وجدت السرقة منذ ازمنة سحيقة وَوَرَدَ ذكرها في تاريخ الشعوب عبر الحقب الزمنية المتعاقبة ولكونها جريمة تحتاج الى عقوبة رادعة وظاهرة سلبية لها اثار سيئة تلحق بالغ الاثر في المجتمع بدأ الانسان ومنذ اقدم العصور بسن تشريعات معينة ورادعة للحيلولة دون ارتكابها وخضعت التشريعات الى اجتهادات من قبل اصحاب الشأن ، فمنهم من ذهب الى انزال اقصى العقوبات لتصل الى عقوبة الاعدام للقضاء عليها ، ومنهم من وضع تشريعات اقل صرامة منها . فقد تطرقت المواد (7 ، 8 ، 9 ، 12 ، 16 ، 23 ، 24) من قانون حمورابي الى جريمة السرقة ، وتنص هذه المواد على قتل السارق . اذ نصت المادة السابعة على انه " اذا سرق رجل حاجة تعود الى اله او قصر يُقتل ذلك الشخص ويُقتل الذي استلم المسروقات من يده " . في حين نصت المادة العاشرة على انه : " يقتل السارق اذا ثبت انه يبيع مفقودات وهي ليست مفقودات " . ونصت المادة الثانية عشرة على انه : " اذا لم يجلب صاحب المفقودات شهود اثبات على موجوداته يُقتل " ومن جهتها نصت المادة السادسة عشرة على انه : " اذا سرق رجل ابن رجل صغير يقتل " . واخيرا نصت المادة الثالثة والعشرين على انه : " اذا قام رجل باللصوصية وضبط يقتل ذلك الرجل " . وهكذا نجد ان هذه المواد مشددة للغاية وصارمة بحيث لا تترك أي مجال للتهاون فيها . وقد توالت القوانين على مر الدهور حتى في عصر ما قبل الاسلام كان يتوجب على السارق ان يظهر ما سرقه ، وباستطاعة الرجل المسروق ان يعلن اللعنة على السارق ، وكان الناس يخشون اللّعان ولذلك كان السارق يعيد ما سرقه ، وكما هو معروف ان الحد لم يكن يقام على الشريف وانما يقتصر على الضعيف ، وجاء الاسلام الحنيف بالتشريع الحاسم للحد من هذه الجريمة ، وورد هذا التشريع في الاية (38) من سورة المائدة ، اذ يقول الله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) . هنا تأتي خاتمة التشريعات ، فالمراد باليد المذكورة في الاية الكريمة اليمين وفي قراءة عبد الله بن مسعود (فاقطعوا ايمانهما) ، وقال ايديهما ولم يقل يديهما لانه اراد اليمين ، واليد عند جمهور اهل اللغة من رؤوس الاصابع الى الكوع . والحكم الالهي هنا لا يخضع لاية مساومة فهو الحد ، والحد احد العقوبات الثلاث المنصوص عليها في التشريع مع القصاص والتعزير ، ولا يخضع الحد الى اجتهاد في التشريع ، وما روي بشأن المخزومية التي سرقت معروف ، وقول رسول الله (?) : " انما هلك من كان قبلكم انهم اذا سرق فيهم الشريف تركوه ، واذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد ، وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " . وقال (?) : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " والسارق الذي يقام عليه الحد البالغ العاقل العالم بتحريم السرقة . وهناك تفاصيل حول قدر النصاب الذي تقطع به يد السارق وتفاصيل اخرى بخصوص سرقة الثمر المعلق وغيره وسرقة مال فيه شبهة ، كأن يسرق الولد من مال ابيه ، والعبد من مال سيده . وهناك كلام كثير بخصوص من يسرق اول مرة ثم يكرر السرقة فقد ورد انه في المرة الاولى تقطع يده اليمنى ، واذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم . وهناك اختلاف في حالة تكرار السرقة ثالثة ورابعة وخامسة ، وان يتم تعزيره ويحبس حتى تظهر توبته ، والتوبة شرط اساس ولكنها لا تسقط القطع ولا بد من التوبة بعد القطع . ولو تدبرنا المعاني العميقة للاية الكريمة لاكتشفنا الكثير فيها . فقد قال الاصمعي : قرأت يوما هذه الاية : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ….) ، وكان اعرابي يجلس بجانبي فعندما انهيت الاية وقلت والله غفور رحيم . قال الاعرابي : كلام من هذا ؟ قلت كلام الله تعالى . قال : ليس هذا بكلام الله . فطلب مني اعادة قراءة الاية الكريمة ، وتنبهت فقلت : ( …. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، فقال الاعرابي : نعم هذا كلام الله .
