لا تفتقر العدالة إلى تعريف واحد مقبول فحسب، بل إنّ مصاديقها هي الأُخرى مختلفة. العدالة، على صعيدي السياسة والحقوق، إنّما تعني مساواة الجميع أمام القانون. أمّا من الناحية الإقتصادية والإجتماعية فالمراد بها التكافؤ في الإمكانات والقدرات المادية بين الأفراد الذين يتمتعون بالحقوق نفسها.
ومن البداهة ألاّ يكون المقصود بالعدالة، في التوزيع، تقسيم الإمكانات بصورة متساوية بين الأفراد كافَّة. فالفرض المفروغ منه هو عدم تكافؤ الأفراد وتساويهم في القضايا الإجتماعية والإستعدادات والقابليات. وطالما كان الإستحقاق هو الملاك الأصلي للعدالة، فمن البديهي أن تبرز قضية عدم المساواة والتكافؤ. فالعدالة، في التوزيع، على أساس المبدأ الإقتصادي القائل بمحدودية المصادر والإمكانات، إنّما تدعو لظهور العلاقة الطردية بين إستعداد كل فرد وقابليته، ومدى إستحقاقه أو إستثماره لهذه المصادر والإمكانات. وعليه فإقرار هذا التعريف للعدالة سيستلزم حالة عدم المساواة والتكافؤ التي ستسود المجتمع.
العلاّمة المرحوم مرتضى المطهري يعتقد بأنّ "العدالة، في المدرسة الإسلامية، تتفرع إلى فرعين هما: العدل الإلهي والعدل الإنساني. والعدل الإلهي بدوره يقسم إلى العدل التشريعي والعدل التكويني. أمّا العدل الإنساني فهو الآخر يشمل العدل الفردي والعدل الإجتماعي".
ويشير المطهري في تقسيم آخر – بهدف بيان التعاريف العملية الأكثر إستعمالاً وممارسة – إلى أربعة معانٍ، أو مجالات، لإستعمال العدل والعدالة:
أ‌) التوازن:
ويقصد به رعاية الإنسجام، أو الموازنة بين الأجزاء المؤلفة لمجموعة. وبعبارة أخرى فإنّه يعتقد بأنّ حسن ترتيب أجزاء مجموعة وإنسجامها إنّما يفيد رعاية العدالة في إنشاء تلك المجموعة وتأليفها. فمثلاً إذا أخذنا بنظر الإعتبار مجموعة تحتوي على أجزاء مختلفة، فمن اللازم أن نعد المقادير المطلوبة لكل جزء، ونقوم بتنسيق كيفية إرتباط الأجزاء بعضها مع بعضها الآخر؛ لتتمكّن تلك المجموعة من ممارسة دورها الموكل إليها وتحقيقها للهدف الذي تشكَّلت من أجله...؛ فإذا ما أراد المجتمع، على سبيل المثال، أن يحافظ على ديمومته وإستقراره وجب أن يعيش حالة التوازن، أي أن يحظى كل عنصر فيه بمقداره اللازم (لا بالمقدار المتساوي).
ب‌) المساواة وعدم التمييز:
ويقصد بها رعاية المساواة بين الأفراد الذين يتمتعون بالإستحقاقات والقابليات نفسها. وأنموذج ذلك العدالة في القضاء وإصدار الأحكام؛ فإذا قيل: إنّ القاضي الفلاني عادل، فهذا لا يعني أنه ينظر بعين واحدة إلى الأفراد والدعاوى كافّة، بل يراد به عدم تسرُّب التمييز إليه في شأن الأفراد الذين يتمتعون بشروط متساوية ولهم القضايا والدعاوى نفسها. وعليه فالعدالة لا تعني المساواة، بل تعني رعاية المساواة في المجالات التي تحكمها وتسودها الإستحقاقات المتساوية.
ج) رعاية حقوق الأفراد وإعطاء كل ذي حق حقه:
لابدّ من مراعاة هذا النَّوع من العدالة في القوانين البشرية، كما يتحتم على الأفراد إحترامها. يعتقد المطهري أنّ هذا المفهوم للعدالة إنّما يقوم – جانب – على أساس الأولويات التي يكتسبها أفراد البشر بالنسبة لبعضهم بعضاً، ثمّ ينسبه من جانب آخر لصفاتهم الذاتية التي تحتم عليهم ممارسة بعض المقررات المطلوبة في حياتهم اليومية، واجتناب بعض المحظورات على أساس انتزاع "الحسن" و"القبح"، والعدالة ليست إلا رعاية هذه الأمور.
د) رعاية الإستحقاقات في العطاء والإفاضة:
هناك معنى للعدل المرتبط بالتكوين من قبيل الإفاضة والرحمة المتوقِّفتان على الإمكان والإستعداد، وهو معنى لا نرى له من صلة ببحثنا الحاضر.
