عندما كنت صغيرا لا أعرف في الحياه سوى طريقي من بيتي إلى مدرستي والعودة في نفس الإتجاه ولكن بدون توقف متكرر
نظرا لما سيلحق بي من عقاب إن إضطررت للوقف في هذا الطريق
كنت أسمع مدرسنا لمادة الفقه وأنا في الصف الخامس الإبتدائي
ذلك الأستاذ الشاب صاحب اللحية السوداء الطويله والثوب الأبيض
القصير والعافيه تدب في جسمه من كل جهاته وهو يقول لنا
يا أبنائي عندما تدخلون معترك الحياه فستتفأجون بما سترونه
أمامكم من أنواع البشر في طريقكم لذلك
أحرصوا أن تعودوا أنفسكم وتجعلوا لكم خط رجعه في
جميع أمور حياتكم ومع كل من تعرفون ومن لا تعرفونه
وكبقية زملائي كان تركيزي كله منصبا مع جرس نهاية الحصه
لعل هذا المدرس يغادرنا هو وخط رجعته بلا رجعة لأن الحصه
المقبله ستكون حصة الرياضه
مرت السنين وكبر ذلك الطفل وانتقل من صفه الخامس الإبتدائي
ليصبح رجلا يقف لوحده في معترك الحياه بكل همومها كما أخبرهم
مدرسه لمادة الفقه سابقا ومصطلح ( خط الرجعه ) لايزال مجهولا
لي ولا أعرف ماهية هذا الخط الغريب
في رحلة عودتي صباح يوم أمس من مطار جده إلى مطار أبها
وعندما أنهيت أمور سفري بصالة المطار كان لا يزال أمام إقلاع
رحلتي ما يقارب الساعتين لذلك
توجهت لإحدى الكراسي الخاصه بالمسافرين حاملا بيدي اليمنى
كوبا من القهوه وبيدي الأخرى جهاز جوالي طلبت منه رقم أعز أصدقائي الخاصين في حياتي بل هو صديقي رقم واحد قلت لعلي
أقضي معه بعض الوقت حتى موعد إقتراب الوقت ولكنني تفاجأت
بأنه في كل مره أطلب رقمه يعطيني أنه مشغول مقفلا الخط في وجهي ودون أن يعاود الإتصال بي
بعدما تأكدت أن لا نصيب لي في صوت صديقي
قمت أتجول بين كراسي المسافرين وأقلب ناظريه بين الذاهب والقادم
وأستمتع بمناظر النساء ذوات العبايات المخصره
كم هي جميله مثل هذه المناظر وأنت تضع رجلك اليمنى فوق اليسرى
وكوب القهوة الفرنسيه بيد وسيجارة الملبورو بيدك الأخرى
وأثناء تقليب نظري بين المسافرين أمثالي
وبدون مقدمات كادت عيناي تخرج من رأسي مما رأته أمامها
وما رأته ليس كما قد يعتقد البعض بأنها رأت شابه جميله فاتنه
تتمايل في مشيتها
لا ليس كذلك مطلقا
بل لقد رأت عيناي شيئا عجيبا
إنه معلمي في الصف الخامس الإبتدائي صاحب نظرية
خط الرجعه يجلس على بعد خطوات مني وقد أستحل الشيب
رأسه ولحيته الطويله وأصبح من أصحاب النظارات الطبيه
لضعف نظره
يالله كم هي سريعة السنين في مرورها بنا
أيعقل أن هذا الشيخ العجوز هو ذلك نفسه الشاب الحيوي
الممتلئ بالعافيه الذي كان يهددنا بالضرب من وقت لأخر
