قمت، بشكل خاص، بتحليل دواليب (عجلات) الإغلاق الأولى من وجهة نظر ميكانيكية، وقد أوليت عناية خاصة لشكل كل عنصر من المكونات. ويبدو أن داڤينشي استعمل مكوّنات من ماكينات أخرى كان قد عمل عليها في ثمانينات وتسعينات القرن الخامس عشر ـ مثل أقفال الأبواب والدراجات ـ وقام بتجميعها بطريقة جد مبتكرة لينشئ دولاب الإغلاق.لنأخذ أولا صفحة من مجموعة مخطوطات الأطلسي (الأطلنطي)CodexAtlanticus، وهي مجموعة أخرى من مخطوطات ليوناردو موجودة حاليا في ميلانو. إن هذه الصفحة [انظر الشكل في الصفحة المقابلة] تشتمل على رسومات تخطيطية لأنواع من السلاسل والنوابض الموجودة في دواليب الإغلاق، ويُجمع كل تلاميذ داڤينشي على أن هذه الرسومات تثبت أنه كان على دراية بهذه الوسيلة. وتشتمل هذه الصفحة كذلك على رسوم لأزاميل لها الشكل V لقطع الخشب، ويبدو أن ليوناردو كان يحاول تطويع الأزاميل لقطع المعادن.إن الأزاميل التي رسمها ليوناردو تستحق عناية خاصة. فالشكلVفي هذه الأزاميل كان من الممكن أن يحفر حزّا على هيئة V(مثل سن اللولب) عند حافة الدولاب. وحافات دواليب الإغلاق كانت ـ في النماذج الأولى منها ـ تحمل عددا من هذه الحزوز. يضاف إلى ذلك، أن الحواف كانت تحمل عادة مجموعة ثانية من الحزوز شديدة الضيق يجري إحداثها بوساطة المبرد، وتتقاطع مع الأسنان المخلّقة حول الحافة، ويتم ضبط التباعد بينها بحيث تكوِّن عمليا، مجموعة صغيرة من الأسنان شبيهة بأسنان المنشار الدوّار. يبدو للوهلة الأولى أن هذا الترتيب شديد التعقيد دون داعٍ حقيقي، لأن كل سن من الأسنان كان يتم حفرها على حدة في مخزن البارود، كما أن الحزوز المستعرضة يمكنها أن تُحدث تداخلا يسيء إلى حسن الاشتعال.إلا أن فوائد هذا التصميم ظهرت عندما اختبرتُ بضع عينات من الدواليب، ووجدتُ أن الأسنان تبدو في الواقع شبيهة بأسنان منشار أو أداة قطع معادن دوارة. فالدولاب يمكنه ـ في الواقع ـ أن يحفر شقبه الخاص عند قاع المخزن المعدني الحامل لمسحوق البارود مما يؤمن تداخلا محكما بينهما. وارتباط وثيق كهذا هو في غاية الأهمية، لأن بارود التحضير (الذي يشعل الفتيلة) فائق النعومة، وإذا ما تلقّت البندقية صدما أو دفعا (إذا كان السلاح مع شخص على ظهر حصان، مثلا) فإن المسحوق يتناثر خارجا من خلال أية فُرجة بين الدولاب والمخزن. وعلى الرغم من أن المناشير التي ترجع إلى القرن الخامس عشر بطيئة ـ حيث إنها تستغرق عدة ساعات لتنجز ما تنتجه أدوات القطع الحديثة في ثوان ـ فإن درجة دقتها لا تقل جودة عما تؤمنه التقانة المعاصرة، وليس من العسير، بالنسبة لها، إبقاء التفاوت المسموح به في الأبعاد أقل من 3.0 ملّيمتر (0.01 بوصة).وقبل هذا الاكتشاف، كان تأريخ أول استعمال لأدوات قطع المعادن الدوارة يعود إلى أربعينات القرن السادس عشر بعد وفاة ليوناردو بزمن طويل. لذا، يبدو أنه يجب الاعتراف لليوناردو بفضل تطوير هذه الأدوات القاطعة، والتي تعتبر إنجازا عظيما بالنظر إلى ماكينة التفريز (الفارزة) الحديثة التي تتضمن هذه الأداة القاطعة، والتي تعد واحدة من أهم وسائل الإنتاج في وقتنا الحاضر.وعلى الرغم من أن عمل ليوناردو بالنوابض والسلاسل والأزاميل يُظهر بالتأكيد درايته بمكونات دولاب الإغلاق، فإن السؤال يظل قائما عن تاريخ تجميعها لاختراع هذه الوسيلة. ففي عام 1493 أدخل ليوناردو في خدمته <
