، واسترسلتُ معها في حديث عذب طويل طويل ، أطول من دجلة والفرات والنيل، منسابًا كانسياب العواطف، طاهراً كأنفاس الربى في يومٍ غير عاصف، تختلط فيه الأبعاد والأزمان، بريئاً كأحلام الأطفال والغلمان، مزركشاً بالطرفة والبسمة الضالعة، موشى بالأنس والضحكة المائعة.
أعطيتها العنوان ورقم الهاتف، وصرت أعد الأيام والساعات والدقائق، حالماً بيوم الخميس ولحظات اللقاء النفيس.. صرت من السبت إلى الخميس لا أنام إلا يسيرا، ولا أرى في حياتي عسيرا.. وأنا الحالم برؤية "روز"، .. سأدخل موسم التفاح واللوز .. يا الله .. كيف سيكون اللقاء.. صباحاً أم مساء؟ .. وصرت أهاتفها كل يوم نصف دسته ، مرة قبل الأكل ومرة بعده !.
المهم أتى الخميس، يا الله .. ما أحلاه من خميس ، ورن الهاتف البشير، ورقص القلب اللبون الأسير.
قالت لي ـ عبر الهاتف ـ انتظرني أمام " مجمع التحرير" وامسك في يدك منديلا أبيض بإحدى يديك، وضع الأخرى في جيبك، وضع على عينيك نظارة،وضع فوق رأسك شارة، وقِفْ أمام الباب الأول القريب من شارع " القصر العيني" .... يا إلهي .. أية شطارة تلك وأي ذكاء؟! .. لا يحارـ حقيقة ـ في الأمر من كان من جنس النساء .. ظللت واقفاً، وقد فعلتُ مثلما أمرتني .. وقفتُ كالأصنام فما تعبتُ ولا كلَّ متني.. وبينما أنا واقف في شرود أطالع الوجوه والمركبات تارة، وتارة أخرى أتخيل " روز" وما يمكن أن يكون من أول العبارة .. "روز" فتاة إسكندرانية ساحلية، حلوة لا مثلها حلبية ولا بابلية .. نقل خيالي صورتها وهى تسبح في مياه البحر الأبيض المتوسط ، وهى خارجة من الماء بالمايوه البكيني المتزفلط ( الأملس)، ينسدل شعرها الحريري الناعم ، فيخبئ ما لديها من نواعم أو براعم .. تنفض عنه رذاذ الماء، وأنا لا أرض تقلني أو سماء.. تتهادى كالفراشة حتى تحط على رمال الشاطئ ، فينبت فوق الرمل عشبٌ وتخضَرُّ تحت أرجلها المواطئ.. يغار البحر من نهديها المتراقصين ، ويلعن أمواجه المتكاسلة، وأنا غارق في دهشتي الماثلة .. الله الله يا "روز" يا شقيقة الورد والرياحين الماتعة، أيتها الهدباء الهيفاء الناصعة.
مرت ساعة تقريبا وأنا على هذه الحال حتى فوجئت بمن يمسك بيدي من خلف .. فاستدرت والتفتُّ في لطف.. سألت بلهفة : مين ؟ .. قالت : روز .. ويا ليتها لم تقلها، ويا ليتها لم تحضر.
صدمة .. حقيقة كانت صدمة : فتاة داكنة يابسة، وسحنة ـ رغم البشاشة ـ عابسة.. قصيرة نحيلة ضامرة ، ولها شعر أكرت، قصير مثل شعر المكنسة الليف عنما يتنحف .. تبرز أسنانها خارج شفتيها كمصاص الدماء، لها عينان جاحظتان مخيفتان كخرزتين بغير بريق، وشفتين ضامرتين متكلستين مثل جلد المعيز.. سألت نفسي أمن فصيل النساء هذي أم من فصيل الخراتيت؟.
سألتها: ـ هل أنت متأكدة أنك "روز" ؟
قالت : ـ نعم .. أنا روز..
ـ إذن لقد خدعني التليفون !
ـ ماذا؟
ـ الله يقطع التليفونات ، واللى بيتكلموا في التليفونات ، وهيئة التليفونات، ووزارة التليفونات..
ـ ماذا تقول؟!