فقلت : اتقرأ القرآن ؟ قال : لا . قلت فمن اين علمت اني اخطأت ؟ فقال : يا هذا عز فحكم فقطع فلو غفر ورحم لما قطع . وقد اعترض الكثير من الغربيين على هذا الحكم واعتبروا ان هذه العقوبة صارمة جدا ، ويدعون ان عقوبة السجن كافية وكان اثر هذه الفلسفة انها لا تستند الى منطق سليم ، وادت الى زيادة جرائم السرقة بحيث ان السارق يسرق وهو مطمئن لا يخشى شيئا الا ذلك السجن الذي يطعمه ويقضي العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي ويخرج من السجن وهو الى الاجرام اميل والى الشر اقدر .
وبناء على ما تقدم اوجد الاسلام الحنيف العقوبة الرادعة حقا والتي هي العلاج الناجع والشفاء النافع لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة ، واستطاع الاسلام بهذا التشريع ان يجتث الشر من اعمق جذوره وجعل من قطع اليد الردع الكابح للمجرمين ، ويكون بذلك قد نظم الحياة الاجتماعية ووضع حدا لكل التجاوزات التي من شأنها ان تقوض المجتمع والنظام العام الذي يقوم عليه ، فلم تسن هذه التشريعات الا لخدمة البلاد والعباد . والمقال الذي قمنا بترجمته من المصدر الانكليزي :
Russ Versteeg : Early Mesopotamian Law , Carolina Academic , Press , 1999 .
يلقي الضوء على القوانين البابلية القديمة التي تتعلق بالسرقة والاختلاس ، وسيكتشف القارئ الكريم كيف ان قوانين حضارات العراق القديم العظيمة تصدت بحزم لهذه الظاهرة المدمرة في المجتمع.
" المترجم "
لاحظ ويست بروك ان القانون الجنائي في بلاد الرافدين يختلف عن القانون الجنائي الحديث . فالجرائم كالقتل والزنا والاغتصاب والسرقة والاختلاس التي يعاقب عليها القانون الجنائي في الوقت الحاضر تمت معالجتها بصورة مختلفة تماما على اساس مختلف عن الاساس الذي تقوم عليه الانظمة القديمة . اذ تمنح هذه الجرائم حقا مزدوجا من جانب الطرف المتضرر او عائلته اما الانتقام او قبول دفع دية بدلا من الانتقام . وليست لدينا سوى نصوص قليلة تدون وقائع المحاكمات في بلاد الرافدين ، وبحوزتنا نص سومري واحد يدون محاكمة بجريمة قتل وتنفيذ حكم الاعدام ضد
القاتل . وفي الوقت نفسه لدينا نص سومري اخر يصف محاكمة بجريمة قتل ، اذ قررت المحكمة بموجبه اعطاء زوجة القاتل وبناته عبيدا لاولاد الضحية فضلا عن ذلك نص قرار المحكمة بان يتقاسم اولاد الضحية ممتلكات القاتل .
والحقيقة الواضحة هي ندرة المصادر والوثائق وهذا يجبرنا على الاعتماد على مجموعة القوانين الخاصة بالقانون الجنائي والمتوفرة لدينا . وتتضمن هذه المجموعة مواداً قانونية تعالج انواع عديدة من الجرائم مثل القتل والسرقة والاختلاس والاغتصاب والتزوير ، ومن الاهمية بمكان ان نشير الى ان القانون الجنائي الذي يتسم بالغرابة والمليء بالالغاز يتمثل بمجموعة قوانين بلاد الرافدين القديمة ومنها قانون اور – نمو (2112 – 2095 ق. م.) . فقد ورد في متن القوانين مادة تـنص على ما يأتي : " اذا تصرف الانسان بانفلات امني سوف يقتلوه " وهي المادة الثالثة . نجد ان النقطة التي تجعل هذا القانون يتسم بصعوبة التفسير هي ما تعنيه كلمة " انفلات امني " فقد وردت حرفيا " بصورة غير قانونية " او تعني ايضا " بلا قانون " او " غياب القانون " . من المحتمل ان ذلك يشمل اساءة التصرف بدرجة تستوجب عقوبة الاعدام علما ان موادا اخرى من مجموعة مواد قانون اورنمو اوضحت ان الانحرافات البسيطة لا تعتبر جرائم كبرى .