إذا أمعنّا النظر في التصنيف الذي وضعه المطهري فإنّ تعريفاته الأربعة – بإستثناء التعريف الرابع الذي ساقه في شأن العدل الإلهي الذي أخرجناه من موضوع البحث – قد ألمحت للتعريفات المشهورة التي ذكرت في هذا الخصوص، من قبيل: "إعطاء كل ذي حق حقه" و"يضع الأمور مواضعها"، غير أنّها سكتت عن تعيين مصاديق الحق وأصحاب الحق وما إلى ذلك. الأمر الذي يجعل من المتعذِّر إعتماد التعريفات آنفة الذكر، بهدف خلق صورة واضحة للعدالة الإجتماعية في المدرسة الإسلامية.
وللوقوف على مراد الإمام علي (ع) من العدالة، في شأن القضايا الإجتماعية، نرى من الأفضل التوقُّف عند الجواب الذي أورده (ع) حين سُئل عن العدل والجود، سيّما إذا أخذنا بنظر الإعتبار كونه (ع) مصدر الجود والكرم.
فقد سئل (ع): أيُّهما أفضل العدل أم الجود؟ فقال (ع): "العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما". "إنّما تنتظم شؤون الرعية وتصلح أحوالها بالعدل". أمّا الجود فهو حالة أستثنائية قد تتطلبه بعض الحالات والظروف.
وقد صرّح المطهري، في هذا الشأن، قائلاً: "لا يمكن إعتماد الجود والإيثار مبنيين رئيسيين للحياة العامّة، وسن القوانين والمقررات على أساسهما؛ ذلك لأنّ الجود والإيثار إنّما يفقدان مسمياتهما إذا ما خضعا لقوانين ومقررات نافذة المفعول. فالجود والإيثار إنّما يكتسبان صفتهما الواقعية إذا ما كان وراءهما والدافع لهما الكرم والمروءة والعفو والمحبة، بعيداً عن القانون والمقررات، والإلتزام بالتطبيق والتنفيذ. وعليه فالعدل أفضل من الجود".
القضية المهمّة الأخرى التي ينبغي التعرُّض لها والوقوف عليها، بغية إدراك مفهوم العدالة، هي المفهوم المخالف للعدل، والملموس في الحياة اليومية، ولا نعني به سوى مفهوم "الظلم". فكما أنّ الصحة تعني السلامة من المرض وعدم السقم، فإنّ وجود العدالة في المجتمع إنّما يعني إنعدام الظلم في المجتمع أيضاً. وإنّ الإعتداء على حقوق الآخرين المظلومين وهضم حقوقهم إنّما يمثل أحد المصاديق البارزة لمفهوم الظلم.
وهذا ما صرّح به الإمام علي (ع) في إطار قبوله للخلافة؛ إذ قال: "أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقارُّوا على كَظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز".
نهج الإمام (ع)، إبَّان خلافته، هو الآخر انطوى على الإصرار والتأكيد على ضرورة إصلاح مفاسد المجتمع، واسترداد كافّة الأموال التي أُخذت ظلماً وعدواناً من بيت المال. فالإمام يرى ضرورة إعادة هذه الأموال لأصحابها، وهو القائل: "والله لو وجدته قد تُزِوِّج به النساء، ومُلك به الإمام، لردَدته؛ فإنّ في العدل سعة...".
وزبدة الكلام، فإنّه (ع) يعدّ العدالة مدعاة للتنمية وإصلاح جميع شؤون الأُمّة سيّما ضعفائها. وهذا ما أكّد عليه (ع) في عهده الذي عهد به لمالك الأشتر حين ولاّه مصر قائلاً: "لن تقدَّس أُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع".
إنّ إنقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة مسحوقة وأخرى ثرية يعدّ أحد إفرازات إنعدام العدالة، خصوصاً عند توافر الأرضية المناسبة لنمو الثروة بشكل غير عادل عند بعضهم من دون بعضهم الآخر في المجتمع.
من جانب آخر، كان (ع) يشير، في غير موضع، إلى آثار العدل المادية والمعنوية الجمّة، إلى جانب نزول البركات الإلهية التي تستتبع تطبيق العدالة وبسطها في أوساط الأُمّة والمجتمع.
إنّ بسط العدل الذي يجعل الأُمّة تحب ولاتها يشكّل إحدى الوظائف المهمة التي يجب أن تنهض بها الحكومة، كما يرى ذلك الإمام علي (ع) حيث يقول: "وإنّ عين الولاة إستقامة العدل في البلاد، وظهورُ مودّة الرعية. وإنّه لا تظهر مودَّتُهم إلا بسلامَة صدورهم...".
ولا يفوتنا، هنا، أن نورد ما صرّح به الكاتب إبراهيم العسل في شأن هذه النظرة للعدالة من أنّها ستؤدي إلى أن "ينتظم سير الأعمال والوظائف، ويحصل رضى الرعية على سياسة ولاتها، فلا تتردّد في الوفاء بعهودها ومواثيقها التي قطعتها على نفسها تجاه الحكومة، فيسودها الأمن والإستقرار والدعة، الأمر الذي يجعلها تفجِّر طاقاتها لإعمار البلاد والنهوض بها قدماً".





المصدر: مجلة المنهاج