لاسرار الباطنية للبسملةإن من الآداب الباطنية للصلاة، بعد التكبير والإستعاذة، التسمية.. ومن المعلوم أن التسمية -{بسم الله الرحمن الرحيم}- جزء لا يتجزأ من سور القرآن الكريم، وهي جزء من كل سورة، على وفق ما يفهم من روايات أهل البيت عليهم السلام.. إن التسمية حقيقة من الحقائق الكبرى، في حياة الإنسان المؤمن.. وعلى المصلي أن يستحضر معاني التسمية التي منها:
الاستئذان: إنها بمثابة استئذان المولى، وصاحب هذا الملك، في التصرف في ملكه.. فإذا كان الإنسان جالسا في بيت أحد الأصدقاء، وأراد أن يأخذ متاعا من ذلك البيت، فمن الطبيعي أن يستأذن صاحبه، وإن كان ذلك الصديق راضيا في قلبه؛ لأنه هكذا جرت العادات، والآداب بين الناس.. والعبد في محضر الله -عز وجل- ويريد أن يأكل مما خلق من: الطعام، والشراب، واللباس؛ فمن الأدب أن يستأذن مولاه.. واستئذانه لا يحتاج إلى جواب، وإنما استئذانه يكون بالتسمية.. والإنسان عندما يركب السيارة أو الدابة ويسمي، فاستئذانه يعني الموافقة.. والله -عز وجل- أكرم وأجلّ من أن يسميه الإنسان، ويذكر اسمه؛ ولا يأذن له بالتصرف!.. فما قيمة الوجود بين يدي الله -عز وجل- كيلا يأذن له في التصرف، وهو قد سمى باسمه الكريم.. فإذن، إن التسمية نوع استئذان للتصرف في ملك الله سبحانه وتعالى.
تخليد العمل: إن من بركات التسمية تخليد العمل، فعندما يستأذن الإنسان في الأكل والشرب، الذي ينطلق من منطلقات الغريزة؛ فإنه قد ربط هذا الفاني بالباقي.. فيقول: بسم الله آكل، ومن المعلوم بأن {بسم الله الرحمن الرحيم} جملة متعلقة بمحذوف.. ما هو ذلك الفعل المحذوف؟.. الفعل هو: أبتدئ آكل، أو أقرأ، أو أعمل هذا العمل بسم الله.. فهنالك فعل محذوف، يتناسب مع طبيعة العمل الذي يزاوله، أقلها أن يقول: أبتدئ {بسم الله الرحمن الرحيم}.. فالعمل الذي بدئ باسم الله -عز وجل- منتسب إليه.. إذ (كل عمل لم يبدأ باسم الله، فهو أبتر)؛ والأبتر: ناقص البركة، والمقطوع؛ أي المقطوع الذي لا عقب له، ولا دوام له.
الوقاية من الذنوب: إن الفائدة الثالثة للتسمية، هي الوقاية من الذنوب؛ فعندما يسمي الإنسان، ويزاول عملا؛ فإنه من الطبيعي أن يلحظ رضا الله -عز وجل- في ذلك العمل.. فالذي يقوم بعمل ما ويقول: {بسم الله الرحمن الرحيم} بالتفات وتوجه، لا بد أن يراعي رضا الله -عز وجل- في ذلك العمل؛ فلا يعصي الله.. فعندما يذهب للعمل -مثلا- ويفتح باب المتجر، ويقول: {بسم الله الرحمن الرحيم} لا تلفظا، بل حقيقة؛ يستحي أن يقوم بما يخالف رضا الله عز وجل.
تمنع الشياطين: وكذلك فإن من بركات التسمية، أنها تمنع الشياطين؛ لأنه ذكر الله تعالى.. وكما هو معلوم بأن الشيطان، إذا سمع ذكر الله -عز وجل- خنث وتراجع؛ لأن هذه مملكة الله -عز وجل- {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.. فإذن، إن التسمية قبل العمل من موجبات المباركة الإلهية، ودفع الشيطان عند القيام بذلك العمل.
الرحمة الإلهية: إن من الملاحظ أن رب العزة والجلال، قد اختار من بين أسمائه الحسنى اسمين في التسمية، وكان بإمكانه أن ينوّع فيقول: بسم الله المنتقم الرحمن؛ لتتم الموازنة بين الخوف والرجاء.. ولكن الملاحظ أن القرآن الكريم في كل سورة، ما عدا سورة البراءة تفتتح بالتسمية.. والله -عز وجل- عندما اختار اسمين من أسمائه الحسنى؛ جعلهما من مادة واحدة، وهي مادة الرحمة.. ولهذا حذفت التسمية من سورة البراءة؛ لأنه لا مناسبة بين البراءة، وبين الرحمة الإلهية.. ولهذا تقرأ سورة التوبة من دون تسمية.
يلاحظ أن المادة هي الرحمة، ولكن لهذه المادة وجهان: الرحمن، والرحيم.. فالرحمن تمثل الرحمة العامة، أما الرحيم فتمثل الرحمة الخاصة.. إن هنالك رحمة تكوينية -وكما هو معلوم- فالكافر مرزوق، وبلاد الكفار أجمل من بلادنا بكثير في هذه الأيام: طبيعة، ومناخا، وشكلا، وبركات مختلفة.. لأن الله الرحمن رازق للجميع، وهو في نفس الوقت رحيم بالمؤمنين.. فمن أعظم أنواع النعم الإلهية، بالنسبة للإنسان المؤمن، أن يقبل عليه ربه عندما يصلي.. وتقول الرواية: (لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله، ما سره أن يرفع رأسه من السجود).. وقال الإمام الصادق (ع): (إذا قام المصلي إلى الصلاة؛ نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى الأرض، وحفت به الملائكة، وناداه ملك: لو يعلم هذا المصلي ما في الصلاة؛ ما انفتل).
فالمصلي عندما يسمي قبل سورة الحمد، يستحضر هذه المعاني: يستحضر الاستئذان بالعمل، ويستحضر نية دفع الشياطين، كما يستحضر الرحمة الإلهية التي يتوقعها أثناء دخوله في بحر الصلاة.. وهنالك شبه بين التسمية، وبين الوضوء الدائم.. فمن المعروف أن الذي يواظب على الطهور، عندما ينتقض وضوؤه، يعيش حالة من الكدور الباطنية؛ وكأنه محدث بالحدث الأكبر.. وكذلك فإن الذي يتعوّد التسمية، فعندما يقوم بعمل وينسى التسمية؛ يعيش حالة الخيانة والجفاء لله عز وجل.. ولهذا أمرنا أنه عند الطعام إذا تذكرنا نسيان التسمية، نتدارك الموقف ونقول: بسم الله في أوله وفي آخره.. ولهذا فإن بعض العلماء الأبرار ينصحون بالجهر بالتسمية أثناء الطعام؛ لتذكير الغير.
وقد ورد بأن {بسم الله الرحمن الرحيم}، لها أثر عجيب في عالم العرفان.. ولو كانت هنالك عبارة أعظم وأجلّ من {بسم الله الرحمن الرحيم}؛ لاختارها الله -عز وجل- مفتتحا لكل سور القرآن.. وبذلك يتبين أن أكثر آية متكررة في القرآن الكريم هي آية البسملة؛ لأنها في صدر كل سورة، رغم أنها جاءت أيضا من خلال سورة النمل {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.