اسمه ونسبه
- هو : جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الغفاري الكناني.
- أمه : رملة بنت الوقيعة بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الغفارية الكنانية.
واختلف في اسمه على 3 أقوال، فقيل أن اسمه جندب، وقيل: السكن، وقيل: برير، وجمهور النسابة على أن اسمه: جندب. كما اختلف في اسم أبيه فقيل جنادة، وقيل عبد الله، وقيل السكن، وقيل عشرقة، والمشهور أنه: جنادة. وكذلك اختلف في اسم جده ووالد جده على عدة أقوال مع اتفاق جميع النسابين على أن نسبه ينتهي إلى بني غفار من بني ضمرة من قبيلة كنانة. ويروي ابن ماجة أنّ رسول الله قال لأبي ذَر: «يا جُنَيْدِبْ» بالتصغير[1].
ويقال أن أبا ذر كان أخا عمرو بن عبسة السلمي لأمه.[2]
صفاته الخلقية
كان أبو ذر الغفاري طويلًا أسمر اللون نحيفًا.[3] قال رجل من بني عامر بن صعصعة: " دخلتُ مسجد منى فإذا شيخ معروق آدَم، عليه حُلّة قِطْري، فعرفت أنه أبو ذَر بالنعت."
وقال الأحنف بن قيس التميمي: " رأيتُ أبا ذرّ رجلًا طويلًا آدم أبيض الرأس واللحية ".[4]
حاله في الجاهلية
كان أبو ذَرّ يَتَألّهُ في الجاهليّة يقول: لا إله إلاّ الله، وكان لا يعبد الأصنام.[3]
كما كان أبو ذر رجلا يصيب الطريق، وكان شجاعًا يتفرّد وحده يقطع الطريق ويُغير على الصِّرم في عماية الصبح على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحي ويأخذ ما أخذ.[5]
إسلامه
المسجد المنسوب لأبي ذر الغفاري في ميس الجبل في جنوب لبنان
قدم أبو ذر على رسول الله وهو بمكّة، فأسلم ثم رجع إلى قومه فكانَ يَسْخَر بآلهتهم؛ ثم إنه قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة فلما رآه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وَهم في اسمه فقال: «أَنْتَ أَبُو نَمْلَة». فقال: "أنا أبو ذر". قال: «نَعَمْ أَبُو ذَرّ».
وروي أن أبا ذر قال: "كنتُ في الإسلام خامسًا"، وروي عنه أنه قال: "أنا رُبُع الإسلام". وقال حكّام ابن أبي الوضّاح البصريّ : "كان إسلام أبي ذرّ رابعًا أو خامسًا." [3]
يروي أبو ذر قصة إسلامه قائلا: "خرجنا من قومنا غفار وكانوا يُحِلّون الشهرَ الحرامَ، فخرجتُ أنا وأخي أُنيس وأُمّنا فانطلقنا حتى نزلنا على خالٍ لنا فأكرمنا خالُنا وأحسن إلينا، قال فحسدنا قومُه فقالوا له: إنّك إذا خرجتَ عن أهلك خالف إليهم أُنيس. قال فجاء خالنا فنثا علينا ما قيل له فقلتُ: أما ما مضى من معروف فقد كدّرت ولا جماعَ لك فيما بعدُ. قال فقرّبنا صِرْمَتَنا فاحتملنا عليها وتغطّى خاُلنا بثوبه وجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أُنيس عن صِرْمتنا وعن مثلها فأتيا الكاهن فخبَر أُنيسًا بما هو عليه، قال فأتانا بصرمتنا ومثلها معها وقد صلّيتُ يابن أخي قبل أن ألْقى رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثلاث سنين، فقلتُ: لمن؟ قال: لله. فقلتُ: أين تَوَجّهُ؟ قال: أتَوَجّهُ حيث يُوَجّهُني الله، أصلّي عشاءً حتى إذا كان من آخر السّحَرِ أُلْقيتُ كأنْي خفاءٌ حتى تعلوني الشمس. فقال أُنيس: إنّ لي حاجة بمكّة فاكْفِني حتى آتيَك. فانطلق أُنيس فراث عَلَيَّ، يعني أبطأ، ثمّ جاء فقلتُ: ما حبسك؟ قال: لقيتُ رجلًا بمكّة على دينك يزعم أنّ الله أرسله. قال: فما يقول الناس له؟ قال: يقولون شاعر كاهن ساحر. وكان أُنيس أحد الشعراء، فقال أُنيس: والله لقد سمعتُ قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قوله على أقراء الشّعْر فلا يلتئِمُ على لسان أحدٍ بعيد أنّه شعر، والله إنّه لصادق وإنّهم لكاذبون! فقلتُ اكفني حتى أذهب فأنظر! قال: نعم، وكُنْ من أهل مكة على حَذَرٍ فإنّهم قد شَنِفُوا له وتَجهَّمُوا له. فانطلقتُ فقدمتُ مكة فاستضعفتُ رجلُا منهم فقلتُ أين هذا الذي تَدْعونَ الصابئ؟ قال فأشار إليّ فقال: هذا الصابئ. فمال عليّ أهلُ الوادي بكلّ مَدَرَةٍ وعَظْمٍ فخررتُ مغشيًّا عليّ فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأنّي نَصْب أحمر، فأتيتُ زمزمَ فشربتُ من مائِها وغسلتُ عني الدّماء فلبثتُ بها يا بن أخي ثلاثين من بين ليلةٍ ويومٍ ما لي طعام إلاّ ماء زمزم، فسَمِنْتُ حتى تكسّرتْ عُكَنُ بطني وما وجدتُ على كبدي سَخْفَة جوعٍ. قال فبينا أهلُ مكة في ليلةٍ قَمْراءَ إضْحِيان إذ ضرب اللهُ على أصْمِخَتِهِم فما يطوف بالبيت أحد منهم غير امرأتين فأتتا عليّ وهما تدعوان إسافًا ونائلَةَ. قال فقلتُ أنْكِحا أحدهما الأخر، فما ثناهما ذاك عن قولهما. قال: فأتتا عليّ فقلتُ هَنًا مثلُ الخشَبَةِ غير أني لم أكْنِ، فانطلقتا تُوَلْوِلان وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا. قال فاستقبلهما رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال: «ما لكما؟» قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: «فما قال لكم؟» قالتا قال لنا كلمة تَمْلأ الفَمَ. فجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وصاحبه فاستلما الحجَرَ وطافا بالبيت ثمّ صلّى فأتيتُه حين قضى صلاتَه فكنتُ أوّل من حيّاه بتحيّة الإسلام، فقال: «وعليك رحمة الله، ممّن أنت؟» قال قلتُ: من غِفار فأهْوى بيده إلى جَبْهَته هكذا. قال قلتُ في نفسي: "كَرِهَ أني انتميتُ إلي غِفار". فذهبتُ آخذ بيده فَقَدَعَنى صاحبه وكان أعلم به مني فقال: «متى كنتَ هاهنا؟» قلتُ: كنتُ هاهنا منذ ثلاثين من بين ليلةٍ ويوم، قال: «فمن كان يُطْعِمُك؟» قال قلتُ: ما كان لي طعام إلاّ ماء زمزم فسَمِنْتُ حتى تكسّرت عُكَنُ بطني فما وجدتُ على كبدي سَخْفَةَ جوعٍ. فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «إنّها مباركة، إنّها طعام طُعْمٍ".». قال أبو بكر: يا رسول الله ائْذَنْ لي في طعامه الليلةَ، قال ففعل فانطلق النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وانطلقتُ معهما، ففتح أبو بكر بابًا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف. فقال أبو ذرّ: فذاك أوّل طعامٍ أكلتُه بها.
قال خفاف بن إيماء بن رحضة وكان سيد بني غفار الكنانيين: "إن الله قذف في قلب أبي ذر الإسلام وسمع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وهو يومئذٍ بمكّة يدعو مختفيًا، فأقبل يسأل عنه حتى أتاه في منزله، وقبل ذلك قد طلب مَن يوصله إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلم يجد أحدًا فانتهى إلى الباب فاستأذن فدخل، وعنده أبو بكر وقد أسلم قبل ذلك بيوم أو يومين، وهو يقول: " يا رسول الله والله لا نستسرّ بالإسلام وَلنُظْهِرَنّه". فلا يردّ عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، شيءًا فقال: " يا محمد إِلاَمَ تدعو؟ " قال: «إلى الله وَحْدَه لا شريك له وخَلْعِ الأوثان وتشهد أني رسول الله». فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّك رسول الله". ثمّ قال أبو ذرّ: "يا رسول الله إني منصرف إلى أهلي وناظرٌ متى يُؤمَرُ بالقتال فألحَقُ بك فإني أرى قومك عليك جميعًا". فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «أصبتَ فانصرف». فكان يكون بأسفل ثنيّة غَزال فكان يعترض لعِيَرات قريش فيقتطعها فيقول: " لا أردّ إليكم منها شيئًا حتى تشهدوا ألاّ إلهَ إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله "، فإن فعلوا ردّ عليهم ما أخذ منهم وإن أبوا لم يَرُدّ عليهم شيءًا. فكان على ذلك حتى هاجر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومضت غزوة بدر وغزوة أحد، ثمّ قدم فأقام بالمدينة مع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم".