ـ لالا .. إنني أناجي ربي .
رفعت رأسي إلى السماء طويلاً.. عاتبت ربي قليلاً .. استغفرت ربي ، وهممت بالانصراف، طالباً من الله الألطاف.
ـ ها نروح على فين؟
ـ ماذا تقترحين؟
ـ حديقة الأسماك.. في الزمالك.
ـ يا سيدتي أنا ولد عنده شعرة( مس من جنون) .. حالة قديمة تنتابني فجأة كل يوم ساعة، وفيما يبدو أنها أتتني الساعة .
تركتها أمام مجمع التحرير ومضيت إلى حال سبيلي، لاعناً نفسي والزمان وكل بنات جيلي.
موقف من حياتي علمني ألا استسلم كثيراً لخيالاتي وقبل هذا ألا أصدق الأسماء، والأصوات.
في المنتديات الأدبية نعاين أسماء مستعارة لكاتبات وكتاب .. أسماء رائعة من عينة: الجنة الفيحاء، الوردة البيضاء ، سيدة الأقمار، غزال الفلا، ريعان الصبا، نسيم الضحى، أو: العنقاء، عشتار، كليوباترا ، شموخ ...... إلخ . أسماء موحية بالروعة والجمال ، أو بالعظمة والشموخ والخلود، وعلى رأي جدتي لو الأسماء بفلوس كانت الناس عاشت من غير أسماء !.
ذات منتدى لفت نظري الاسم .. الوردة البيضاء، اسم موحٍ ومعبر وله رمزيته .. فيه ما يُشَمُّ وما يُري .. يُدخلك فجأة في صفاء ونقاء البياض، وعبق وجمال الورد .. اسم يرفل بجانب عنوان القصيدة.. فقلت في نفسي لعلها أيضاً قصيدة رائعة كاسم صاحبتها .. الحقيقة صُدمت .. قصيدة مثل فساء العفاريت.. لغتها كأبعار المعيز والخراتيت.. لا صورة ولا رمز ولا إيحاء ، ولا شيء من الفن يبدو حتى على استحياء .. كتابة لا تشي حتي بأوليات التجربة الشعرية، ولا يشبهها غير أكلة حِصْرمٍ بالملوخية.
أتذكر أنني قرأت تحت العنوان ( المركب الجاهز ) للشاعرة : الوردة البيضاء
ـ حبِّ إيه ؟!
اذهب وروح
قلبي مشغول
نّفّسي اتحبس
دخان سجايرك عما عيني
خنق في صدري النَّفس
انظر في المرآة
يمكن تشوف العبط
حاول تصلِّح الغلط
واللى انكسر
وتبدي الندم
على غلطتك
يمكن أسامح
وشوقي يرجع لك
بطل سجاير
وتوب عن السرمحة.
ومشيك البطال
وارجع للشط
يمكن تلاقى المركب الجاهز.
الله .. ذكرتني هذه القصيدة بالمركب والشط ، وعشقي القديم للبحر والمراكب .. وأعادت إلي أيضاً صورة الحبيبة عندما تتغطرس وتتأمر على من يحبها وتطلب منه أن يكف عن السجائر والسرمحة .. الحقيقة حاولت أن أعلق على قصيدة الوردة البيضاء بكلمتين من ذلك الكلام الذي يثلج الصدر ، ولكن لست أدري لماذا هرب مني الكلام ، وانهمكت في مطالعة التعليقات أسفل القصيدة .. حقيقة كانت تعليقات بالعشرات .. لا أستطيع تذكرها بالطبع ، لكني أتذكر منها :
تعليق : أفلاطون المحبة :
قصيدة جميلة يسلموووووووووووووووووو
*********
تعليق: مجنون الورد:
الشاعرة الرائعة جداً جداً : الوردة البيضا
قصيدتك أيضاً كالوردة البيضا
تحياتي
يا ريت تزيدينا من ها القصائد أختى
*********
تعليق : أميرة الشعر:
أسجل مروري وسأعود
مودة
**************
تعليق: أخت القمر:
قصيدة رائعة كالعادة
أنا كل ما أقرا لك قصيدة أجد عنك الجديد
أحييك أيتها المتجددة دائما
********
تعليق: الشهاب الثاقب:
رائعة على طووووووووووووووووول
وعلى عررررررررررررررررررررض
شكرررررررررررررررراً
**********
تعليق: سهران لوحدي:
شو ها الغيبة
أسبوعين ما نقرا ليكي شى
لا والله هادا كتير
القصيدة جميلة جدا جداً.. كلام حلو كتير كتير .. بس في كسرات بالوزن ..