ففي موضوع جرائم السرقة نلاحظ ان معظم انظمة القانون الجنائي تعالج موضوع السرقة والسطو والنهب بصورة مختلفة . وكقاعدة عامة تعد " السرقة " عملية سرقة خلال ساعات النهار ، في حين ان " السطو " هو عملية سرقة بالليل اما السلب فهي عملية غالبا ما تستوجب مجابهة بين الضحية والمعتدي . وطالما ان درجة الخطورة على ارواح الناس تكون كبيرة في التسليب والسطو ، فان هاتين الجريمتين تخضعان لعقوبات صارمة أكثر من السرقة . وهنا لا بد ان نذكر ان الباحث ليمانز ناقش الفعل الاكدي الذي غالبا ما تتم ترجمته من قبل الباحثين بالفعل " يسرق " ،
" يسلب " ، ولم يتم التمييز بينهما بدقة في القوانين البابلية القديمة ويرجع سبب ذلك الى حقيقة ان السلب يتضمن السرقة والسلب يتضمن ايضا العنف والتخويف .
وعلى كل حال لاحظ ليمانز بان قوانين حمورابي تميز بدقة بين هاذين المفهومين . ولكنه اردف قائلا : بانه ليس بالامكان ترجمة المفاهيم تلك بالفقه القانوني الحديث فان كل من المصطلحين " Saraqu " و " habatu " لا تتزامنان مع المفاهيم الحديثة للسرقة والسلب مع نية السرقة . ومن ناحية اخرى نجد ان اصلاحات اورو- انيمكينا وهي تعد الاصلاحات الاقدم في بلاد الرافدين لمعالجة الفساد الاقتصادي ، تضمنت بعض المواد المتعلقة بالسرقة ، وهناك مثال واحد يوضح حالة تتعلق بالسلب جاءت من محاكمة تفيد بان المدعى عليه ضرب المدعي وسرق ثيرانه . وبعد ان رفض المدعى عليه اداء القسم مدعيا بان الشاهد كاذب اعترف بالجريمة ولا بد من ان يدفع للمدعي غرامة قدرها ( 30 ) شيقل من الفضة . وفي القانون السومري هناك سرقات عديدة حملت معها عقوبات تستند الى قيمة الممتلكات او الاموال المسروقة . وبصورة اعتيادية صدر امر من القضاء يقضي بان يقوم السارق بدفع ما يعادل قيمة الاموال المسروقة . وعلى سبيل المثال ، يتوجب على السارق ان يدفع ضعف قيمة قارب تمت سرقته . اما في مواد قانون حمورابي ، نجد انها حددت بعض المواد القانونية مبالغ تعويض السرقة مثل سرقة الة زراعية (مثلا يجب دفع ( 5 ) شيقل تعويضا عن سرقة محراث) .
ويعتقد درايفر ومايلز ان التساهل في مثل هذه العقوبة وفي هذه الحالة بالذات يعود الى حقيقة ان هذه الالات الزراعية قد سرقت من قبل بسبب تركها في الحقل ، ويتصور الشخص الذي يجدها في الحقل انها متروكة وقد تخلى عنها اصحابها . وقد ورد ايضا في القوانين ان الراعي يُدان اذا قام بتغيير علامة (وشم او وسم) الاغنام وبيعها حيث يتوجب عليه دفع عشرة اضعاف قيمتها كتعويض . وعلى الرغم من ان هذه الجريمة تم تصنيفها على انها سرقة يتعامل القانون مع جريمة الراعي كقرينة قضائية مثل جريمة المودع لديه ففي هذه الحالة يترتب على الراعي دفع مبلغ تعويض ولا يعاقب بعقوبة الاعدام (المواد 253 – 255 من قوانين حمورابي ) .
