في فضائل خديجة الطاهرة عليها السلام
قال أصحاب الحديث والسير : إن فاطمة ( عليها السلام ) لم تعش مع أمها خديجة الطاهرة أكثر من خمس سنين وهذه الفترة الوجيزة لم تقع لها الفرصة الكافية للبقاء واللقاء معها ، ولعلها تأست في ذلك بأبيها الذي حرم من لقاء أبيه عبد الله ، والبنات يشعرون باليتم من موت الأمهات كما يشعر الأولاد باليتم من موت الآباء ، ففاطمة ( عليها السلام ) شابهت أباها من هذه الجهة أيضا ، وسنذكر في هذه الخصيصة الخاصة بخديجة الطاهرة من الصحيفة الفاطمية شيئا عن علو قدرها وجلالة مقامها ، ففي ذكرنا لسيدة النسوان سرور زوجها وبنتها وأولادها الطاهرين ، وإني أعلم أن سرورهم ورضاهم يوجب مغفرة الذنوب ويجلب رضا الله سبحانه . فأقول : اللهم صل وسلم على هذه المرأة الجليلة ، النبيلة ، الأصيلة ، العقيلة ، الكاملة ، العاقلة ، الباذلة ، العالمة ، الفاضلة ، العابدة ، الزاهدة ، المجاهدة ، الحازمة ، والحبيبة لله ولرسوله ولوليه ، المختارة من النساء ، والصفية البيضاء ، حليلة الرسول ، وأم البتول ، صفوة النسوة الطاهرات ، وسيدة العفائف المطهرات ، أفضل أمهات المؤمنين ، وأشرف زوجات الرسول الأمين ، وأول من آمنت من النساء ، وأسبقهن إلى عبادة رب الأرض والسماء ، سيدة النسوان ، وخاصة الرسول ، وخلاصة الإيمان ، أصل العز والمجد ، وشجرة الفخر والنجد ، السابقة إلى الإسلام والدين في العاجلة والأخرى ، مولاتنا وسيدتنا أم المؤمنين خديجة الكبرى ( عليها السلام ) . إعلم ; إن السيدة المحترمة خديجة هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشية الأسدية ، وأمها من الفواطم التسع ، وهي فاطمة بنت زائدة بن الأصم ينتهي نسبها إلى عامر بن لؤي . قال الشيخ صاحب الوسائل في منظومته :
زوجاته خديجة وفضلها * أبان عنه بذلها وفعلها
بنت خويلد الفتى المكرم * الماجد المؤيد المعظم لها
من الجنة بيت من قصب * لا صخب فيه لها ولا
نصب وهذه صورة لفظ الخبر * عن النبي المصطفى المطهر
والحق أن الخديجة ( عليها السلام ) بذلت من همتها واهتمامها في خدمة الرسول في صدر الإسلام ما يعجز عنه الوصف ، ويقصر عن بيانه اللسان والبنان . وهي أول امرأة تزوجها النبي ( صلى الله عليه وآله) في مكة المعظمة ، ولم يتزوج بأخرى ما داحت حية ، وتزوج بعد وفاتها باثنتي عشرة امرأة ، وتوفي ( صلى الله عليه وآله) عن تسع من أمهات المؤمنين ، أفضلهن بعد خديجة أم سلمة ، ثم ميمونة بنت الحارث ، وهي المبشرة بالجنة - كما في الحديث المعتبر - ، وأربع نسوة من بني هلال ، وأسماء بنت عميس الخثعمية زوجة جعفر بن أبي طالب ، وأختها سلمى زوجة حمزة بن عبد المطلب ، وأم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب المعروفة ب‍ « هند » ، والغميصاء أم خالد بن الوليد ، وعز الثقفية ، وحميدة . وروى الشيخ الطوسي والشيخ المفيد عليهما الرحمة : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تزوج خديجة بكرا ، والمشهور أنها عرفت زوجين قبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحدهما : عتيق بن عائذ المخزومي ، والآخر : أبو هالة الأسدي ، أنجبت للأول بنتا ، وللثاني ولدا اسمه « هند » رباه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم تزوجها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وبقيت في خدمته أربع وعشرين سنة وشهرا ، وأمهرها اثنتي عشرة أوقية ونصفا وهو مهر باقي نساءه ، أم سلمة ، وميمونة ، وزينب ، وصفية ، وجويرية ، وأم حبيب ، وسودة ، وعائشة ، وحفصة. أما بنات خديجة ففيهن ثلاثة أقوال : الأول : إنهن بنات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . الثاني : إنهن من زوجيها السابقين . الثالث : إنهن بنات أختها هالة ، توفيت وهن صغار ، فكفلتهن خديجة حتى كبرن ونسبن إليها . وهذا القول خير دليل على بكارة خديجة عند زواجها برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد ذهب إليه أعلام