وقال نَجيح أبو معشر قال: كان أبو ذَرّ يَتَألّهُ في الجاهليّة ويقول: لا إله إلاّ الله، ولا يعبد الأصنام. فمرّ عليه رجل من أهل مكّة بعدما أوحي إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم. فقال: يا أبا ذرّ إنّ رجلًا بمكّة يقول مثل ما تقول لا إله إلاّ الله، ويزعم أنّه نبيّ. قال: ممّن هو؟ قال: من قريش، قال فأخذ شيءًا من بَهْشٍ وهو المُقْلُ فتزوّده حتى قدم مكّة فرأى أبا بكر يُضيف الناس ويُطْعِمُهُم الزبيب، فجلس معهم فأكل ثمّ سأل من الغد: هل أنكرتم على أحدٍ من أهل مكّة شيءًا؟ فقال رجل من بني هاشم: نعم ابن عمّ لي يقول لا اله إلاّ الله ويزعم أنّه نبيّ. قال: فدُلّني عليه قال فدلّه، والنبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، راقد على دُكّان قد سدل ثوبَه على وجهه، فنبّهه أبو ذرّ فانتبه فقال: انْعَمْ صباحًا، فقال له النبيّ: "عليك السلام"، قال له أبو ذرّ: أنْشِدْني ما تقول، فقال: "ما أقول الشعر ولكنّه القُرآنُ، وما أنا قلتُه ولكنّ الله قاله"، قال: اقْرَأ عليّ. فقرأ عليه سورة من القرآن فقال أبو ذرّ أشهد ألاّ إله ألاّ الله وأشهد أنّ محمدًا رسوله. فسأله النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: «ممّن أنت؟» فقال: من بني غفار. قال فعجب النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، أنّهم يقطعون الطريق، فجعل النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، يرفع بَصَرَه فيه ويصوّبه تعجبًا من ذلك لِما كان يعلم منهم ثمّ قال: «إن الله يَهْدي مَن يشاء"». فجاء أبو بكر وهو عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأخبره بإسلامه فقال له أبو بكر: "أليس ضيفي أمْسِ؟" فقال:" بلى"، قال: "فانْطلقْ معي". فذهب مع أبي بكر إلى بيته فكساه ثوبين ممشّقين.
إسلام قومه بني غفار بدعوته
قال فغبرتُ ما غبرتُ فلقيتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: «إنّه قد وُجّهْتُ إلى أرضٍ ذاتِ نخل ولا أحْسِبُها إلاّ يثرب، فهل أنت مبْلِغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟» فانطلقتُ حتى لقيتُ أخي أنيسا فقال: " ما صنعتَ؟" قلتُ: " صنعتُ أني قد أسلمتُ وصدّقتُ". قال أُنيس: "ما بي رغبةٌ عن دينك فإني قد أَسلمتُ وصدّقتُ". قال فأتينا أمّنا فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكما فإنّي قد أسلمتُ وصدّقتُ قال فاحتملنا فأتينا قومَنا فأسلم نِصْفُهم قبل أن يقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينة. وكان يؤمّهم إيماءُ بن رَحَضَةَ، وكان سيّدهم، وقال بقيّتهم: إذا قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينةَ أسلمنا. فقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم بقيّتهم وجاءت أسْلَمُ وكانوا حلفاء غفار فقالوا: يا رسول الله، إخوتنا، نُسْلِمُ على الذي أسلم إخوتُنا. فأسلموا فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «غِفارٌ غَفَرَ الله لها وأسْلَمُ سالَمها الله».
جهره بالإسلام في مكة
بعد أن ضيف أبو بكر الصديق أبا ذر في منزله أقام أيَامًا ثمّ رأى امرأة تطوف بالبيت وتدعو بأحسن دُعاء في الأرض تقول: " أعْطني كذا وكذا وافعلْ بي كذا وكذا"، ثمّ قالت في آخر ذلك: "يا إساف ويا نائلة"، قال أبو ذرّ: " أنْكِحي أحدهما صاحبه". فتعلّقت به وقالت: " أنت صابئٌ". فجاء فِتْيَةٌ من قريش فضربوه، وجاء ناس من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة - وبنو غفار من بني بكر - فنصروه وقالوا: " ما لصاحبنا يُضرَبُ وتتركون صُباتَكم؟ " فتحاجَزوا فيما بينهم.
