العباسية نيوز/سليمة قاسم:يحكى أن أحد شيوخ العشائر قتل رجلا ينتمي لعشيرة أخرى، وحين أراد الشيخ ان يدفع دية القتيل، اشترط عليه والد القتيل - وهو رجل عرف بحكمته - شرطا غريبا لاعلاقة له بالمال والحلال والنساء. فقد طلب منه ان يتسول في احد شوارع المدينة التي كان يقطنها الشيخ لمدة عام كامل.
استغرب ذوو الشيخ من هذا الطلب الغريب، لكنهم وجدوه سهلا ويسيرا، يستطيع الشيخ تنفيذه بدون أي صعوبة تذكر، خاصة وانهم سيتخلصون من دفع دية القتيل التي تبلغ أرقاما كبيرة في مثل هذه الحالات، ويجنبون العشيرتين دماء يمكن ان تراق طلبا للثأر العشائري. وبعد انتهاء العام هلل ذوو الشيخ واحتفلوا بانتهاء مدة العقوبة، فجاؤوا بشيخهم ونحروا له الذبائح، لكنهم في صباح اليوم التالي لم يجدوه في فراشه، وحين بحثوا عنه طويلا وجدوه يتسول في مكانه القديم.
تكررت محاولات هروب الشيخ لممارسة التسول، الأمر الذي أوقع أولاده في حرج شديد، وهنا أدركوا ان والد القتيل كان حكيما بكل معنى الكلمة، فلم يطلب مالا أو حلالا، لكنه كان واثقا من ان تنفيذ شرطه الوحيد كفيل بتحويل شيخ العشيرة إلى متسول يفقد احترامه لنفسه ذاته ولمكانته بين عشيرته حين يمد يده لطلب المال من الآخرين، وهو الأمر الذي اعتاده في غضون العام.
ما فعله الشيخ كعقوبة له، يفعله اليوم آلاف العراقيين من النساء والرجال والأطفال بمختلف الأعمار، يبدو ان المجتمع يعاقبهم حين وجدوا في التسول ملاذا يؤمن لهم لقمة العيش حتى لو كانت مغمسة بذل الطلب ومحاولة استدرار عطف الآخرين حين يمدون يدهم ليحصلوا على الفتات.
ولابد من القول، ان ظاهرة التسول موجودة في اغلب دول العالم، ولكنها تكون اكثر انتشارا في البلدان التي تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة وترتفع فيها معدلات البطالة والقهر الاجتماعي، كما هو الحال في العراق، فلا يكاد يخلو شارع أو تقاطع طريق من المتسولين، وهم يستجدون المارة ، بأساليب عديدة بعضها تقليدية وأخرى مبتكرة.رغم ان التسول جريمة يحاسب عليها القانون.
تكمن خطورة ظاهرة التسول في العراق في تحولها من وسيلة لكسب العيش إلى مهنة تستقطب أعداداً كبيرة من الفقراء والمعوزين ، وادى هذا إلى ظهور مافيات تدير شبكات من المتسولين الذين يجمعون ما يحصلون عليه من أموال إلى أشخاص يتعهدون بتوفير احتياجاتهم الأساسية .
وقد يتطور الأمر إلى ماهو أكثر سوءا من التسول، خاصة بالنسبة للأطفال الذين تحتضنهم الشوارع والطرقات بدلا من المنازل ومقاعد الدراسة، فهم يتعرضون إلى خطر اكتساب العادات والسلوكيات السيئة كالتدخين والسرقة وتعاطي المخدرات ، أو قد يتعرضون إلى التحرش الجنسي، أو تجنيدهم من قوى الإرهاب لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية .وبمرور الوقت يتحول المتسول إلى محتال من الطراز الأول، ويصبح التسول عنده عادة لا يمكنه تجاوزها أو الكف عن ممارستها، حتى لو ملك من المال ما يكفيه ان يعيش ثرياً، طيلة أيام حياته.
هذا ما يتعلق بالجانب الاجتماعي لهذه الظاهرة، أما من الجانب الاقتصادي ، فانتشارها بهذا الشكل المخيف، يعتبر تحديا كبيرا للدولة ولمؤسساتها، لكونها توضح الجوانب السلبية في سوء توزيع وإدارة الثروة، في بلد يعوم على بحر من النفط.
قد يبدو حل مشكلة التسول ممكنا، بجمع المتسولين في دور خاصة تابعة للدولة، وتقديم معونة شهرية لهم تؤمن احتياجاتهم الأساسية، ولكن المعالجة الجذرية تتطلب مواجهة جماعية للمشكلة تشترك فيها الأطراف المعنية، مثل الدولة والقطاع الخاص في تخفيف مستويات الفقر وتوفير فرص عمل للقادرين عليه، ولا ننسى الدور الفاعل الذي ممكن ان تلعبه منظمات المجتمع المدني والإعلام في التوعية بمخاطر هذه الظاهرة التي تسهم في خلق جيل من الاتكاليين ممن يعتمدون طرقاً سهلة في تأمين احتياجاتهم اليومية، بدلا من الدراسة والعمل وكسب لقمة العيش بعرق الجبين.
وبعد كل ما قيل عن التسول والمتسولين، فأقول لك عزيزي القارئ، انك حين ترى متسولا يمد يده لك، عليك ان تتذكر أمرين، أولهما أنه لم يعتد على مد يده للناس إلا بعد ان فقد الحصانة المبدئية والأخلاقية التي يضمنها له المجتمع والدولة، وثانيهما أنك تعطي مالا ولو قليلا لشخص لا يعمل وأن تجاوبك معه يحرم المجتمع من طاقة منتجة، وأترك لك الحرية في اختيار الطريقة التي تريد أن تتعامل بها معه، وستكون محقاً في كلا الحالتين