وقد تؤول الكثير من الانحرافات الدينية إلى عدم الاعتقاد بالمجتمع المهدوي. فلو تعارضت مسيرة أحد بالكامل مع المبادئ المهدوية، ومن جانب لابد له أن يرى غاية الحياة ونهاية الكمال في المعتقدات المهدوية، فإنّ الطريق الأسهل له هو إنكار المجتمع المهدوي من الأساس. وإلّا فلابد له من تغيير مسيرة حياته أو الاعتراض بخطأ اتجاه حركته على أقل تقدير؛ وهو أمر عسير على الكثير.
عدم اعتقاد المكابرين وعبيد الأموال / المكابرة العلمية
وفي هذا البين، يتضّح دليل عدم اعتقاد المكابرين وعبيد الأموال بالمجتمع المهدوي، وسعيُهُم المستمر لسلب الاعتقاد من المستضعفين أو سوقهم إلى عدم الاكتراث على أقل تقدير بمستقبل خالٍ منهم، واضحٌ للعيان. علماً بأنّ المكابرة لا تختص بدائرة الأموال والحكم، بل لها أقسام وأنواع عدة وبالإمكان ظهورها في شتى المجالات. كأن يقوم طالب العلم في ضمن حوار علميّ بعدم التراجع عن كلامه الباطل حباً بالجاه. فهو ضرب من ضروب المكابرة.
وفي المقابل، فإنّ الاعتقاد بتحقق المجتمع المهدوي دوماً ما يفتح بوجه البشرية آفاق السعادة وله آثار عديدة في إرساء القواعد الدينية لدى المؤمنين، وسوف نشير إلى جملة من هذه الآثار. والحدّ الأدنى للاعتقاد بهذا المستقبل المشرق هو أنك تتحلى بسلامة القلب وهي علامة جيّدة تبعث على الابتهاج؛ وسيترك في حياتك المعنوية الكثير من الخيرات والبركات.
الاعتقاد بالمسائل المعنویة، علامة على سلامة الروح وشدة الدرایة
وأساساً فإنّ الاعتقاد بالمسائل المعنوية علامة على سلامة روح الإنسان، وسرعة التصديق بالوعود الإلهية ناجمة من صفاء السريرة. فإنّ سرعة التصديق وإن تكن تارة بسبب السذاجة وهي مذمومة، غير أنها تارة أخرى تكون بسبب شدة الدراية والحكمة وهو أمر مطلوب للغاية. فإنّ الذي يتمتّع بحكمة ورؤية ثاقبة وسرعة فهم وقوة تحليل، غالباً ما يؤمن بالوعود الإلهية بسرعة. ولكن لا يمكن التغافل إطلاقاً عن دور صفاء السريرة. لأن الإنسان الذكيّ لو لم يتمتع بصفاء السريرة، سيستخدم جميع ذكائه في سبيل الباطل.
لا يكفي صفاء القلب لوحده
وكذلك العكس، فإنّ الذي يتحلى بصفاء القلب ولكن لا يحمل النظر الثاقب، قد لا يستطيع في بعض المواطن اختيار الطريق الصائب. ولذا تجده ينخدع سريعاً وينحرف بأدنى تحايل وإغواء. ولو لم يسقط بمواجهة المتحايلين، فلربّما يفقد إيمانه بمواجهة أدنى امتحان أو بافتراض أنّ الوعود الإلهية غير منطقية.
دور قلة المعرفة في التساقط قرب الظهور
وفيما يخصّ الإيمان بالمهدوية لابد من القول بأن الساحة زاخرة بالابتلاءات، وأن الابتلاءات الإلهية للمؤمنين قرب الظهور وبعدها يتبعها الكثير من التساقط كما في الروايات.[1] فمن عَقَدَ إيمانه على قليل من المعرفة وبنى أساس عقيدته على صفاء سريرته، سيسقط في الابتلاءات الصعبة أو سيستولي عليه الخوف على أقل تقدير وسوف لا ينهض للدفاع عن الحق بشجاعة تامة، تلك التي تنبثق من العقيدة الراسخة والمعرفة السديدة.
الاعتقاد بالموعود، يستلزم الاعتقاد بأحقية الدين
حريّ بنا هنا أن نشير إلى نقطة مهمة وهي دور الاعتقاد بـ«تحقق المجتمع المهدوي» في إثبات «أحقية الدين». فلو فقد الاعتقاد بالمجتمع الموعود، لأصبحت جميع مبادئنا الدينية في العالم عرضة للتشكيك والتساؤل. إذ أنّ في قبال الكثير من الوصايا الاجتماعية للدين والصورة التي يرسمها لنا من المجتمع المنشود، يمكن القول بكل بساطة: «ماذا سيكون لو أمكن، ولكن المؤسف أنه لا يمكن.» ومعنى ذلك أن وصايا الدين حتى لو كانت جيّدة لا يمكن تطبيقها. وليس بالقليل من يقول بهذه المقولة بشتى التعابير.