فجاء إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: " يا رسول الله أمّا قريش فلا أدعُهم حتى أثْأرَ منهم، ضربوني". فخرج حتى أقام بعسفان وكلّما أقبلت عِيرٌ لقريش يحملون الطعام يُنَفِّرُ بهم على ثنيّة غَزال فتلقى أحمالها فجمعوا الحِنَطَ، قال يقول أبو ذرّ لقومه: " لا يمسّ أحد حَبّة حتى تقولوا لا إله إلاّ الله "، فيقولون لا إله إلا الله ويأخذون الغرائر.[6]
حادثته مع معاوية وعثمان
قال النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: «يا أبا ذرّ كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفئ؟» فقال أبو ذر: "إذًا والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به". فقال: «أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقاني».
وقال زيد بن وهب : مررتُ بالرّبَذةِ فإذا أنا بأبي ذرّ، فقلتُ ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنتُ بالشأم فاختلفتُ أنا ومعاوية في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [7].، وقال معاوية: "نَزَلَتْ في أهل الكتاب"، قال فقلتُ "نَزَلَتْ فينا وفيهم". قال فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب يشكوني إلى عثمان، قال فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتُ المدينةَ وكَثُر الناسُ علي كأنّهم لم يَرَوْني قبل ذلك. قال فذُكِرَ ذلك لعثمان فقال لي: إن شئتَ تنحّيتَ فكنتَ قريبًا. فذاك أنزلني هذا المنزل ولو أُمّرَ عليّ حَبَشيّ لسمعتُ ولأطَعْتُ.
وقال محمّد بن سيرين أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال لأبي ذرّ: «إذا بلغ البِنَاءُ سَلْعًا فاخرج منها»، ونحا بيده نحو الشام، « ولا أرى أمراءك يَدَعونَك!» قال: " يا رسول الله أفلا أقاتل مَن يحول بيني وبين أمرك؟" قال: «لا»، قال: "فما تأمرني؟" قال: «اسْمَعْ واطِعْ ولو لعبدٍ حَبَشيّ». قال: فلمّا كان ذلك أرسل معاوية إلى عثمان: "إنّ أبا ذرّ قد أفسد الناس بالشأم"، فبعث إليه عثمان فقدم عليه، ثمّ بعثوا أهله من بعده فوجدوا عنده كيسًا أو شيءًا فظنّوا أنّها دراهم، فقالوا: ما شاء الله! فإذا هي فلوس. فلمّا قدمَ المدينةَ قال له عثمان: "كُنْ عندي تغدو عليك وتروح اللقاح"، قال: "لا حاجة لي في دنياكم"، ثمّ قال: ائْذَنْ لي حتى أخرج إلى الرّبَذَة"، فأذن له فخرج إلى الربذة وقد أقيمت الصلاةُ وعليها عبدٌ لعثمان حبشيّ فتأخّر فقال أبو ذرّ: تَقَدّمْ فصلّ فقد أُمِرْتُ أن أسْمَعَ وأطيعَ ولو لعبدٍ حَبشيّ فأنت عبد حبشيّ".
وقال عبد الله بن سيدان السّلَميّ: "تَناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذرّ متبسّمًا فقال له الناس: "ما لك ولأمير المؤمنين؟" قال: "سامعٌ مُطيعٌ ولو أمرني أن آتيَ صنعاء أو عدن ثمّ استطعتُ أن أفعل لفعلتُ"، وأمره عثمان أن يخرج إلى الرّبَذَة.
وقال عبد الله بن الصامت الغفاري ابن أخي أبي ذر قال: دخلتُ مع أبي ذرّ في رَهْطٍ من غِفار على عثمان من الباب الذي لا يُدْخَلُ عليه منه، قال: وَتَخَوَّفْنَا عثمان عليه، قال فانتهى إليه فسلّم عليه، قال: ثمّ ما بدأه بشيء إلاّ أن قال: "أحَسِبْتَني منهم يا أمير المؤمنين؟ والله ما أنا منهم ولا أدركهم، لو أمرتَني أن آخذ بِعَرْقُوَتَيْ قَتَبٍ لأخذتُ بهما حتى أمرتَ". قال ثمّ استأذنه إلى الرّبَذَةِ، فقال له عثمان: "نعم نأذن لك ونأمر لك بنَعَمٍ من نعم الصدقة فتُصيبُ من رِسْلها". فقال فنادى أبو ذرّ: "دونكم معاشر قريش دنياكم فاعْذَمُوها لا حاجة لنا فيها". قال فما بزاه بشيء. قال فانطلق وانطلقتُ معه حتى قدمنا الرّبَذَةَ، قال: فصادفنا مولًى لعثمان غلامًا حبشيًّا يؤمّهم فنُودِيَ بالصلاة فتقدّم فلمّا رأى أبا ذرّ نكص، فأومأ إليه أبو ذرّ: تَقَدّمْ فصلّ. فصلّى خلفه أبو ذرّ.