الشيعة المذكورين وجماعة من علماء السنة ، والقول به يرفع الكثير من الإشكالات والمحاذير ، وهو لا يعارض المذهب الحق . ويمكن أن يقال : إن خديجة ولدت في هذه الفترة ستة أبناء أو أربعة ، وقد ذكرت أسماؤهم في كتب التاريخ والسير وكانت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) آخرهم ، ماتوا كلهم ودفنوا في مكة إلا تلك المخدرة ، ولا يستبعد أن تكون خديجة أكبر من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سنا ، وأنها عاشت أربعا وستين عاما ، وإن كان المشهور خلاف ذلك . ولكن طرح قول الشيخين العلمين المعتمدين بعيد عن الإحتياط ومفارق لنهج الصواب . وعلى أية حال ، فمن نظر في كتب أهل السنة رأى أنهم يروون الكثير في فضل عائشة ومناقبها ، ومع ذلك فإنهم يقولون بأن خديجة أفضل منها ومن سائر زوجات النبي ، بل يفضلونها على نساء العالم ، بل يروون أحاديث عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في جلالة قدرها وعلو شأنها ، مع ما كانت عليه عائشة من الحسد والغيرة والخصومة لخديجة ( عليها السلام ) . والأفضل أن نروي ما رواه المخالف لإثبات قول المؤالف وصدق دعاويه : الخبر الأول : روى أحمد بن حنبل والطبراني عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : « خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية امرأة فرعون . الثاني : أخرج الترمذي في صحيحه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : خير نسائها خديجة بنت خويلد ، وخير نسائها مريم بنت عمران . الثالث : روى أحمد والطبراني والحاكم عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون . الرابع : روى الحاكم عن عائشة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : سيدات أهل الجنة أربع : مريم وفاطمة وخديجة وآسية . الخامس : روى عن حذيفة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : خديجة سابقة نساء العالمين إلى الإيمان بالله وبمحمد . السادس : روى في الصحيحين عن أبي هريرة قال : أتى جبرئيل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرء عليها السلام من ربها عز وجل ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب . والصخب : رفع الصوت ، والنصب : التعب ، والقصب : قصب الذهب . وقال الجوهري : القصب : بيت من جوهر . وقال صاحب النهاية في غريب الحديث : القصب لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف . السابع : روى البخاري في صحيحه عن عائشة قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعرف استئذان خديجة ، فارتاع لذلك فقال : اللهم هالة ؟ ! قالت : فغرت فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرا منها ؟ ! فقال : والله ما رزقت خيرا من خديجة ، آمنت بي حيث كذبني الناس ، وأعطتني حيث منعني الناس ، وكانت من أحسن النساء حجالا ، وأكملهن عقلا ، وأتمهن رأيا ، وأكثرهن عفة ودينا وحبا ومروة ومالا . وكانت عائشة غالبا ما تذكر خديجة بسوء وتنال منها . الثامن : روى عن محمد بن إسحاق - وهو من أهل الخلاف - قال : كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء من الله ووازرته على أمره ، فخفف الله بذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بها ، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتهون عليه أمر الناس ، حتى ماتت رحمها الله . التاسع : روى في « نزهة المجالس ومنتخب النفائس » للشيخ عبد الرحمن الشافعي : إن جبرئيل أتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا محمد ! ما نزلت من عند سدرة المنتهى إلا ويقول الله تعالى : سلم على خديجة . