الثامن عشر من ذي الحجّة يوم البيعة والولاء لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ووصي نبي الرحمة والهدى، خاتم المرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يوم من أيام الإسلام الخالدة، يحتفل به المؤمنون، ويتبادلون فيه التهاني كعيدي الفطر والأضحى، وكذكرى المولد النبوي الشريف.
في هذا اليوم، وفي حجّة الوداع، جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين، وهو عائد من حجه، في بقعة تسمى بغدير خمّ، وفي حر الهاجرة تفيأ ظل إحدى السمرات، وهي الشجرة العظيمة، حيث وضع له منبر من أحداج الإبل، فاعتلاه مخاطباً جموع الحجيج:
((أيها المؤمنون ألست أولى بكم من أنفسكم؟)), قالوا: بلى يا رسول الله.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ((ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه كيفما دار))، آخذاً بيد علي ليقيم عليهم الحجّة.
وانطلق المسلمون يبايعون علياً (عليه السلام)، وكان أول المبايعين والمهنئين الخليفة عمر بن الخطاب الذي قال له: (بخٍ بخٍ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ومسلمة)(1).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل غدير خمّ يتحرج من مسألة إعلان الولاية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) حتى لا يتهم بالتحيّز، مع أن الأمر إلهي.. حتى نزلت الآية الكريمة التي ترفع عنه الحرج، قال تعالى:
(يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المائدة / 67.
وبعد البيعة والولاء لأمير المؤمنين (عليه السلام) نزلت الآية بقوله تعالى:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً) المائدة /3.
ومعنى ذلك أن الدين اكتمل والنعمة تمت بهذه البيعة والولاية، وما حدث بعد ذلك لا ندخل في تفاصيله، ولكن يكفي أن نفسره كما فسّره عمر بن الخطاب لابن عباس (رضوان الله عليه)، حيث قال:
(إن قريشاً كرهت أن تجتمع النبوة والإمامة في بني هاشم)(2).
ولا ندري كيف يكره القوم أمراً اختاره الله ورسوله، وقد قال في كتابه العزيز:
(وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) الحشر / 7.
(وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَإِنّمَا عَلَى رسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) التغابن /12.
بعض الفقهاء المسلمين يفسرون آية إكمال الدين وإتمام النعمة بغير هذا التفسير، وفي ذلك أقوال:
أحدها: أن معناه أكملتُ لكم فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي بتنزيل ما أنزلت وبيان ما بيّنت لكم، فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، وكان ذلك يوم عرفة عام حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة.
ثانيها: أن معناه اليوم أكملتُ لكم حجكم وأفردتكم بالبلد الحرام، تحجونه دون المشركين، ولا يخالطكم مشرك.
ثالثها: أن معناه اليوم كفيتكم الأعداء وأظهرتكم عليهم، والمروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنه لما أنزل، بعد أن نصب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) للأنام يوم غدير خمّ، منصرف من حجّة الوداع، قالا: ((وهو آخر فريضة أنزلها الله تعالى، ثم لم ينزل بعدها فريضة))(3).
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً) المائدة / 3.
اختلف في تفسير هذه الآية، ونحن نعرض لهذه الأقوال المختلفة من الطرفين كناقلين، لا مؤيدين، ولا مفندين، ونترك القارىء يستفتي عقله وحده.
قال فريق من علماء المسلمين: المراد بالآية، أن الله سبحانه أكمل للمسلمين دينهم بتغليبه وإظهاره على كل الأديان، رغم محاربة أهلها ومقاومتهم له وللمسلمين، وأتمّ نعمته عليهم بالنص على عقيدته وشريعته أصولاً وفروعاً، وأبان جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم.
وقال فريق آخر من العلماء: يصح تفسير الآية بهذا المعنى إذا لم تقترن بحادثة تفسرها، وتبين المراد منها، فإن كثيراً من الآيات تفسرها الحادثة التي اقترنت بزمن نزولها.
ثم أضافوا: وهذه الآية اقترنت بحادثة خاصة تفسرها وتبين المراد منها، واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولاً: اتفق علماء المسلمين على مختلف مذاهبهم، المفسرون منهم والمؤرخون، على أن سورة المائدة بجميع آياتها مدنية، ما عدا هذه الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فإنها نزلت في مكة، وفي السنة العاشرة للهجرة، وهي السنة التي حجّ فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة الوداع، لأنه انتقل إلى جنان ربّه في شهر صفر سنة إحدى عشرة.
ثانياً: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن قضى مناسكه في هذه السنة توجه إلى المدينة، ولما بلغ غدير خمّ، أمر مناديه أن ينادي بالصلاة، فاجتمع الناس قبل أن يتفرقوا، ويذهب كل في طريقه إلى بلاده، فخطبهم وقال فيما قال:
((إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، أنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه، فعلي مولاه)).
يقولها ثلاثاً، وفي رواية أربعاً، ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب)).
والفريق الآخر لا ينكر هذا الحديث بعد أن تجاوز حد التواتر 130 صحابياً، و84 تابعياً، و360 إماماً وحافظاً للحديث، وفيهم الحنفي والشافعي وغيرهما...