وقال الأحنف بن قيس التميمي قال: أتيتُ المدينةَ ثمّ أتيتُ الشأم فَجمَّعت فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلا فَرَّ أهلها، يصلّي ويُخِفّ صلاته، قال فجلستُ إليه فقلتُ له: "يا عبد الله مَن أنت؟" قال: أنا أبو ذرّ فقال لي: "فأنتَ من أنت؟" قال قلتُ: "أنا الأحنف بن قيس". قال: " قُمْ عني لاَ أعُرُّكَ"، فقلتُ له: "كيف تَعُرُّنِي بشرّ؟" قال: "إنّ هذا، يعني معاوية، نادى مناديه ألاّ يجالسَني أحد".
أهل العراق يبيايعونه
قال شيخان من بني ثَعْلَبَة رجل وامرأته: "نَزَلْنا الرّبذة فمرّ بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. فاستأذنّاه أن نغسل رأسه فأذن لنا واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك إذ أتاه نفر من أهل العراق، حَسِبْتُه قال من أهل الكوفة، فقالوا: "يا أبا ذرّ فعل بك هذا الرجل وفعل فهل أنت ناصبٌ لنا رايةً؟ فَنُكْمِلُكَ برجال ما شئتَ؟" فقال: "يا أهل الإسلام لا تَعْرِضوا عليّ ذاكم ولا تُذِلّوا السلطان فإنّه مَن أذلّ السلطان فلا توبة له، والله لو أنّ عثمان صلبني على أطول خشبةٍ أو أطول جبل لَسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي، ولو سيّرني ما بين الأفق إلى الأفق، أو قال ما بين المشرق والمغرب، لسمعتُ وأطَعْتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي. ولو ردّني إلى منزلي لسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي".
فضله ومناقبه
كان أبو ذر رابع أربعة في الإسلام، وقيل: خامس خمسة في الإسلام، وهو أول من حيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتحية الإسلام. وكان يوازي عبد الله بن مسعود في العلم.
قال أبو ذر: " كنتُ رِدْفَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو على حمار وعليه بَرْدَعَةٌ أو قطيفة".
وقال أبو الدرداء: "كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب".
وقال عبد الله بن مسعود قال: كان لا يزال يتخلّف الرجلُ في تَبُوك فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول: «دَعُوهُ فَإِنَّ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْر ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ». فتلوَّم أبو ذَر على بعيره فأبطأ عليه، فأخذ متاعه على ظهره، ثم خرج ماشيًا فنظر ناظرٌ من المسلمين، فقال: إن هذا الرجل يمشي على الطريق، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ». فلما تأملت القوم قالوا:" يا رسول الله، هو والله أبو ذر"؛ فقال: «يَرْحَمُ اللهُ أَبَا ذَرٍّ، يَعِيشُ وَحْدَهُ، ويموتُ وَحْدَهُ، وَيُحْشَرُ وَحْدَهُ».[8]
وقال علي بن أبي طالب: "لم يبقَ اليومَ أحد لا يبالي في الله لومةَ لائم غير أبي ذرّ ،ولا نفسي"، ثمّ ضرب بيده على صدره.
وسُئِلَ علي بن أبي طالب عن أبي ذرّ فقال: "وعى علمًا عجز فيه وكان شحيحًا حريصًا، شحيحًا على دينه حريصًا على العلم، وكان يُكْثرُ السّؤالَ فيُعْطى ويُمْنَعُ أما أن قد مُلِئَ له في وِعائِه حتى امتَلأ". فلم يدروا ما يريد بقوله وعى علمًا عجز فيه، أعجز عن كَشْفِ ما عنده من العلم أم عن طَلَبِ ما طلب من العلم إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم.
وقال أبو ذر: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «يا أبا ذرّ إني أراك ضعيفًا وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمُرَنّ على اثنين ولا تَوَلَيَّنَ مالَ يَتيمٍ».
وقال الحارث بن يزيد الحضرميّ: سأل أبا ذرّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، الإمارة فقال: «إنّك ضعيف وإنّها أمانةٌ وإنّها يومَ القيامة خَزْيٌ وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها».