ولا بد من الاشارة الى ان هذه السرقات لا تعاقب بالسجن او العقوبة الحسية ، وانما بتعويض نقدي . اما بالنسبة للراعي الذي غيّر علامة الاغنام واحدث اضرارا لا بد من ان يدفع عشرة اضعاف قيمتها ، وربما تكون الاضرار اعلى وذلك بسبب انعدام الثقة . ويلحق هذا اضرارا كبيرا بالعلاقات التي تسود بين الناس في المجتمع . وهناك قانون اخر يفرض دفع غرامة في مجال ايداع الامانات . فاذا ما فشل المودع لديه بتسليم السلع مثلما وعد الشخص المودع ، فان المودع لديه عليه ان يدفع خمسة اضعاف مبلغ السلع التي ايداعها لديه . ويثير الباحثان درايفر ومايلز اهتمام القارئ عندما ذكرا بان المادة (120) من قانون حمورابي والتي تنص على موضوع سرقة الحبوب من قبل المودع لديه يشابه كثيرا وفي نواحي عديدة القانون الانكليزي العام . ويبدو ان المبدأ العام واحد .
ومن ناحية اخرى تعاقب المادة السادسة سرقة " الاشياء الثمينة " من المعبد او القصر او استلام اشياء مسروقة من معبد او من قصر اذ تعاقب المادة السادسة هذه الجريمة بالاعدام . ومن جهتها تنص المادة الثامنة على انه عندما يقوم شخص بسرقة ثور او اغنام او حمار او خنزير او قارب من المعبد او القصر عليه ان يدفع غرامة قدرها ( 30 ) ضعفا . وبكل وضوح هناك عدم تجانس بين المادتين السادسة والثامنة ، ربما تكون المواشي الواردة في المادة الثامنة اقل قيمة من المواد المذكورة في المادة السادسة ونجدها وجود مادتين قانونيتين منفصلتين الاولى تقوم على اساس العقوبة الكبرى وهي الموت في حين* تستند الثانية الى الاضرار النقدية ويكتفى بدفع عشرة اضعاف ثمن المادة المسروقة اذا كانت السرقة من مكان عادي وليس المعبد او القصر واذا لم يكن للسارق موارد كافية لدفع التعويض ستكون عقوبته الاعدام .
وهناك مادة اخرى في قانون حمورابي تعالج السرقة التي يرتكبها رجال الاطفاء في البيت المحترق في هذه الحالة يخضع السارق الى عقوبة القتل (الاعدام) وذلك عن طريق القائه في النار نفسها التي يعمل على اطفائها .
ومن المثير للدهشة وجود مواد قانونية في قانون حمورابي تقدم نوعا من الضمان الاجتماعي والتأمين على الحياة بالنسبة لضحايا السلب . اذ تؤكد القوانين انه اذا لم يتم القاء القبض على السارق الذي يرتكب التسليب سوف تقوم الحكومة والحاكم في المدينة التي جرت فيها هذه الجريمة بتعويض الضحية شريطة ان يكون قادرا على ان يقدم مقدار ما تمت سرقته امام الاله . وهنا يشير درايفر ومايلز الى مسألة وهي السبب الذي يجعل المدينة تدفع التعويض هو عجز موظفي المدينة وفشلهم في المحافظة على الامن والنظام . وهناك دليل واضح لذلك في قانون حمورابي حيث ورد انه على المدينة والحاكم ان يقوما بدفع مبلغ ( 60 ) شيقل من الفضة الى عائلة الضحية . وتوجد نصوص مسمارية من مدينة نوزي Nuzi (يورغان تبه) تنص على انه يتوجب على المدينة او المأمورين المحليين دفع تعويض عن الجرائم التي ترتكب في مناطقهم .
سرقة السلع بادعاءات كاذبة :
اعترفت قوانين حمورابي ان صفقات البيع التي يقوم بها احد القاصرين او العبيد مشكوك فيها . فانه من الممكن عدم امتلاك القاصر او العبد تخويلا يسمح له ببيع هذه السلع وتتطلب قوانين حمورابي وجود شهود على عملية البيع او وجود عقد مدون كدليل على عملية البيع . ففي حالة عدم وجود شهود او عقد بيع هذه السلع سيعد المشتري سارقا وينال عقوبة الاعدام كما هو منصوص عليه في القانون .
