الجــــياد
****************
المسافة بيني وبينها تنهبها الجياد .. تجرجرني وراءها من رِجْليَّ تلك الجياد ، فوق بلاط الشارع، من أمام بيتنا إلى أمام بيتها .. أمام بوابة السور تفك وثاق رجلَّي وتنطلق .. تنطلق إلى الداخل جياد الأخيلة .
تجتاز عيناي حيز الياسمين البرى بين السور ونافذة غرفتها المضيئة .. تودعني عيناى .. تنطلقان من محجريهما وراء الجياد .. تتعلقان بالنافذة .
في الصباح كنت أجرجر ورائي تلك الجياد ، كما كانت تجرجرني فى المساء ، أجرجرها من البيت إلى المدرسة .. أمام بوابة المدرسة أحررها وأنطلق إلى حيث يقف مدرس غليظ المشفرين .. يرفع عصاه في وجهي ويرصني في طابور الصباح ، ثم يعقد يديه خلف ظهره ، وقد أسلم وجهه للعَلَم .
غالبًا ما كنت أتلهى عن منظره باختصار المسافة بيني وبينها ، وهى الواقفة بوجهها الوضىء قبالتي تمامًا في الطابور المواجه .
..... الجياد كثيرًا ما كانت تفاجئني خارجة من السبورة السوداء .. أمتطيها وأرتحل .. أرتحل من الحصة الأولى حتى السادسة ، إلى مدنٍ أخرى ليس فيها غيري وغيرها ، وبعض السوسنات والقمر .
مرةً .. ولم يكن بيني وبينها غير غلالة وردية رقيقة ، ولم يكن يقاسمنا السكون غير رفيف فراشات ملونة .. ولم يكن غير الـ....... . فاجأني المدرس بالسؤال عن تضاريس الوطن
.. حقيقة .. ومن يومها كرهت التضاريس والأسئلة ، وبقى الوطن خطًّا باهتًا بينهما .
عندما كانت مستغرقة في نومها ، ولم يعد بيني وبينها حتى الغلالة الوردية الرقيقة ، وقد أسلمت ثديها لطفلنا الرضيع ، حاصرني الليل بالأسئلة عن تضاريس المرتب ، وعن وجبة الإفطار وعن
مُوجه اللغة العربية كلف نفسه عناء اختراق الأمكنة .... فاجأني ـ هو الآخر ـ على سرير النوم :
" لا بد أن تبدأ الدرس بسؤال تمهيدي لإثارة أذهان التلاميذ "
لا بد أن تشرح الدرس بطريقة الأسئلة
.... لا بد أن ....
تلهيت عن منظره باختصار المسافة بيني وبين آخر قطعة جبن في بيتنا , موضوعة فوق المنضدة الصغيرة بجوار السرير منذ الظهيرة .
أيقظتها برفق ... شدت فستانها المشلوح عن أربعة أخماس جسدها .. سألتني :
ــ هل انتهيت من تحضير دروس الغد ؟
ــ لماذا لم تتناولي قطعة الجبن ؟
ـ السَّهران أوْلَى .
ــ ولكنكِ ترضعينَ !
ــ كُلْها أنتَ ، ودعني أنام
سألتها عن شيء بيننا .. اعتذرتْ .. اعتذرتُ أنا عن أشياء كثيرة .. فاجأتني الجياد .
اعتذرتُ لها .. احتضنت الأسئلة .
**************
للقاص والروائي والناقد الادبي وأستاذ اللغة العربية
المصري
عبد الجواد خفاجي
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
في 3 / 8 / 1995
حصلت هذه القصة على المركز الأول في القصة القصيرة عام 1999 م عن إقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي ونشرت بمجلة الحوار الصادرة عن الإقليم في نفس العام .