وقال عراك بن مالك: قال أبو ذَر: "إني لأقْرَبَكُم مجلسًا من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ وذلك أني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: «أَقْرَبُكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكْتُهُ فِيهَا»"؛ [9]
صفاته
صدقه
قال أبو هريرة: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
وقال مالك بن دينار أنّ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، قال: «أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟» فقال أبو ذرّ: أنا، فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: «صدقتَ». ثمّ قال: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى زُهْدِ عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
وقال عِراك بن مالك يقول: قال أبو ذرّ: إني لأقرَبُكم مجلسًا من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يوم القيامة وذلك أني سمعتُه صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: « أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة مَن خرج من الدنيا كهيئة ما تركتُه فيها»، وإنّه والله ما منكم من أحد إلاّ وقد تشبّث منها بشيء غيري"
وقال مَرْثَد أو ابن مرثد عن أبيه قال: جلستُ إلى أبي ذرّ الغفاريّ إذ وقف عليه رجل فقال: "ألم يَنْهَكَ أَمير المؤمنين عن الفُتْيَا؟" فقال أبو ذَرّ: "والله لو وضعتم الصّمصامة على هذه، وأشار إلى حَلْقه، على أن أترك كلمةً سمعتها من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، لأنْفَذْتُها قَبْلَ أن يكون ذلك".
وروى مُنْذر الثّوْريّ عن أبي ذرّ أنه قال: " لقد تركنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وما يَقلب طائرٌ جَناحَيْه في السّماء إلا ذكرنا منه علمًا".[10]
تواضعه وزهده
قال رسول الله: «مَن سرّه أن ينظر إلى زُهْدِ عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ».
ولما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذرّ فجعل أبو موسى يلزمه، وكان الأشعري رجلًا خفيف اللحم قصيرًا، وكان أبو ذرّ رجلًا أسود كَثّ الشعر. فجعل الأشعريّ يلزمه ويقول أبو ذرّ: "إليك عني"، ويقول الأشعريّ، "مَرْحَبًا بأخي"، ويدفعه أبو ذرّ ويقول: "لستُ بأخيك إنّما كنتُ أخاك قبل أن تُسْتَعْمَلَ". قال ثمّ لقي أبا هريرة فالتزمه وقال: "مرحبًا بأخي"، فقال أبو ذرّ: "إليك عني، هل كنتَ عَمِلْتَ لهؤلاء؟" قال: "نعم"، قال: "هل تطاولتّ في البِناء أو اتْخَذتَ زَرْعًا أو ماشيةً؟" قال: لا"، قال: "أنت أخي أنت أخي".
وقال كُليب بن شهاب الجرْميّ: سمعتُ أبا ذرّ يقول: " ما يُوئسني رِقّة عَظمي ولا بياض شَعْري أن ألقى عيسى بن مريم".
وقال يونس عن محمد: "سألتُ ابنَ أختٍ لأبي ذرّ ما ترك أبو ذرّ؟" فقال: "ترك أتانَين وعَفْوًا وأعْنُزًا وركائب". والعَفْوُ هو الحمار الذّكَرُ.
وقال غالب بن عبد الرحمن قال: لقيتُ رجلًا قال: كنتُ أصلّي مع أبي ذرّ في بيت المقدس فكان إذا دخل خلع خُفّيْه فإذا بزق أو تنخَّع تَنَخَّع عليهما، قال ولو جُمِعَ ما في بيته لكان رِداء هذا الرجل أفضل من جميع ما في بيته. قال جعفر: فذكرت هذا الحديث لمهران بن ميمون فقال: ما أراه كان ما في بيته يَسْوي درهمَينِ.
وحدث سعيد بن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن أبي ذرّ أنّه رآه في نَمِرَة مُؤتَزِرًا بها قائمًا يصلّي فقلتُ: " يا أبا ذرّ أما لك ثوب غير هذه النمرة؟" قال:" لو كان لي لرأيتَه عليّ"، قلتُ: "فإنّي رأيتُ عليك منذ أيّام ثوبين"، فقال: "يا ابن أخي أعطيتَهما مَن هو أحوج إليهما مني"، قلتُ: "والله إنّك لمحتاج إليهما"، قال: "اللهمّ غفرًا، إنّك لمعظّم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البُرْدة ولي أُخْرى للمسجد ولي أعْنُزٌ نحلبها ولي أحْمِرَةٌ نحتمل عليها ميرتَنا وعندنا مَن يخدمنا ويكفينا مهْنَةَ طعامِنا فأيّ نعمةٍ أفضل ممّا نحن فيه؟".
وقال أبو شُعْبة: جاء رجل من قومنا أبا ذرّ يعرض عليه فأبَى أبو ذرّ أن يأخذ وقال: "لنا أحمرة نحتمل عليها وأعْنُزٌ نحلبها ومُحرَّرة تخدمنا وفضل عباءة عن كِسْوتنا وإني لأخاف أن أحاسَبَ بالفضلِ".