وحسب رأي درافير ومايلز لم يذكر النص السلع التي نحن بصددها قد تمت سرقتها الا ان عقوبة الموت ووضع المادة تلك بين مادتين تعالجان موضوع السرقة تجعل ذلك الامر عمليا . وهنا نجد الاهمية التي تعكس تأكيد القدامى واصرارهم على تقديم الدليل لاثبات الحقيقة اذ يتوجب ان يكون هناك شيء مكتوب او الادلاء بشهادة الشهود وطبقا للمادة (105) من قوانين حمورابي ، يتوجب وجود وكلاء تجاريين من اجل الحصول على وصولات مكتوبة لكي تكون جاهزة للتعويض .
وحسب اعتقاد سكان بلاد الرافدين يعد اخذ ممتلكات تعود الى شخص اخر بطريقة التحايل سرقة ، فقد نص احد قوانين اشنونا على ان سرقة قارب عن طريق الاحتيال سرقة ويترتب على المذنب دفع مبلغ ( 10 ) شيقل واعادة القارب .
اعادة البيع في السوق السوداء
في العالم القديم ، كما هو الحال مع عالمنا الحاضر هناك سمات بارزة من شأنها ان تتم فيها عملية اعادة بيع سلع مسروقة في السوق السوداء . وقد اكتسبت الانظمة القانونية تجارب عبر العصور حلولا مختلفة للمشكلات التي تظهر عندما يقوم احد المشترين البريئين بشراء سلع مسروقة ، من ناحية ، يعتقد المشتري وبحسن نية انه له الحق في السلع التي اشتراها ، ومن ناحية اخرى يشعر المالك الاصلي الذي سرقت سلعه وتمت اعادة بيعها بان له حق المطالبة بها طالما تم اخذها منه بصورة غير قانونية . وكرست احدى اطول المواد القانونية عند حمورابي حل هذه المسألة . فقد نصت المادة التاسعة علن ان كل من المالك الاصلي والمشتري تقديم الشهود ويترتب على شهود المالك ان يشخصوا السلع ، ومن ناحية اخرى يترتب على شهود المشتري ان يعلنوا انهم شهود على مبيعات المشتري . ويتم منح كل من الطرفين مدة ستة اشهر لكي يقدموا شهودهم ويتحمل من يخفق في جلب شهوده خلال الفترة المحددة بستة اشهر التبعات القانونية المنصوص عليها . فاذا ما حصلت قناعة لدى القضاة بما ادلاه الشهود لكل من الطرفين نصت قوانين حمورابي على ما يأتي :
1- اعادة الاموال والسلع المسروقة الى مالكها الاصلي .
2- استعادة المشتري لثمن مشترياته من عقارات البائع .
3- يعاقب البائع المجرم بالاعدام .
وهنا يجب الاشارة الى ان المادة العاشرة من قوانين حمورابي والمادة ( 40 ) من قوانين اشنونا اصرتا على ان يقدم المشتري هوية البائع . فان مثل هذه الصيغة تشجع العقود المدونة طالما تسمح الكتابة للمشتري اثبات هوية البائع . وتعد هذه القاعدة معيارية تشجع المشترين على الحصول اما على الشهود او على العقود المدونة .
وعلى كل حال نجد انه من الاساسي ان يقدم المشتري البائع او الشهود الذين حضروا عملية البيع والا سوف يعامل كسارق ويحكم عليه بالموت .
وبصورة مماثلة اذا ادعى انه المالك الاصلي وغير قادر على جلب الشهود الحقيقيين فانه سوف يحكم عليه بالموت . وحسب رأي درايفر ومايلز اكد حمورابي في المادة الحادية عشرة على ان الشخص الذي يقدم اتهاما خاطئا عن السرقة يعد مسؤولا ويخضع لعقوبة الموت .
