ابو القاسم الشابي
ليست الرومانطيقية وقفا على عصر او امة او مجتمع او فئة في مجتمع ، وانما هي تيار شعري _ فكري ، ينساق فيه افراد ذوو امزجة خاصة في مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي ، ويسوقون فيه من حولهم ، الى ان يعم او ينتشر ... فكل من يضع الجمال فوق المنفعة في تقديره لشؤون الحياة يكون رومانطيقيا ، وكل من يأبى الاذعان للعقل حين يقتضيه التضحية بعواطفه ، وكل من يتمرد على القيود الاجتماعية ، ويهوى العزلة ، ويمجد الحب ، وينشد عنف الاهواء ، ويستسيغ الكأبة ، ويمقت الواقع ، ويفرح بالأحلام يكون في حقيقة امره رومانطقي الاتجاه..
وما كان للرومانطيقية العربية ان تتمثل ، في ابدع صورها ، واجلى مظاهرها ، واقوى اندفاعاتها ، كما تمثلت في سيرة ابي القاسم الشابي وشاعريتة وحياته وادبه .
كان ابو القاسم رومانطقي النزعة اول منزلة ، ثم بحكم شاعريته في المنزلة الثانية ، واخيرا بحكم عصره وتمرسه بحياة عصره وثقافته ، وهذا يعني انه لم يقلد احدا في شيئ مما اعطى وانتج ، وانما سار مع طبيعته كشاب ، واصغى الى فؤاده ووجدانه كشاعر .
عالم شعري
ولد ابو القاسم الشابي في قرية اسمها (الشابة) على مقربة من توزر ، في منطقة الجريد _ ومناها بلاد النخيل _ من جنوب توبس ، في يوم الاربعاء الواقع في 24شباط (فبراير) عام 1909 . ومنطقة الجريد في الجنوب التونسي عبارة عن اربع واحات هي :توزر ، نفتا ، العديان ، والحمة ، وكلها تقع في البرزخ الذي يفصل السبختين الكبيرتين : الجريد وغرسة ، على تحوم الصحراء وقفارها المترامية . وهذه الواحات الاربع تلفت الانظار، وتستهوي الافئدة لما هي عليه من سعة ، وما تتمتع به قراها الكبيرة من اهمية اذ ان مياهها غزيرة وافرة ، ونباتاتها واشجارها باسقة رائعة ، ومواقعها جميلة اخاذة .
هذا هو العالم الذي نشأ فيه ابو القاسم ، وذلك مسرح شاعريته ، وميدان خياله ، وتلك هي مغاني حداثته .
انه جزء من تلك الطبيعة ، وشعره صورة عنها فاللون فيه تونس الخضراء بل لون غاباتها واشجارها ، والنغم عنده هونغم ينابيعها . فهو في رقته جدول او ينبوع من ينابيع الجريد ، وهو في ثورته عاصفة رملية من عواصف الصحراء القائمة على تخوم الجريد . ثم هو كـأنسان شبيه بالمنطقة الجغرافية التي نشأ فيها ، اي واحة قامت وسط السباخ والرمال ، ارجع الى الالفاظ التي تتكرر على لسانه وترددها اشعاره نجد ان للطبيعة فيها النصيب الاوفى :
فجر ، انشودة ، ليل ، صباح ، شوك ، غابة ، جدول ، نهر ، واد ، عصفور ، ظلال ، أزهار ، غيوم ، امواج ، ضباب ، ربيع ، جبل ، طيور ، نسيم ، انواء ، ضحى ، نجوم ... والكلمة الوحيدة التي هي من صنع الانسان ويكثر الشابي من ذكرها ، هي كلمة ( هيكل ) . هذه الالفاظ لم ترد على لسان الشابي لأنه انتقاها او فكر فيها ، بل لأنها هي ( العالم ) الذي احدق به ونشأ في اطاره ..