************
الحقيقة عاتبت نفسي كثيرا .. كيف يا عبدالجواد تعيش نعجاً أو حميرا، وتدعي بأنك قد أكلت لحماً ذات يومِ أو فطيرا ؟! ، وقلت : لا .. أنت يا عبدالجواد واحد من عجول لا واحد من عدول.. كيف لا تعرف شاعرة بديعة هي كالربيع من بين الفصول، فلتذهب إلى ملفها الشخصي، واقرأ عن سيرتها ما تشاء في ورع الكهول، فذهبت كي أدفع عن النفس جهلاً ، ولم أذهب من باب الفضول.. الحقيقة ذهبت ، وقرأت :
الوردة البيضاء
شاعرة وناقدة
الجنس : أنثى
الموطن: تسكن في خميلة
الميلاد : لم تولد بعد
معلومات إضافية : غير معروف
الدعوات : لا توجد
الوردة البيضاء غير منتسب لأي مجموعة عامة.
************
بالله يا جاري العزيز : هل يرضيك هذا ؟ .. لو أن هؤلاء أدباء حقيقيين لماذا ينكرون أسماءهم وبلدانهم ؟ أوليس الأديب يتمني أن يروج اسمه بين الناس، ويقرأ الناس اسمه فوق أغلفة كتبه ومؤلفاته ؟ .. أوليس التاريخ العربي الأدبي مليء بأسماء مؤنثة لنساء دخلن التاريخ بأسمائهن الحقيقية؟ .. ليس التاريخ الأدبي فقط بل التاريخ العربي على عمومه مليء بأسماء مؤنثة لصحابيات جليلات وشاعرات وفقيهات .. ألم تسمع ؟ .. ألم تقرأ ؟.
من ناحية أخرى .. ليكن للإناث بعض الأعذار التي قد نقبلها فما هي أعذار الذكور؟ .. ما هي أعذار أفلاطون المحبة ، ومجنون الورد و سهران لوحدي والشهاب الثاقب ، والمتغطرس ، وأبو دراع وأبو القردان ؟ .. ألست معي ؟.
كنت أتحدث وأرغي وأزبد، وكان جاري صامتاً كصمت الجَماد .. يحدق في وجهي ببلاهة تشككني في نفسي، وفجأة خرج عن صمته، وانفرجت أساريره قليلا ، وبدأ يضحك ، ويضحك ، ويقرقر كالدجاج، وأنا أنظر إليه في لجاج ... ثم فجأة كتم ضحكه وقرقرته وصمت لبرهة بدا فيها منهمكا في التحديق في وجهي .. ثم قال:
ـ أنت شخص غريب.
والحقيقة ما كان لي أن استمر في حوار، مع جار قد قرر في شخصي هذا القرار، وإن كنت قد غضبت، فقد تململت في جلستي وقلت:
ـ ها أنت تقولها للمرة الثالثة .. أما قلت لك إنها أعراض الشيخوخة.. دعني بالله عليك في حالي ، وقاك الله مفاسد الشيوخ أمثالي، حتى لا تؤل ـ مع الأيام ـ مآلي ، وحماك من الزهايمر وتيبس المفاصل وضعف البصر، والإسقربوط والبري بري وسائر الأمراض.. آمين آمين يا رب العالمين.
ذهب جاري غاضبا ومضي كلمح بالبصر ، وهو يحدجني بنظرات كالشرر، فتحت له الباب، ففر من أمامي كالغراب.
قلت له : سلاماً يا جار الأمان.. فقال في لحظة الطيران : لا سلام ولا كلام.
***********************
(وإلى اللقاء مع حلقة قادمة من حلقات : حوار مع جاري المتنتت)
للروائي والناقد الادبي والقاص والشاعر والأستاذ بمادة اللغة العربية
عبد الجواد خفاجي
من القطر المصري الشقيق