وقال عيسى بن عُميلة الفَزاريّ: أخبرني من رأى أبا ذرّ يحلب غُنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيتُه ليلةً حلب حتى ما بقي في ضُروع غنمه شيء إلاّ مَصَرَه، وقرّب إليهم تمرًا وهو يسير، ثمّ تعذّر إليهم وقال: "لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به". قال وما رأيتُه ذاق تلك الليلةَ شيءًا.
وقال خالد بن حيان: "كان أبو ذرّ وأبو الدَّرداء في مِظَلَّتَيْنِ من شَعْر بدمشق".
وقال عبد الله بن خِراش الكعبيّ: وجدتُ أبا ذرّ في مظَلّةِ شَعْرٍ بالرّبَذَةِ تحته امرأة سحماء فقلتُ: يا أبا ذرّ تَزَوّج سحماء! قال: "أتزوّج من تضعني أحبّ إليّ ممّن ترفعني، وما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر حتى ما ترك لي الحقّ صديقًا".
ودخل أبو أسماء الرّحبيّ على أبي ذرّ وهو بالرّبَذة وعنده امرأة له سوداء مشنّفة ليس عليها أثر المَجاسِد ولا الخلوقِ، قال فقال: "ألا تنظرون ما تأمرني به هذه السّويداء؟ تأمرني أن آتي العراق فإذا أتيتُ العراق مالوا عليّ بدنياهم، ألا وإنّ خليلي عهد إليّ أنّ دون جِسْر جهنّم طريقًا ذا دَحْضٍ ومَزَلّة، وإنّا أن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير".
وقال أبو عثمان النّهْديّ: رأيتُ أبا ذرّ يميد على راحلته وهو مستقبل مَطْلِعَ الشمس فظننتُه نائمًا فدنوتُ منه فقلتُ أنائم أنت يا أبا ذرّ؟ فقال: "لا بل كنتُ أصلّي".[5]
وذكر يزيد بن عبد الله أنّ أبا ذرّ تَبِعَتْه جُويرية سوداء فقيل له: يا أبا ذرّ هذه ابنتُك؟ قال: "تزعم أمّها ذاك".
وقال عون بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود: كُسِيَ أبو ذرّ بُرْدَينِ فأتَزَرَ بأحدهما وارتدي بشِمْلَةٍ وكسا أحدهما غلامَه ثمّ خرج على القوم فقالوا له: لو كنتَ لبستَهما جميعًا كان أجمل، قال: أجل ولكني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: «أطْعِموهم ممّا تأكلون وألبسوهم ممّا تكسون»
وقال رجل من أهل البادية: "صحبتُ أبا ذرّ فأعجبَتْني أخلاقُه كلّها إلاّ خُلقٌ واحد". قلتُ: "وما ذاك الخلق؟"، قال: "كان رجلًا فَطِنًا فكان إذا خرج من الخلاء انتضح".
كرمه
قال عبد الله بن الصامت عن أبي ذرّ: "أوصاني خليلي بسبعٍ: أمرني بحبّ المساكين والدّنُوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أصِلَ الرّحِم وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لَوْمَةَ لائم، وأمرني أن أكْثرَ من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله فإنّهنّ من كنز تحت العرش".
وذكر عبد الله بن الصامت أنّه كان مع أبي ذرّ فخرج عطاؤه ومعه جارية له، قال فجعلت تقضي حوائجَه، قال ففضل معها سِلَعٌ، قال فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال قلتُ لو إذّخرتَه للحاجة تبوء بك أو للضيف ينزل بك، قال: "إنّ خليلي عهدَ إليّ أن أيّ مالٍ ذَهَبٍ أو فضّةٍ أُوكِيَ عليه فهو جَمْرٌ على صاحبه حتى يُفَرّغَه في سبيل الله".
وقال سعيد بن أبي الحسن أنّ أبا ذرّ كان عطاؤه أربعة آلاف فكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه فسأله عمّا يكفيه لسنةٍ فاشتراه له، ثمّ اشترى فلوسًا بما بقي وقال: "إنّه ليس من وعى ذهبًا أو فضّة يُوكي عليه إلا وهو يتلظّى على صاحبه".
وقال الأحنف بن قيس: قال لي أبو ذرّ: " خُذ العطاء ما كان مُتْعَةً فإذا كان دَيْنًا فارفضه".[11]
روايته للحديث
روى أَبُو ذَرٍّ عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم.