ثقافة روحية خالصة
نشأ ابو القاسم في اسرة دينية ، ومعنى ذلك ان والده ينتمي الى تلك الطبقة او الفئة من فئات المجتمع الاسلامي التي تنصرف الى الشؤون الروحية والفقهية وتجعل همها في الحياة ( الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وارشاد الناس من حولها الى اصول العبادات ، وقواعد الشريعة في المعاملات . وقد عين ابوه قاضيا شرعيا في العام نفسه الذي ولد فيه، وراح ينتقل به في عواصم الجريد وغير الجريد من مناطق الجمهورية _ وكانت آنذاك المملكة التونسية . وعندما بلغ سن الدراسة الابتدائية ، ارسله والده الى ((الكتاب)) وهو عبارة عن مكان يجتمع فيه ابناء الحي ، يتعلمون قراءة القرأن ، وكتابة الحروف العربية ، ولكن دراسة ابي القاسم كانت تتحقق على يد ابيه في اول منزلة ، وعنه اخذ اصول اللغة ، وقواعد النحو والصرف كما تلقن هاتيك الروح الصوفية التي سادت الاوساط الدينية في بلاد المغرب العربي عامة ، ثم كان ان وجهه والده _ وهوفي الحادية عشرة _ الى جامع الزيتونة في تونس ، واوصى زملاءه من المشايخ ورجال الدين ان يبذلوا له عنايتهم ، وبهذا انتقل الشيخ الصغير من اجواء الجريد الى فضاء المدينة ، واقام سبع سنوات هناك يدرس ، ويطالع ، ويحتك بالاوساط الثقافية ، الى ان نال الاجازة النهائية للجامع ، اي اصبح عالما دينيا وهو في عامه الثامن عشر .
ولم يكتف والده بهذا القدر من الثقافة وانما حضه على دراسة الحقوق ، فأقبل عليها وراح في اثنائها يمارس الادب ويقرض الشعر ، ويتصل بأدباء العاصمة التونسية ، اذ انضم الى _ النادي الادبي _ الذي كان يجتمع في مقر _ جمعية قدماء الصادقية ( المدرسة ) _
ومحاضرات ايقضت الناس على صاحبها . كانت باكورة اعماله في الحقل الادبي محاضرة القاها في النادي الادبي عنوانها ( الخيال الشعري عند العرب ) ، ونشرها زين العابدين السونسي في كتيب خاص ، اهداء المؤلف الى والده بهذه العبارات : الى حضرة الوالد الكريم الشيخ سيدي محمد بن بلقاسم الشابي الذي رباني صغيرا ، وثقفني كبيرا ، وافهمني معاني الرحمة والحنان ، وعلمني ان الحق خير ما في هذا العالم ، واقدس ما في هذا الوجود ، اتقدم بهذه الصفحات التي هي اول عمل اخرجته للناس . وانا ارجوا ان اكون قد توخيت فيها صراحة الصدق وجمال الحقيقة ...
هذا الاهداء يكشف عن عمق تأثيره بالثقافة الروحية الخالصة التي اخذها عن بيئته، وحلب من تراثه الاجتماعي ، وكان من شأن هذا التراث الذي تمثله ان جعله مثالي النزعة ، وحاله في ذلك حال كل من يعيش في وسط متدين ، ويثقف على ايدي المتدينين ، وقد ذكر عنه بعض كاتبي سيرته انه حفظ القرأن وهوفي التاسعة من عمره .. ثم كان من شأن هذه المثالية التي حلت في طباع الشابي ، وسيطرت على تفكيره ان قادته الى _ الكآبة _
هذا يعني ان كآبة الشابي تضرب في نسبها البعيد الى مثاليته الروحانية التي ترى ( ان الحق خير مافي هذا العالم ، واقدس ما في الوجود ) ...
وبذلك يكون موقفه شبيها كل الشبه بموقف افلاطون ، او المعري ...
ولكن ابا القاسم كان شاعرا ، وشاعرا رومانطيقيا لم يسلك سبل الفلاسفة والمفكرين في تناول قضايا الحياة ومشاكل الوجود البشري _ او ربما مجاله الزمني ضاق فلم يتح له ان يسلك هاتيك السبل _ وعاش ينوء بأثقال عواطفه ، وسمو اخلاقه ، ورقة طبعه _
واليوم احيا مرهق الاعصاب ........ مشبوب الشعور
متأ جج الاحساس احفل ............. بالعظيم وبالحقير
تمشي على قلبي الحياة ................ ويزحف الكون الكبير
ويصف عذاب نفسه ، في مقام اخر ، على نحو نحس معه بالفاجع المفجع مما يدور في داخل سريرته ، ويشجيك برقة احساسه ...