اللهم لا دائم إلا وجهك الكريم
قررت الذهاب إليه بكل ثقه فقد زال الخوف
من داخلي من أساتذة المدارس بعد أن ألتحقت بالسلك العسكري
وعندما إقتربت منه رفع رأسه ناظرا إلي مستغربا من إقترابي منه
وعند وصولي إلى كرسيه ألقيت عليه السلام ثم أنحنيت وقبلت
رأسه فرد علي بقوله
أعذرني يا أبني فلم يعد بي من الصحه والعافيه ما تكفي لأقف
على قدمي وأصافحك
بنطقه لهذه الجمله دار شريط الذكريات سريعا وفي ثواني
وعرفت كم هذه الدنيا صغيره وسريعه ولا أمان لها مهما
يكن الحال
عرفت بنفسي لأستاذي السابق فتذكرني بصعوبه فلم أكن أنا من
أصحاب المشاركات في الحصه بل كنت أتخذ من نهاية الفصل مكانا لي وحتى أنه لم يتذكر سوا أسم قبيلتي فقط
دار بيننا حديث سريع عرفت أنه تقاعد منذ فترة و أنه الان
يسكن في مسقط رأسه وقد أتى لجده لمراجعة المستشفى المتخصص فيها حيث يعاني من أمراض السكر والضغط وأخرى عديده
إكتشفت منه أن موعد رحلته لا يزال أمامه ساعه كامله ففرحت
وقلت في نفسي لماذا لا أستغل الفرصه وأساله عن خط الرجعه
الذي كان يتغنى به هذا المعلم في كل حصه يدخل علينا فيها
وماهو هذا الخط في حقيقته وهل هو مثل باقي الخطوط التي على الكره الأرضيه لها أسماء ولكن لا ترى على أرض الواقع
بعدما وجهت السؤال لمعلمي أستدار بكامل جسمه أمامي
وبدأ يقول لي
ماذا قلت لي أسمك؟
فقلت له
مسافر بلا تذكره
فقال لي
وكم هو عمرك في الحياه؟
فقلت له
إن كان عمري بما رأيته في حياتي فأعتقد
أنني قد تجاوزت الخمسين من عمري وأنظر يا أستاذي
إلى شعر رأسي فقد ظهر به الشيب رغم أني من مواليد عهد الطفره
وأريته عدة شعرات بيضاء ظهرت برأسي
فقال لي
لخص لي حياتك منذ ولادتك وحتى الان؟
فقلت له
ولدت ودرست وتوظفت فقط
سألني مجددا قائلا
هل إرتبطت وتزوجت؟؟
فقلت له
إني أقف على بعد خطوات قليله من ذلك
فقال أسال الله أن يوفقك في حياتك
وسأخبرك ياولدي بخط الرجعه الذي كنت أطلب منك أنت
وأخوانك في المدرسه أن تضعوه أمام أعينكم
وبدأ أستاذي ذو الخمسه والستين عاما يعطيني دروس الحياه
قائلا
خط الرجعه
هو خط دقيق وهمي وأدق من شعر رأسك ويقع خلف ظهرك
بمسافة يجب ألا تقل عن عشر خطوااااات
وفائدة خط الرجعه هذا هو أنه يفيدك يابني في أعمالك وعلاقاتك
وتصرفاتك فليس كل شي يصدر منك سيكتب له النجاح فقد تفشل
مع أشخاص في حياتك أو في تصرفات تصدر منك تجاه غيرك لذلك فإن خط الرجعه هذا بمثابة جدار أمان وحماية وواقي من ردة فعل الذين أمامك تهرب وتعود لتحتمي خلف خط رجعتك .
