التلفزيون وليس الأدب أو السينما، هو من أعاد أمجاد الدولة العثمانية وسطوتها إلى اهتمام الجمهور الواسع. فالدولة التي لا تفصلنا إلا 90 سنة على نهايتها الرسمية، بَدت ولسنوات طويلة، وكأنها خرجت من التاريخ للأبد، وعندما تُستذكر- كما كان يحدث في مسلسلات تلفزيونية عربية -، ففي مناسبة لصبّ اللعنات عليها، بحيث توصم بأقذع الصفات، ويلقى عليها كل أسباب التخلف والتأخر في الشرق العربي، الى أن جاء المسلسل التركي «حريم السلطان» الذي بدا وكأنه يعزف على أنغام الصعود اللافت التي تعيشه الدولة التركية الحديثة، والدور الجديد الذي تريد أن تلعبه في المنطقة والعالم.
يبدأ البرنامج البريطاني التسجيلي «العثمانيون: أباطرة أوروبا المسلمون»، مشاهده، بتصوير أتراك يتفرجون على مسلسل «حريم السلطان» عبر شاشات تلفزيونية في مقاه عامة. هم، ووفق البرنامج، جزء من الجمهور العريض الذي يصل إلى 200 مليون مشاهد، ممن يتابعون هذا المسلسل الظاهرة في الشرق الأوسط وحول العالم.
لن يتطرق البرنامج البريطاني إلى القصص المضخمة للمسلسل الذي يقدم فصلاً من تاريخ الدولة العثمانية، لكن التفاصيل التاريخية الحقيقية عن الدولة تلك، والتي ستقدم في البرنامج، لا تقل عن دراما وعنف ودسائس وبطولات المسلسل التلفزيوني ذاك.
يتصدى البرنامج البريطاني الذي تعرضه الشاشة الثانية لـ «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي)، لمهمة ثقيلة، بتلخيص 600 عام من عمر الدولة العثمانية في ثلاث ساعات تلفزيونية، هذا بالإضافة إلى رغبته (البرنامج)، في ربط الثورات العربية الأخيرة، بالتاريخ العثماني، وكيف إن مطالب الشارع العربي اليوم، لا تختلف كثيراً، عن التحديات التي واجهتها الدولة العثمانية، بخاصة في ثنائية الدولة والدين، والتي كانت أحد الأسباب التي زعزعت أركان الدولة، وقادت إلى أفولها الذي بدأ مع هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ثم لفظت الأنفاس الأخيرة على يد الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك.
يبدأ البرنامج البريطاني حلقته الأولى من بدايات تأسيـــس الدولة العثمانية، ويذهب إلى المدينة التركية سويت التي تحتفل سنوياً بانطلاق الدولة العثمانية التـي ولدت في تلك المدينة الصغيرة، ولتصل بعدها إلى تركيا، وتبلغ أكثر سنوات مجدها في القرن السادس عشر، عندما كان النفوذ التركي يتوزع على ثلاث قارات ( آسيا وأفريقيا وأوروبا)، وقوات السلطان العثماني على بعد أمتار قليلة فقط من مدينة فيينا، في ما بدا وقتها، بأنه زحف مسلم على أوروبا.
أما الحلقة الثانية فستركز على ظواهر من الدولة العثمانية وبخاصة سعيها إلى الهيمنة على المنطقة العربية، وسياساتها الأوروبية، وستتناول الحلقة الأخيرة من البرنامج، السقوط البطيء لتلك الدولة، وكيف تحولت من إمبراطورية قوية، إلى «رجل أوروبا المريض».
وعلى رغم البذخ الإنتاجي (صوّر البرنامج في دول عدة، منها دول عربية)، إلا أن برنامج «العثمانيون: أباطرة أوروبا المسلمون» لم يخرج عن إطار البرامج التعليمية التقليدية، لينفذ بعمق إلى الفترة التاريخية المهمة التي كان العثمانيون أبطالها. فأسئلة الثورات العربية الأخيرة، عولجت بعمومية مُبسطة، كما ساهم ضعف حضور الشخصيات التركية الفكرية المعاصرة، في مقابل ذلك للأكاديميين الغربيين، في تقليل حدة «آنية» البرنامج، والتي كان هو نفسه قد وعد بها، في مشاهده الأولى، أي بقراءة عصرية للماضي العثماني.
البرنامج هو الإطلالة التسجيلية الثانية للمذيع البريطاني من أصول صومالية راجح عمر عبر شاشات «بي بي سي» في العامين الماضيين، بعد البرنامج التسجيلي الكبير عن حياة الرسول محمد (ص) الذي قدمه أيضاً لـ «هيئة الإذاعة البريطانية».
ويبدو أن المذيع الذي ترك «بي بي سي» قبل أعوام، والتحق بقناة «الجزيرة الإنكليزية»، في طريقه للتخصص في البرامج التسجيلية التي تتناول التاريخ الإسلامي، ومازال يقدمها للقنوات البريطانية.