انقذيني من الاسى فلقد امسيت ....... لااستطيع حمل وجودي
في شعاب الزمان والموت امشي ......... تحت عبء الحياة جم القيود
واماشي الورى ونفسي كالقبر .............. وقلبي كالعالم المهدود
ظلمة ما لها ختام ، وهول ................. شائع في سكونها الممدود
التجربة الكبرى
... وهناك في حياة ابي القاسم تجربة قاسية كبرى ، قل ان يمر بها انسان دون ان تجعله شاعرا ، فكيف اذا مر بها شاعر مثله ، الا وهي تعلقه بفتاة ماتت وهي تحبه ، ماتت وهي برعم لم يتفتح ، وكان من اثر هذه الفاجعة في كيانه ، ان تفجرت في حناياه بواعث العذاب ، وانطوى قلبه على اسى لاسبيل فيه الى عزاء ، واضطرم فكره بمعنى _ الموت _ وما يواكب هذا المعنى من وحشة وهول وضلام وفراغ واكتئاب وقلق وتبرم بالوجود من الفه الى يائه :
بالأمس قد كانت حياتي كالسماء الباسمة
واليوم قد امست كأعماق الكهوف الواجمة !
قد كان لي مابين احلامي الجميلة جدول
يجري به ماء المحبة طاهرا يتسلسل !
هو جدول قد فجرت ينبوعه في مهجتي
اجفان فاتنة ارتنيها الحياة لشقوتي !
اجفان فاتنة تراءت لي فجر الشباب
كعروسة من غانيات الشعر في شفق السحاب !
ثم اختفت خلف السماء وراء هاتيك الغيوم
حيث العذارى الخالدات يمسن ما بين النجوم !
ثم اختفت اواه ! طائرة بأجنحة المنون
نحو السماء وها انا في الارض تمثال الشجون !
ويبدو ان هذه الصدمة ، اساءت ابلغ الاساءة الى مصيره كله ، فأضطر اهله ال تزويجه في سن مبكرة لينصرف عن اوهامه وتأملاته الحزينه ، وقبل هذا الحل الاصطناعي لمشكلة كونية . ولكن المشكلة كانت تزداد في نفسه تعقدا ، فلم يهنأ في زواجه ..
ثم فاجأه الموت ثانية بفقد ابيه ، وتحولت التبعات التي كان يحملها ابوه الى كاهله ، فأثقلته وهو الذي كان بنوء بما يحمل ،فرزح ، واعتلت صحته ، واصيب كما قرر الاطباء بأنتفاخ في القلب جعله ينتقل من مكان الى الخر طلبا للشفاء ..
نهاية وشهرة
لم يكن من شأن العذاب الذي كابده ابو القاسم ان يقضي الى غير غليته ي المحتومة ، وهي المرض ، ثم لم يكن من شأن الداء الذي اصابه _ انتفاخ القلب _ ان يقضي الى غير الموت ، فأضطر الى دخول المستشفى ، بعد ان تنقل في مختلف البلدان انتجاها للعافية ، ولكن الطب عجز عن مقاومة دائه ، وقضى نحبه في صباح يوم الاثنين 9تشرين الاول عام 1934، وفي مساء ذلك اليوم حمل جثمانه الى توزر الجريد التي كان يرسل منها قصائده الى مجلة ( ابولو ) ، ودفن هناك ....
وساد الصمت برهة حول اسمه ، سوى اصداء كانت ترتفع هنا وهناك من انحاء العالم الادبي في دنيا العرب ، ومقالات تكتبها عنه الصحف العربية بين الفترة والفترة . وسر ذلك الصيمت كان يكمن في الاحداث المتلاحقة التي مر بها العالم جملة والعالم العربي خاصة ، من حرب ، الحبشة ، وثورة فلسطين عام 1936الى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، الى ثورة العراق وسوريا ولبنان في فترة 1944_ 1941..... حتى انتهت الحرب الثانية واستعادت الدنيا بعض هدوئها ، تألفت عام 1946لجنة في تونس لاقامة ضريح لأبي القاسم ،ونقل جثمانه في حفل عظيم يوم الجمعة 13ايار ( مايو ) .