ومن الاهمية بمكان ان نشير الى ان ثمة وثائق عديدة موجودة توثق الوقائع القانونية للحالات التي تعكس مشترين بريئين لسلع مسروقة . ولا تعد هذه الوثائق القانونية منسجمة فيما بينها تماما ولا تعكس القانون مثلما تم توضيحه في قوانين حمورابي . ومن جهتهما حلل وست بروك وويلك هذه الوثائق وقاما بمقارنتها مع المواد القانونية الموجودة عند حمورابي والتي تعد وثيقة الصلة بالموضوع واقترحا النموذج الاتي من القانون الخاص بالمشتري ذي النية الحسنة :
" لا يعد المشتري الذي بين يديه ممتلكات مسروقة مسؤولا ما عدا الحالات التي يتم فيها استرجاع المواد لكي يدفع غرامات مضاعفة عن السرقة " .
ومن الممكن ان يتحمل السارق الحقيقي المسؤولية كاملة او ربما الشخص الذي قام بتسليمها وهو الشخص الذي باع فعلا السلع اليه . الا ان عبء الاثبات سيقع على المشتري وربما يكون المشتري راغبا في اتهام السرقة ضد البائع في حالة عدم توفر الدليل الكافي ، ففي هذه الحالة من الممكن ان يواجه عقوبة اخرى لاتهام زور وباطل . ففي مثل هذه الحالة سوف يفضل قبول المسؤولية ويبحث عن تعويض خسارته بابرام عقد ضد البائع وذلك لانه فشل في عمله مفترضا ان عقده للشراء يسمح له بمثل هذا الاحتمال .
ويستنتج ويست بروك وويلك ان مسؤولية المشتري سوف يتم تخفيضها اما بقدرته على تجنب العقوبة ، وذلك بتقديم السارق الحقيقي او ان يلاحق البائع الذي يحصل على الدفع او عندما يكون هناك اتفاقية تعاقدية للطلب من البائع ليحل محله كمدعى عليه . وهنا تم اخذ النية الحسنة للمشتري وتجنب مضاعفة اضراره .
مما تقدم بات متضحا ان حضارات بلاد الرافدين العظيمة لم تغفل أي مفصل من مفاصل الحياة الا وعالجته بطرق قانونية ، بحيث تنظم حياة الفرد
والمجتمع ، ونحن هنا لا بد من ان نتذكر ان قوانين حمورابي صدرت عام 1751 ق. م وهي السنة التي توفي فيها الملك حمورابي بعد حكم دام اربعة عقود ومسلته الاصلية المشهورة لا تزال شامخة تزدان بها الصالة ( 3 ) في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية باريس ، وهي مدونة باللغة الاكدية طولها 2.50 م ، مصنوعة من حجر الديورايت (نوع من الكرانيت) ، وهو حجر قوي داكن بركاني الاصل وفي اعلاها يتجلى الملك وهو يتسلم القوانين من اله الشمس (شمش) تتجلى التشريعات المتضمنة (282) مادة قانونية تفوق بعددها اكثر دساتير العالم قاطبة ، والتي لا يخلو أي مرجع قانوني حديث الا واشار اليها نظرا لما تضمنته من ابواب عديدة وقوانين سواء اكانت على مستوى القانون الدولي العام ام الدولي الخاص فقد تطرقت الى الاحوال الشخصية مثلما تطرقت الى المعاهدات والاتفاقيات ، فقد جمعت هذه المسلة القانون بكل ما يتضمنه من فروع واختصاصات .
ونتمنى من قارئنا العزيز ان يضع نصب عينيه ان قوانين حمورابي ليست القوانين الوحيدة في بلاد الرافدين ، اذ ان هناك قوانين اخرى سبقته واخرى جاءت بعده واهمها اصلاحات اورو – انيمكينا وقانون اور- نمو وقانون اشنونا والقوانين الاشورية القديمة والوسيطة والقوانين البابلية الحديثة والمراسيم الملكية بحيث اذا ما جمعت هذه القوانين كلها لوجدنا انفسنا امام اوسع موسوعة قانونية لا تضاهيها اية موسوعة قانونية علما ان اقدم نصوص قانونية هي قوانين الملك السومري اورنمو (2113 – 2095 ق. م ) وهو مؤسس سلالة اور الثالثة ذلك هو العراق مهد الحضارات الانسانية العظيمة .
...........................
منقول