الإغتراب وسيلة للإبداع، قراءة سيكولوجية لرواية "طونيو كروجر"
طونيو كروجر قطعة ادبية رائعة للمبدع توماس مان، عربها الاديب الراحل يحيى حقي
تدور احداث الرواية في اطار اجتماعي حول فتى الماني اسمه طونيو (وجهه اسمر وملامحه دقيقة عيناه داكنتان كانما تغشاهما ظلال رقيقة جفناه جد ثقيلين نظراته توحي ببعض التردد) وطونيو هذا ابن القنصل كروجر الذي كان يضع وردة برية في عروة سترته وهو شمالي المولد والمسكن (وامه كونسيلو) كانت جميلة اتى به ابوه من اقصى الجنوب الألماني وتميزت بعدم المبالاة وهي متقدة العواطف غامضة منطوية على نفسها بارعة في العزف على البيانو والمندلين.
ذاق طونيو مرارة على طول مشواره في الحياة استطاع ان يضيف الى هذه المرارة سكر ابداعاته واعماله مما جعل حياته الى حد ما ترتسم يالسعادة وبزغ نجم شهرته محققا بذلك احلامه وطموحاته التي جاءت وليدة الياس والحرمان والبؤس والشقاء واغترابه عن الدنيا وما فيها.
الادب تعبير عن الحياة اوبعضها بعبارة جميلة يسعى الاديب من خلاله تفسير الحياة واستخراج معانيها، وهذا ما نستشعره عند قرائتنا الاولى لطونيو كروجر الفتى الذي احس منذ الصبا الباكر بانه غريب عن الذين يعيش معهم، مما ادى به الى الاغتراب الفكري ثم الاجتماعي الى ان تسلق سلم الابداع، والابداع حالة اغترابية، تميز توماس مان في هذه الرواية القصيرة باسلوب سلس وعاطفة سليمة متزنة وخيال خصب ولغة واضحة وحكمة فلسفية ذات ابعاد ومغازي عميقة وغائرة الى ابعد الحدود في الطبيعة البشرية.
وهذه من خصائص الادب الواقعي المؤثر الباقي صداه على مر السنين وتداول الايام فضلا عن هذا عند دراستنا للسيرة الذاتية للكاتب (توماس مان) يتضح لنا بان شخصيته انعكست وظهرت بصورة غير مباشرة في الرواية فهوبدوره عاش حياة قاسية مريرة في بادئ حياته ومن ثم تحول الى كاتب مشهور واعماله الادبية والفنية تتميز برؤية سلبية وتفسير تشاؤمي للحياة كما هو الحال مع بطل الرواية (طونيو كروجر).
فها هو يشعرنا ونحن نقرأ الرواية بما يحس به طونيو من مشاعر عاطفية اليمة فضلا عن الحنين الى الماضي عند رجوعه الى بلدته بعد غياب طال امده اكثر من عشرة سنين وعدم اهتمام (انجه انجبور هولم) به رغم ما كان يحس به تجاهها من حب بقي يعصر قلبه كلما وقعت عيناه عليها وهو يردد (انني يا انجه باق على الوفاء لك الى اخر ايامي).
وكما هو معروف بان الاغتراب والياس والقنوط من الحياة ام ان تدفع الشخص الى البقاء في زاوية مظلمة من زوايا الدنيا غير مأسوف عليه واما ان تصبح وقودا للشخص تدفعه الى ان يصعد قمم الدنيا ويحفر اسمه عليها لا تقدر السنون ولا الايام ان تمسحه مهما طال الزمن وهذا ما حصل مع طونيو، فهو كان في صباه يحدث نفسه مرارا (لماذا خلقني الله نشازا بيني وبين الناس اختلاف) فاذا ما تأملنا هذه العبارة نستطيع ان نستشف منها مدى المرارة والتعاسة التي كان يعاني منها طونيو، لكن لم يفسح المجال لهما ان يتمكنا منه وسعى (ولم يكن في عمله يكدح كدح رجل يسعى وراء لقمة العيش بل كدح رجل لا يريد ان يفعل شيئا سوى تعهد عمله ورعايته قيمته واعتباره في الا يكون انسانا محدودا بين الاحياء بل ان يكون انسانا مبدعا خلاقا).
ادرك طونيو وهو يتوسط اهمال الناس له من جهة واخفاقه في الحب من جهة اخرى وموت والده وتزوج امه الجميلة متقدة العواطف بعد مرور سنة على وفاة والده من جهة ثالثة ورابعة (بانه لكي ينبع له عمل بدفء الحياة ينبغي ان يعهد فلبه برودة الموت ويرضى به) فهجر مدينته ذات الشوارع المتعرجة مسقط رأسه، بمنازلها ذات القمم المثلثة الاضلاع والتي يلفها عويل رياح رطبة، هجر النافورة وشجرة الجوزة العتيقة اليهم كان يفضي باسرار هجر البحر الذي يهيم به اشد هيام دون ان يأنس في نفسه شيئا من حزن فهو استعاض بهم عن صاحبه (هانز) الذي احبه اولا ثم كرهه اخيرا. وعن الاستاذ كناك مدرس الرقص الذي سخر من طونيو عندما لمست يده يد انجه هولم ولم يستطع من جراء ذلك ان يحسن الرقص فقام بحركة ينبغي ان تؤديها فتاة لا فتى فصاح كناك:- (ابطلوا الرقص وارجع الى الوراء يا انسة طونيو كروجر) وبدء جميع الحاضرين يضحكون مستهزئين بطونيو، مضى طونيو عن بلدته حاملا هموما من الطراز الثقيل فاتحا ذراعيه للحياة عازما على ان يقهرها وينتصر على آلامه ويريح قلبه منها، وقد استطاع ان يصل الى هدفه هذا ولوان الهموم ظلت تلازمه وتحتل جزء من تفكيره ومخيلته وحتى بعد حين.
بدء طونيو يشرح فلسفته ويبدي رأيه حول القوانين التي تسير عليها الحياة والدنيا لصديقته الجديدة (ليزافيتا) ذلك بعد ان حصل على شهرة وطار صيته في مدينته الجديدة التي سافر اليها وهي مدينة ميونخ (اعلمي يا ليزافيتا انني لست فوضويا فيما له مساس بالعواطف الحية واقول لك ان الاديب لا يدرك ان الحياة قادرة على متابعة سيرها حتى ولوبعد ان تبوح بالتعبير عنها ومهما وجدت في الادب من تطهيرا لها فانها لا تنقطع عن الاثم اذ ان كل فعل اثم في نظر العقل. ان فوزي بصديق من البشر يملأني بالسرور والفخر ولكني الى اليوم لم اظفر بصديق الا من بين اناس لهم طبع الشياطين او الوحوش طبيع غير جذاب اناس اذا خالطتهم حسبتني اخالط اشباحا عقد الادراك السنتهم فهم يدورون بها في اشداقهم اعني بهم الادباء).