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الله السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام وعلى جبرئيل السلام . العاشر : وفي الكتاب المذكور عن معاذ بن جبل : لما مرضت خديجة مرضها الذي توفيت فيه ، دخل عليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال لها : بالكره مني ما أرى منك يا خديجة ، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا . أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون . قالت : وقد فعل الله ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم ، قالت : بالرفاء والبنين . وقد ذكر أحد علماء العامة عبارة فيها الكثير من المدح ، قال : ويكفي خديجة فضلا أن فاطمة كانت في بطنها . وذكر البوصيري صاحب قصيدة البردة في قصيدته الهمزية - التي شرحها ابن حجر وطبعت هذه الأيام في القاهرة قصة لم أرها في كتب الشيعة : ورأته خديجة والتقى والزهد * فيه سجية والحياء وأتاها أن الغمامة والصرح * أظلته منهما أفياء وأحاديث أن وعد رسول الله * بالبعث حان منهما الوفاء فدعته إلى الزواج وما أحسن * ما يبلغ المنى الأذكياء وأتاها في بيتها جبريل * ولذي اللب في الامور ارتياء فأماطت عنهما الخمار لتدري * لهو الوحي أم هو الإغماء فاختفى عند كشفها الرأس * جبرئيل فيما عدا أعيد الغطاء واستبانت خديجة أنه الكنز الذي * حاولته والكيمياء وروى العامة أن خديجة قالت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ ! قال : نعم ، قالت : فإذا جاء فأخبرني ، فجاء جبرئيل ( عليه السلام ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لخديجة : يا خديجة هذا جبرئيل قد جاءني ، قالت : قم يابن عم فاجلس على فخذي اليسرى ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فجلس عليها ، قالت : هل تراه ؟ قال : نعم ، قالت : فتحول فاقعد على فخذي اليمنى فتحول ، فقالت : هل تراه ، قال : نعم ، قالت : فاجلس في حجري ففعل ، قالت : هل تراه ؟ قال : لا ، قالت : يابن عم أثبت وابشر ، فوالله إنه لملك وما هو بشيطان . فانطلقت خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل - ابن عمها - فقال ورقة : يا خديجة لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ثم قام وقبل رأس النبي ( صلى الله عليه وآله ) . ويستفاد من أحاديث الشيعة وأخبار السنة أن خديجة كانت عالمة بكتب الرواية المعروفة ، وأنها كانت معروفة - من بين نساء قريش - بالعقل والكياسة إضافة إلى كثرة المال والثراء والضياع والعقار والتجارة التي عرفت بها ، وكانت تدعى منذ ذلك الحين بـ‍ « الطاهرة » و « المباركة » و « سيدة النسوان » ، بل إنها كانت ممن ينتظر خروج النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويعد له عدته ، ولطالما سألت « ورقة » وغيره من العلماء عن علائم النبوة . وكان أول ما طلبته من النبي ( صلى الله عليه وآله ) حينما التقت به الكشف عن خاتم النبوة . وقد تبين - في الجملة - في حديث حنة أم مريم مدى الجمال والجلال والكمال والإفضال التي كانت لخديجة ( عليها السلام ) . ولقد كانت خديجة مؤمنة راسخة الإيمان ، ثابتة الجنان ، مستعدة لقبول الإيمان ، وقد روي أنها آمنت بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) في عصر اليوم الذي بعث فيه وصلت معه ، وروى الشيعة أن النبي بعث يوم الاثنين فآمن به علي ( عليه السلام ) نفس ذلك اليوم ، وأظهرت خديجة الإيمان يوم الثلاثاء . وفي الخبر : إنها أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به . قال أبو عمرو والحاكم بن عتبة : هي أول من آمن وعلي أول من صلى إلى القبلة . وفي النهج : وقال علي ( عليه السلام ) : « ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة ، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت : يا رسول الله ! ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان قد آيس من عبادتك ; إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ، ولكنك وزيري ، وإنك لعلى خير » . فصل فيه فضل إن من مفاخر خديجة ( عليها السلام ) ومناقبها المخفية على أغلب الخواص والعوام قبولها ولاية أمير المؤمنين وإمامة أولاده الأمجاد المعصومين ( عليهم السلام ) ، مع أنها لم تكن يومها مكلفة بقبول الولاية ، بمعنى أن هذا التكليف لم يكن فرضا واجبا إلا بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك إنها سمعت - بأذنها - بإمامة الأئمة الطاهرين من أبناءها المعصومين يوم ولادة فاطمة حينما ذكرتهم واحدا بعد واحد ، فعرفت بذلك مقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومنزلته ، وكانت تسعى جاهدة من أجل تنفيذ ما سمعت وإنجازه وإنجاحه ، والأفضل أن نروي هنا حديثا سارا ورد عن طرق الشيعة الإمامية ; لتتضح - لبعض الغافلين - كمال الكمالات التي تمتعت بها خديجة سلام الله عليها . روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعى خديجة ( عليها السلام ) وقال لها : « إن جبرئيل عندي يقول لك إن للإسلام شروطا وعهودا ومواثيق : الأول : الإقرار بوحدانية الله جل وعلا . الثاني : الإقرار برسالة الرسول . الثالث : الإقرار بالمعاد والعمل بأحكام هذه الشريعة . الرابع : إطاعة أولي الأمر والأئمة الطاهرين واحدا بعد واحد ، والبراءة من أعدائهم ، فصدقت خديجة بهم واحد بعد واحد وآمنت بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) فأشار إلى علي ثم قال : « يا خديجة ! هذا علي مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي » . ثم أخذ العهد منهما ، ثم وضع علي يده فوق يد رسول الله ، ووضعت خديجة يدها فوق يد علي فبايع لعلي . وكذا روي عن الصادقين الباقرين ( عليهما السلام ) في حمزة سيد الشهداء : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعاه عشية شهادته في أحد إلى بيعة أمير المؤمنين وأبناءه الغر الميامين من أولهم إلى قائمهم ( عج ) أرواحنا له الفداء ، فقال حمزة : آمنت وصدقت ورضيت بذلك كله ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قد دعا عليا وحمزة وفاطمة في حديث طويل أخرجه السيد ( رحمه الله ) . وبهذا يتضح معنى قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ما كمل من النساء إلا أربعة أولهن خديجة » لأن تلك المخدرة آمنت بأصول الدين وفروعه وأحكامه واحدة واحدة ، وآمنت بروح الأصول والفروع كلها ، وآمنت بالميزان الذي به تقبل وترد الأعمال والعقائد ، حيث أنها آمنت بإمامة الأئمة ( عليهم السلام ) في وقت لم تك خديجة بعد مكلفة بها ، نظير إيمان فاطمة بنت أسد حينما جلس الرسول ( صلى الله عليه وآله ) على شفير قبرها وقال لها : « ابنك ابنك علي ، لا جعفر ولا عقيل » مع أنها لم تكن مكلفة بعد بقبول الإمامة . ونظيره ما روي في البحار أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إذا سأل نكير ومنكر في القبر من فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) عن إمامها فإنها تقول : « هذا الجالس على شفير قبري بعلي إمامي : علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) » . وهذه المقامات خاصة بالأولياء الكاملين من أهل هذا البيت ، حيث تكون الولاية فرض وحتم على فواصلهم ، وإن كانت متأخرة عنهم ; لأنها شرط كمال الإيمان ، وبدونها تكون الشريعة قالبا خاويا لا روح فيه وكلاما فارغا لا معنى له . ولهذا نزل يوم الغدير - عند تنصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للخلافة - قوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وقوله تعالى : ( فإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) والآيتان تشهدان لنا نحن الشيعة الإمامية . الحاصل : لقد أودع الله في تلك الذات القدسية - يعني ذات خديجة المقدسة ( عليها السلام ) - ودائع نفيسة وذخائر شريفة لم يودعها - في ذلك الزمان - في ايحاءات أخرى من سكان السماوات والأرض ; وأعظم تلك الودائع الجوهر الثمين لولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حيث أنها آمنت وصدقت بها قبل الإعلان عنها وقبل خروجها من القوة إلى الفعل ، وبذلك سبقت خديجة إلى الإيمان بجميع