وأحرص يابني على أن لا يكون خط رجعتك بعيدا عنك فقد لا تستطيع العوده إليه عندما يكون بعيدا
فقلت له مقاطعا حديثه الممتع
إذا ياشيخي الفاضل أين أخط هذا الخط خلفي وكم هي المسافه التي تراها مناسبه لذلك؟
فقال لي
إن أنسب مسافة لخط الرجعه خلفك هو عشرة خطوات
فقلت له
ولماذا لا أضع هذا الخط خلفي مباشره لا يبعد عني سوى شبر واحد
لكي أتمكن من الرجوع إليه بسرعه عندما أحتاج إليه؟
تبسم ضاحكا وقال لي
لا يابني
لاتسئ الظن هكذا بمن حولك
واجعل العشر الخطوات هاذي التي بينك وبين خط الرجعه فرصه
لمن أخطأ بحقك أو أصبح بينك وبينه تبادل إطلاق نار كلاميه
أو من رأيت أنه لا بد أن تعطيه فرصه لتغيير وضعه معك
فإن وصلت إلى خط الرجعه بعد عشر خطواااااااات وهو لايزال
كما هو فتكون أنت قد أبرءت ذمتك أمام هذا الشخص بمنحك الفرصة له ولكن بدون فائده
ووقتها
يحق لك أن تفعل ماتشاء
فجأه وبحركه لا إراديه وبصوت مرتفع قال الأستاذ لي
ولكن انتبه يابني انتبه
فليس كل من في حياتك تنطبق عليهم العشر خطوااااات
فهناك أناس معينين لا تتقيد معهم بهذه العشر خطوات
فمنهم من يجب أن تقل هذه الخطوات ومنهم من يجب أن تزيد
فقلت له
مثل من تقصد
هل توضح لي بشي من التفصيل؟
فقال
والدك ووالدتك
لا خط رجعه معهم مطلقا
أخوانك وأخواتك
أجعل خط رجعتك معهم يبعد عنك مئات الكيلومترات
وليكن مصنوعا من الهواء فقط
زوجتك وأطفالك
أجعل خط رجعتك معهم يبعد عنك عشرات الكيلو مترات
وليكن مصنوعا من الماء فقط
أصدقائك القريبين منك
أجعل خط رجعتهم يبعد عنك كيلو متر واحد
وليكن مصنوعا من الرمل
زملاء عملك وأصدقائك الباقين
فأجعل خط رجعتهم يبعد عنك 100 متر
وليكن مصنوعا من الخشب
أقاربك
أجعل خط رجعتهم يبعد عنك 50 مترا
وليكن مصنوعا من الزجاج
باقي الناس في حياتك
الذين تربطك بهم علاقات غير العلاقات السابقه
فاجعل خط رجعتك معهم يبعد عنك 10 أمتار
وليكن مصنوعا من الحديد
أما مديرك ورؤساءك في العمل
فاجعل خط رجعتك معهم خلفك مباشره بل وألصقه بظهرك
وأحرص كل الحرص أن يكون مبنيا من
الأسمنت والخرسانه والحديد والدروع الواقيه للرصاص
وأما نفسك أنت يابني
فأجعل خط رجعتك معها يكون أمامك بحيث كلما رأيت نفسك
قد دخلها الملل والإرهاق والتحطيم من الدنيا ثم التفيت عائدا وراك
بحثا عن خط رجعتك
فعندها ستتذكر أن خط رجعتك مع نفسك موجود أمامك
وبالتالي ستستدير وتكمل مشوار نفسك إلى الأمام وعندها
ستتقدم في كل مره تقابلك فيها مشكله خطوه إلى الأمام
وستجد نفسك بعد عدة سنوات قد حققت في نفسك وحياتك مالم تكن تحلم به
عند هذه الكلمات الرنانه أعلن المذيع الداخلي عن موعد
إقلاع رحلة أستاذي الفاضل
فقمت وساعدته على النهوض وعيناي تكاد تذرف دمعها
على كلامه وحاله الذي أصبح عليه
بعد أن كان شابا يتزايد جماله وقوته ورونقه
يوما بعد يوم
وودعته إلى بوابة طائرته بعد أن أخذت رقم هاتفه الجوال
وحفظته في جوالي بإسم
(لي معك رجعه)
ثم توجهت لبوابة رحلتي أنتظر فتحها فلم
يعد أمامها سوى أقل من الساعه
وذهني لا يزال يفكر في ما سمعته
من شيخي وأستاذي الفاضل والقدير
رسالة sms
كم أتمنى لو يعود بي الزمن لأيام طفولتي لأبني خطوط الرجعه
التي أتمنى أنها تكون موجوده الان
لذلك نصيحه للمواليد الجدد بدنيانا
ضعوا خطوط رجعتكم من الان لمستقبل حياتكم
رساله موجود
جميع من في حياتي لي معهم خطوط رجعه
ولكن المسافات ومواد البناء تختلف
من شخص إلى آخر
وتقبلوا تحياتي......