ضرورة الاعتقاد بإمكانية تحقق الدين كله
نحن لو لم نكن معتقدين بإمكانية تحقق الدين كله، وأنه سيتحقق في يوم من الأيام بصورة شاملة وثابتة، لوقع الدين بأسره عرضة للتشكيك. فلو قمنا بإثبات التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وتعرّضنا بعد ذلك لبيان الأحكام الإسلامية، ولكننا غير معتقدين بالمجتمع المهدوي، لا يمكننا عندئذ الدفاع عن أحقية الدين بشكل جيد. لماذا؟
لأنه سيُقال لنا: هذا الدين الذي تدّعون أنه أكمل دين، لم يستقر بالكامل في عهد النبي الأكرم (ص)، وذلك لما وجّهه المنافقون من ضربات كبيرة له وحالوا دون تحقيق القِيَم النبوية بأسرها. وما تحقق منه لم يستمر. ولو كان قد استقر بالكامل، لتحقق وعد الله في قوله: ﴿لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ﴾[2] ولانتشر دين الإسلام في جميع أقطار العالم.
وأهم علامة على عدم استقراره هي الأحداث التي جرت بعد النبي (ص)، حتى آل المطاف إلى أن يتربّع رجل فاسق مثل يزيد على كرسيّ الحكم بصفته خليفة لرسول الله (ص) ثم يقول بعد قتل أبي عبد الله الحسين (ع): «لَعِبَت هاشِمُ بِالمُلكِ فَلا / خَبَرٌ جاءَ وَلا وَحيٌ نَزَل.»[3]
وأمیر المؤمنین (ع) أيضاً لم يوفّق لتحقيق ما كان يرمي إليه بالكامل، وحكومته الإلهية لم تدم أكثر من خمسة أعوام.[4] وسائر الأئمة (ع) أيضاً كانوا في الأغلب يعيشون في غربة ومظلومية وكانوا محرومين من حقوقهم الأولى، فضلاً عن أن تؤاتيهم الفرصة لإحلال الدين في المجتمع.
يتبع إن شاء الله...
[1]. قال الإمام الصادق (ع) لابن أبي يعفور حول أصحاب القائم: «لَابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْ يُمَحَّصُوا وَيُمَيَّزُوا وَيُغَرْبَلُوا وَيَخْرُجُ فِي الْغِرْبَالِ خَلْقٌ كَثِيرٌ.» الکافي، ج1، ص370.
وقال (ع) أيضاً في جواب جابر الجعفي الذي سأله: مَتَى يَكُونُ فَرَجُكُمْ؟: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَا يَكُونُ فَرَجُنَا حَتَّى تُغَرْبَلُوا ثُمَّ تُغَرْبَلُوا ثُمَّ تُغَرْبَلُوا يَقُولُهَا ثَلَاثاً حَتَّى يَذْهَبَ الْكَدِرُ وَيَبْقَى الصَّفْوُ.» الغیبة للطوسي، ص339.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَأَبِي بَصِيرٍ قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ: «لَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا النَّاسِ» فَقُلْنَا: «إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا النَّاسِ فَمَنْ يَبْقَى؟» فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي؟» الغیبة للطوسي، ص339، وکمال الدین وتمام النعمة، ج2، ص655، مع اختلاف قليل.
وقال الإمام الكاظم (ع) لأبي إسحاق وهو يسأله عن الفرج: «أَمَا وَاللَّهِ يَا أَبَا إِسْحَاقَ مَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى تُمَيَّزُوا وَتُمَحَّصُوا وَحَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا الْأَقَلُّ ثُمَّ صَعَّرَ كَفَّهُ.» الغیبة للنعماني، ص208.
وعن الإمام الرضا (ع): «وَاللَّهِ مَا يَكُونُ مَا تَمُدُّونَ أَعْيُنَكُمْ إِلَيْهِ حَتَّى تُمَحَّصُوا وَتُمَيَّزُوا...» الغیبة للطوسي، ص336، الغيبة للنعماني، ص208.
وعن الإمام الجواد (ع): «إنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ مَوْتِ ذِكْرِهِ وَارْتِدَادِ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ.» کمال الدین وتمام النعمة، ج2، ص378.
[2]. ﴿هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» سورة التوبة، الآية 33، وسورة الصف، الآیة 9.
[3]. الاحتجاج للطبرسي، ج2، ص307.
[4]. أمیر المؤمنین (ع): «قَدْ عَمِلَتِ الْوُلَاةُ قَبْلِي أَعْمَالًا خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ (ص) مُتَعَمِّدِينَ لِخِلَافِهِ نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ مُغَيِّرِينِ لِسُنَّتِه وَلَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا وَحَوَّلْتُهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا وَإِلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي حَتَّى أَبْقَى وَحْدِي أَوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِيَ الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وَفَرْضَ إِمَامَتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ...» الکافي، ج8، ص59. وقال الإمام الصادق (ع): «لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) ثَبَتَتْ قَدَمَاهُ، أَقَامَ كِتَابَ اللَّهِ كُلَّهُ وَالْحَقَّ كُلَّهُ.» الکافي، ج5، ص556؛ تهذیب الأحکام، ج7، ص463.