مراتبه ومقاماته وتفصيلاته ، وهذا المستوى من الإيمان الكامل لم يتيسر لعموم الناس ، لأن أمر الإمامة كان مخفيا على أهل ذاك الزمان إلى يوم غدير خم ، حيث رفع عنها الستار بعد نزول قوله تعالى : ( والله يعصمك من الناس ) فبشرت النبي ( صلى الله عليه وآله ) برفع الخوف ودفع أذية القوم ، وعندها صار قوله تعالى : ( فإذا فرغت فانصب ) عليا حكما منجزا . ويكفي خديجة شرفا أنها عاشت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أربعا وعشرين سنة ، فلم يختر عليها امرأة حتى ماتت ، فلما هاجر ( صلى الله عليه وآله ) تزوج في فترة وجيزة عدة زوجات وظل يلهج باسم « خديجة » ويترحم عليها ويستغفر لها ويحترم أرحامها ويقربهم ولم يغفل عن ذكرها أبدا ، وكان يرى في فاطمة حنان أمها وحبها وودها وإحسانها فيلزمها ويحبها ويقبلها ويتذكر فيها أمها . وفي الخبر أن فاطمة امتنعت يوما عن الطعام وقالت لا آكل حتى اعلم أين أمي خديجة ، فنزل جبرئيل الأمين وقال : إن خديجة في الجنة بين آسية وسارة . الخلاصة : لقد وفقت خديجة لخدمة ابنتها فاطمة الزهراء ، وتزودت من تلك الروح الغالية مدة خمس سنين ، ثم توفيت في السنة العاشرة من البعثة ، على الرواية المشهورة ، وقارنت وفاتها وفاة أبي طالب ، فسمى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ذاك العام بـ‍ « عام الحزن » ثم هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد ثلاث سنوات من وفاتها إلى المدينة المنورة . وكان عمر خديجة عند وفاتها خمسة وستون عاما - على ما ذكر - وكان عمر فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) عند الهجرة ثمان سنوات حيث بقيت في مكة ثلاث سنين بعد وفاة أمها . وروى في ذيل قوله تعالى ( ووجدك عائلا فأغنى ) أن الله من على نبيه وأغناه بأموال خديجة ( عليها السلام ) . وقد وردت الأخبار عن العامة والخاصة في كثرة أموال خديجة ، حتى قال العلامة المجلسي في المجلد السادس من بحار الأنوار أنه « كان لخديجة في كل ناحية عبيد ومواش ، حتى قيل : إن لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان » وكانت خديجة أميرة عشيرتها وسيدة قومها ووزيرة صدق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فكانت كأنها الملكة في الحجاز وأطرافها ، لكثرة ما كانت تملكه من المواشي والخدم والحشم والضياع والعقار والأملاك والأموال والتجارة والعبيد والإماء والجواهر الغالية والذهب والفضة ، وقد قدمتها جميعا - وهي في غاية الرضا والإمتنان - إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) خصوصا خلال فترة الحصار في شعب مكة ، حيث استمر ثلاث سنوات منعت قريش القوت والإمداد عن بني هاشم ، فكانت خديجة تغدق عليهم بكل سخاء ، وتنفق على تلك الجماعة من الرجال والنساء من بني هاشم ومن الحراس والحفظة الذين كانوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان الربيع بن العاص صهر خديجة على بنتها يحمل الحنطة والتمر على الإبل ويبعث بها إليهم تحت جنح الظلام ، حتى نفذت ذخائرهم ولم يبق لهم شئ ، وآل أمرهم إلى أن قنعوا بثوب واحد يستر عوراتهم . وهكذا كانت خديجة ( عليها السلام ) مؤمنة حقا ، آمنت بنبي آخر الزمان بالقلب واللسان والمال والجنان . نعم ; لقد ساوى بذل خديجة ( عليها السلام ) سيف علي ( عليه السلام ) في الإسلام ، وتساويا من قبل في السبق إلى الإسلام ، وفي هذا من الشرف ما يكفي خديجة ( عليها السلام ) ، علاوة على أنها قامت عن بنت كفاطمة ( عليها السلام ) ، وبها تشرفت على نساء العالمين . وقبل نزول الأجل وحلول زمن الفراق والتوجه إلى العالم الأعلى ظهرت لخديجة الطاهرة من مبدأ المراحم الإلهية الخاصة ، من الألطاف والمراحم ما لا يعد ولا يحصى حتى كانت مسلية لخاطر النبي الرؤوف . ومنذ البعثة والنبوة لم يقبض عزرائيل وعماله روح أحد له تلك الألطاف المتواترة والأفضال المتكاثرة ، ولم يكن يومها على وجه الأرض امرأة بل حتى