الى الضريح الجديد ، وتوالى على تأبينه 17خطيبا و9 شعراء ....
وفي عام 1952اصدر ابو القاسم محمد كرو الطبعة الاولى من كتابه...
( الشابي ) : حياته _ شعره _ فتلقفه ابناء العربيه بشوق ولهفة ، وتوالت على الاثر الدراسات والمؤلفات التي تتناول ابا القاسم ، وقد يكون ابرزها :
( مع الشابي ... لمحمد الحليوي )
( شاعران معاصران .. لعمر فروخ )
( ابو القاسم الشابي : حياته .. ادبه .. لزين العابدين السونسي )
( شاعر الشباب والحرية ... لسرور )
وقد انقسم دارسوه وناقدوه حول عدد من القضايا والشؤون التي تصل بشاعرية الشابي وطباعه وسيرته ، فهناك من يرى انه كان متفائلا ، واخر يرى انه كان مغرقا في تشائمه ، وهناك من يحسب ان حبه كان خياليا ، بينما يرى غيره ان هذا الحب كان واقعيا ، وهناك من حسبه حاقدا ، لما يظهر في بعض قصائده من نقمة على الشعب وتبرم بمسالكه ، في الوقت الذي يحسب غيره انه كان في نقمته يعبر عن اشفاق وحب ، غير ان الاجماع انعقد على انه كان من افذاذ الالفن الشعري في عصره ...
اثار الشابي
اشهر ماعرف للشابي من اثار ، اثنان الاول ديوانه الشعري (اغاني الحياة ) والثاني كتابه النثري ( الخيال الشعري عند العرب ) والى الاول استند معظم الذين درسوا شعره ، وتحدثوا عن مواهبه وعبقريته ، وكان هو المصدر الوحيد الذي رجعت اليه السيدة نعمات فؤاد في كتابها ( شعب وشاعر ) .. ويروي الاستاذ زين العابدين السونسي _ صديق ابي القاسم الحميم _ ان الشابي كان قد اختار قصائده في الاشهر الاولى من سنة 1934عندما كان يستجم في حامة الجريد ، واه اعده ليرسل به الى مصر ليتولى الوقوف على طبعة الدكتور احمد زكي ابو شادي صاحب مجلة ( ابولو ) ....
اما اثاره الاخرى فهي
1. . ( جميل بثينة ) _وقصص اخرى _ظلت مسودة بين يدي اخيه معالى الاستاذ محمدالامين الشابي وزير المعارف في الحكومة الدستورية الاولى ..
2. . ( شعراء المغرب )_ دراسة اعدها ليلقيها في النادي الادبي ، ولكنه لم يلق في النادي من يستمع اليه ، فتركها مخطوطة في يد صديقه المحامي بصفاقس ، الاستاذ ابراهيم بو رقعة..
3. . ( مذكرات )_ بدأ بتدوينها في كانون الثاني عام 1930..
4. . ( قصة الهجرة النبوية )_ نشرتها مجلة العالم في تونس ..
5. . ( الادب العربي في العصر الحاضر ) _ دراسة قصيرة قدم بها ديوان ( الينبوع ) للشاعر ابي شادي ..
6. . ( رسائل ) _ توجه بها ابو القاسم لعدد من اصدقائه :
البشروش ، الحليوي ، ابو شادي ، ابراهيم ناجي ، وعلي الناصر.... وقد ذكرها بالتفصيل الاستاذ محمد الحليوي في ختام كتابه ( مع الشابي ) ..
7.. ( في المقبرة ) _ رواية ( ذكرها الاستاذ كرو ) ..
8.. ( صفحات دامية )..
9.. ( السكير ) مسرحية ..
10.. ( مقالات مختلفة ) ..
وهذا الانتاج يعتبر ضخما ، اذ قيس بالأعوام القليلة التي اتيح لذلك العبقري ان يحياها ، وكان من شأن هذا الانتاج ان حقق نبوءة الشابي يوم قال :
سأعيش رغم الداء والاعداء ............ كالنسر فوق القمة الشماء
وقد وفق الى ( العيش ) في القلوب ، وفي العقول ، على احسن مايكون التوفيق ..
عذرا لطول الموضوع وقد حاولت جاهدة الاختصار قدر المستطاع
اتمنى لكم متعة القراءة