روى عنه عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأبو إدريس الخولاني، وزيد بن وهب الجهني، والأحنف بن قيس التميمي، وجُبير بن نُفير الحضرمي، وعبد الرحمن بن تميم، وسعيد بن المسيب، وخالد بن وهبان ابن خالة أبي ذر، ويقال ابن أهبان، وقيل ابن أخيه، وامرأة أبي ذر، وعبد الله بن الصامت الغفاري ابن أخي أبي ذر، وخرشة بن الحر الفزاري، وزيد بن ظبيان، وأبو أسماء الرَّحَبي، وأبو عثمان النهدي، وأبو الأسود الدؤلي، والمعرور بن سُوَيد الأسدي، ويزيد بن شريك التيمي، وأبو مُرَاوح الغِفَاري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن حجيرة، وعبد الرحمن بن شماسة، وعطاء بن يسار، وآخرون.[12]
فضله
- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلِي نَبِيٌّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ سَبْعَةَ رُفَقَاءَ نُجَبَاءَ وُزَرَاءَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: حَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ، وَعَلِيٌّ، وَحَسَنٌ، وَحُسَيْنٌ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَالْمِقْدَادُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَحُذَيْفَةُ، وَسَلْمَانُ، وَعَمَّارٌ، وَبِلَالٌ ".[13]
وفاته
عن إبراهيم بن الأشتر النخعي، عن أبيه عن أم ذرّ زوجة أبي ذرّ، قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيْتُ. فقال لي:" ما يبْكيك؟" فقلت: " ومَا لِي لا أَبْكي وأنت تموت بِفلَاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوبٌ يَسَعك كفنًا لي ولا لك؟ ولا يَدَ لي للقيام بجهازك". قال: "فابْشِري وَلَا تَبْكِي؛ فإني سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقولُ: «لَا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا»، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، وإني سمعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنفَر أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، تَشْهِدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»، وليس من أولئك النفَر أحدُ إلّا وَقد مات في قَرْيَة وجماعة، فأنا ذلك الرّجل، والله ما كذَبت ولا كُذبت فأبْصِري الطريقَ". قلت: "وأنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطَّعَتِ الطّريق؟ "، قال: " اذهبي فتبصَّري". قالت: "فكنْتُ أشتدُّ إلى الكثيب فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضُه، فبينما هو وأنا كذلك، إذ أنا برجال على رِحَالهم كأنهم الرّخم تحثّ بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفُوا عليّ"، فقالوا: "يا أمَةَ الله، ما لك؟"، قلت: "امرؤ من المسلمين يموتُ، تُكَفّنونه؟" قالوا: "ومَنْ هو؟" قلت: "أبو ذرّ". قالوا: "صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟" قلت: " نعم". قالت: "فَفَدوْه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السيّاط في نحورها. يستبقون إليه حتى جاءوه"، فقال لهم: "أَبْشِروا، فإنِّي سمعْتُ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلّا وقد هلك في قرية وجماعة، واللهِ ما كَذَبْت، ولا كذبت، ولو كان عندي ثوبٌ يسعُني كفنًا لي أو لامرأتي لم أكفَّنْ إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم لله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا أو نقيبًا"، وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلا وقد قارف بعْضَ ما قال، إلّا فتًى من الأنصار، فقال: "أنا أَكفّنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين في عَيْبتي من غزْل أمّي". قال: "أنت تكفنني يا بني". قال: فكفّنه الأنصاريُّ وغسَّله في النّفر الذين حضَرُوه، منهم حُجْر بن الأدبر ومالك الأشتر وقامُوا عليه وَدفَنُوه في نفرٍ كلهم يَمَان.[14] ولما نفى عثمان أبا ذرّ إلى الرّبَذَةِ وأصابه بها قدرهُ ولم يكن معه أحد إلاّ امرأتهُ وغلامه فأوصاهما أن اغسلاني وكفّناني وضعاني على قارعة الطريق فأوّل رَكْبٍ يمرّ بكم فقولوا هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دَفْنِه. فلمّا مات فعلا ذلك، ثمّ وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبد الله بن مسعود في رَهْط ٍمن أهل العراق عُمّارًا فلم يَرُعْهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها، فقام إليه الغلام فقال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه. فاستهلّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله، «تمشي وحدك وتموت وحدك وتُبْعَثُ وحدك».
توفي أبو ذر في الربذة سنة 32 هـ وقيل بآخر شهر ذي الحجة سنة 31 هـ بعد انصراف الحجيج، وصلى عليه عبد الله بن مسعود في النفر الذين شهدوا موته، ثم حملوا عياله إلى عثمان بن عفان بالمدينة، فضم ابنة أبي ذر إلى عياله، وقال: "يرحم الله أبا ذر". وتقع الربذة اليوم 100 كم جنوب شرق محافظة الحناكية و200 كم شرق المدينة المنورة.[15]