رجل بصلابة الإيمان وحسن الإسلام الذي كانت عليه خديجة . حيث كان في ذلك الزمان أربعة نفر ; رجلان وامرأتان من كل ما أظلته السماء من شيوخ وشبان ورجال ونسوان ، كانوا أركان العالم وقوام الشرع ، أما الرجلان فأمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) وأبوه أبو طالب الذي توفي في عام الحزن ، وأما النساء فخديجة الطاهرة وبنتها فاطمة المطهرة . والآن انظر إلى ما داخل السيد المختار من فقدان هذين الركنين . والرواية المشهورة على أن ملائكة الرحمة جاءت بالكفن لخديجة ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خرج في جنازتها وهو في غاية الحزن ، ونزل في قبرها ووسدها بيده الشريفة في لحدها ، وقبرها المطهر في الحجون من مكة في مقبرة المعلى قبالة قبر آمنة بنت وهب أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد بني على قبرها قبة سنة سبعمائة وسبع وعشرين ، ولا زال أهل مكة يزورون تلك التربة الزاكية والبقعة السامية لإظهار الخلوص والمحبة ، فينشدون الأشعار وينظمون القصائد ويعلقونها هناك ، ويخرجون يوم ولادة الرسول من بيت خديجة إلى مزارها ، يحتفلون ويبتهجون ، وقد أثبتت التجربة أن زيارتها ترفع الهم وتكشف الغم وتدفع المصائب والنوائب الدنيوية والأخروية ، رزقنا الله محبتها ، وثبتنا على مودتها ، وجعلنا من خيار زائريها ، وخاصة مواليهم إن شاء الله تعالى . لا يخفى : أن هناك اختلافا شديدا في سنة وفاة أبي طالب وخديجة ، وأيهما المتقدم ؟ فقد ذكر صاحب المناقب أن أبا طالب عاش إلى تسع سنين وثمانية شهور بعد النبوة . وروى في كتاب المعرفة : أن خديجة ماتت بعد أبي طالب بثلاثة أيام . وقيل : مات أبو طالب قبل خديجة بشهر وخمسة أيام . فلما ماتا ( عليهما السلام ) حزن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حزنا شديدا ، وجلس في بيته إلى أن هاجر إلى الطائف فبقي فيها شهرا ثم عاد إلى مكة ، وكان غالبا ما يعتزل في شعب مكة المعروف بمقبرة المعلى ( شعب أبي طالب ) ، ثم أنه أمر جماعة بالهجرة إلى الحبشة . فنزل قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ) ( فإن تولوا فقل حسبي الله ) . وفي الحديث : اجتمعت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مصيبتان واشتد عليه البلاء ولزم بيته وأقل الخروج . . . الخ . هذا ; وقد استطرفت من أشعار خديجة المروية في المجلد السادس من البحار جملة من الأبيات أحببت ذكرها هنا ، ليطلع القراء على أشعارها المليحة الفصيحة ويعرفوا كمالاتها . قالت ( عليها السلام ) :
ولو أنني أمسيت في كل نعمة * ودامت لي الدنيا وملك الأكاسرة
فما سويت عندي جناح بعوضة * إذا لم تكن عيني بعينك ناظرة
ومنها :
وقى فرمى من قوس حاجبه سهما * تصادفني حتى قتلت به ظلما
وأسفر عن وجه وأسبل شعره * فبات يباهي البدر في ليلة ظلما
ومنها : جاء الحبيب الذي أهواه من سفر * والشمس قد أثرت في وجهه أثرا
عجبت للشمس من تقبيل وجنته * والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا
وكانت أشعار خديجة بأجمعها في مدح سيد الأنام والتعبير عن حبها وأشواقها ، بل كانت تحكي عشقها له كما في الأبيات الآتية :
قلب المحب إلى الأحباب مجذوب * وجسمه بلهيب النار ملهوب
وقائل كيف طعم الحب قلت له * الحب عذب ولكن فيه تعذيب
كأنما يوسف في كل راحلة * والحي في كل بيت فيه يعقوب
ومنها :
نطق البعير بفضل أحمد مخبرا * هذا الذي شرفت به أم القرى
هذا محمد خير مبعوث أتى * فهو الشفيع وخير من وطأ الثرى
يا حاسديه تمزقوا من غيظكم * فهو الحبيب وما سواه في الورى
ومنها :
ألذ حياتي وصلكم ولقاؤكم * ولست ألذ العيش حتى أراكم
على الرأس والعينين جملة سعيكم * فمن ذا الذي في فعلكم قد عصاكم
وما غيركم في الحب يسكن مهجتي * فإن شئتم تفتيش قلبي فهاكم
ومنها :
كم أستر الوجد والأجفان تهتكه * وأطلق الشوق والأعضاء تمسكه
جفاني القلب لما أن تملكه * غيري فوا أسفا لو كنت املكه


منقول