ولكن الكثير منهم فسّروا الولاية بالحبّ والمودة، وأن المراد من قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
((من كنت مولاه)) من أحبني فليحب عليا, وقد رُدّ التفسير بأن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه)) يدل صراحة على أن نفس الولاية التي ثبتت لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على المؤمنين فهي ثابتة لعلي (عليه السلام)، دون زيادة أو نقصان، وهذه الولاية هي السلطة الدينية والزمنية، حتى ولو كان للفظ الولاية ألف معنى ومعنى.
وعلى هذا يكون معنى الآية، أن الله سبحانه أكمل الدين في هذا اليوم بالنص على علي بالخلافة!
ويتساءل البعض، أن إكمال الدين بإظهاره على الأديان، وبيان أحكامه كاملة وافية, واضح لا يحتاج إلى تفسير، أما إكمال الدين بالنص على خلافة علي، فلا بد له من التفسير والإيضاح.
وبيان ذلك: أن الإكمال حقاً لا يتم إلاّ بوجود السلطة التشريعية والتنفيذية معاً، والأولى وحدها ليست بشيء ما لم تدعمها الثانية، وقد كان التنفيذ بيد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فظن أعداء الإسلام أن السلطة التنفيذية ستذهب بذهاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذهابها يذهب الإسلام... فأقام النبي علياً ليحفظ الشريعة من بعده، ويقيم الدين كما أقامه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبهذا لم يبق للكفار أي أمل في ذهاب الإسلام أو ضعفه(4).
وقد أورد الزرقاني أن معنى إكمال الدين هو إنجاحه وإقراره، لأن الإسلام كان قد علت وظهرت شوكته، وفي مقابل هذا التفسير رأي السيد الطباطبائي في معنى الإكمال: إعزاز الدين، وإظهار شوكته وتمام النعمة، وفي تأكيدنا على إدراج هذه الآية في بحثنا، إنما يعود لسبب ارتباطها بها.
بقي أن ندحض شبهة أثيرت حول تعيين آخر ما نزل من القرآن.
قالوا: لماذا لا تكون آية المائدة آخر ما نزل من القرآن؟ وهي قوله سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً ) المائدة / 3، ومع أنها صريحة في أنها إعلام بإكمال الله لدينه في ذلك اليوم المشهود الذي نزلت فيه، وهو يوم عرفة في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، والظاهر أن إكمال الدين لا يكون إلا بإكمال نزول القرآن، وإتمام جميع الفرائض والأحكام.
والجواب: أن هناك قرآناً نزل بعد هذه الآية بأكثر من شهرين، ولعلك لم تنس أن آية: (وَاتّقُوْا يَوْمَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) البقرة / 318, كانت آخر الآيات نزولاً على الإطلاق، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاش بعدها تسع ليالٍ فقط، وتلك قرينة تمنعنا أن نفهم إكمال نزول القرآن من إكمال الدين في آية المائدة المذكورة.
والأقرب أن يكون معنى إكمال الدين فيها يومئذٍ هو إنجاحه وإقراره، وإظهاره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولا ريب أن الإسلام في حجة الوداع كان قد قويت شوكته، حتى لقد أجلِيَ المشركون عن البلد الحرام! ولم يخالطوا المسلمين في الحج والإحرام.
قال ابن جرير في تفسير الآية المذكورة: (الأولى أن يُتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه، فلا يخالطوا المسلمين أثناء حجهم...)(5).
وبناء عليه، يكون معنى إكمال الدين في (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) يفيد أن المراد به هو مجموع المعارف والأحكام المشرّعة وقد أضيف إلى عددها اليوم شيء، وأن النعمة أياً ما كانت أمر معنوي واحد، كأنه كان ناقصاً غير ذي أثر، فتمم وترتب عليه الأثر المتوقع منه، فالإسلام وهو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده، دين وهو من جهة اشتماله – من حيث العمل به – على ولاية الله وولاية رسوله وأولياء الأمر بعده، نعمة.
فمثل معنى الآية: الْيَوْمَ ـ وهو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم ـ أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، وأتممت عليكم نعمتي وهي الولاية، التي هي إدارة أمور الدين وتدبيرها تدبيراً إلهياً، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله ورسوله، وهي إنما تكفي ما دام الوحي ينزل، ولا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، ولا رسول بين الناس يحمي دين الله ويذب عنه، بل من الواجب أن ينصّب من يقوم بذلك، وهو ولي الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم), القيّم على أمور الدين والأمّة، فالآية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، وأن الله رضي لهم أن يتدينوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد، فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
ولئن خلا المجتمع من المشركين، فما خلا من المنافقين المفسدين، وفيهم من هو أشد من المشركين إضرارا وإفسادا، وهم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرية والتسرب في داخل المسلمين، وإفساد الحال، وتقليب الأمور، والدس في الدين، وإلقاء الشبهات، فقد كان لهم نبأ عظيم، تعرّضت لذلك آيات جمّة من القرآن كسورة (المنافقون) وما في سورة البقرة والنساء والمائدة والأنفال وبراءة والأحزاب وغيرها.
فليت شعري أين صار جمعهم؟
وكيف خمدت أنفاسهم؟
وعلى أي طريق بطل كيدهم وزهق باطلهم؟
وكيف يصح مع المنافقين أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم، وإتمام ظاهر النعمة عليهم، والرضا بظاهر الإسلام، بمجرد أن دفع عن مكة أعداءهم من المشركين، والمنافقون أعدى منهم وأعظم خطراً وأمرّ أثراً!
وتصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنّهُمْ خُشُبٌ مُسَنّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ) المنافقون / 4.