إن رسومات أقفال الأبواب التي عُثر عليها في مجموعة مخطوطات مدريد يرجع تاريخها إلى أيام عمل الفني الألماني جيليو تدسكو مع ليوناردو داڤينشي في ميلانو، حيث تبين هذه الرسوم قضبانَ سقَّاطةٍ جرى تصميمها لتحفظ المثبت مفتوحا في مواجهة الضغط الواقع عليه من نوابض الإغلاق القوية. وتشبه هذه القضبان المِتْراس (عنصر الأمان) المستعمل في دواليب الإغلاق. ويحمل كلا الطرازين من القضبان نتوءات بارزة مثلثة الشكل ومثلّمة، وكذلك أوتاد تثبيت بارزة أقصر وأصغر، تبقي آليات الصلي في مكانها.G. تدسكو> (يعرف كذلك باسم جول الألماني) الذي عمل لعدة سنين فنيا في مشغل ليوناردو بميلانو. ولا يعرف الباحثون على وجه الدقة متى ترك تدسكو مدينة ميلانو، إلا أن ذلك ربما لم يتأخر عن عام 1500. وتشير ملاحظات من ليوناردو إلى أن تخصص تدسكو شمل أقفال الأبواب وغيرها من الآليات الميكانيكية التي تستخدم النوابض، كالأقواس المتعارضة وأدوات القص.شركاء في التصميم
إن رسومات ليوناردو التي تزامنت مع بدء استخدام أقفال الأبواب والصناديق، تحتوي على مكونات تشابه إلى حد كبير، أشكال أجزاء دولاب الإغلاق، مما يوحي بأن هذا الدولاب تم تطويره بوساطة ليوناردو وتدسكو اللذين عملا معا في منتصف تسعينات القرن الخامس عشر. يضاف إلى ذلك، أن هناك احتمالا بكون جول الألماني قد أخذ تصميم دولاب الإغلاق وعاد به إلى موطنه بعد أن ترك ليوناردو، الأمر الذي يُظهر كيفية وصول هذا الابتكار إلى شمال أوروبا في مطلع القرن السادس عشر.وحديثا، توصّل المؤرخ <
تظهر أجزاء الدراجة من جديد في دواليب الإقفال عند ليوناردو، فالمسننات والسلاسل في أعلى الرسم (من مجموعة مخطوطات مدريد) تبدو شديدة الشبه بالسلاسل التي تصل العمود بالنابض الرئيسي في دولاب الإغلاق، وقد أنشأ تلميذ سابق للمؤلف هو <K. ديتسمان> نموذجا متحركا لدراجة (الصورة العلوية المتداخلة)، وذلك بإدخال الكثير من المكونات الأخرى الواردة في مذكرات ليوناردو. يظهر نظام التوجيه في الصفحة المقابلة، والكوابح الشريطية في أسفل هذا الرسم. هذا وتعمل هذه الكوابح مثل نظيراتها المعاصرة بترك الدراجة تسير بلا انزلاق من دون استعمال الدواسات، كما أنها تسمح للراكب بالتوقف. أما شكل الكوابح الشريطية المستعملة فيظهر من جديد في دواليب الإغلاق المبكرة (الصورة السفلية المتداخلة).C. بلير> (الذي كان يعمل في متحف ڤيكتوريا وألبرت سابقا) إلى اكتشاف إثباتات إضافية تدل على أن داڤينشي اخترع دولاب الإغلاق، وقد قرر بلير أن صناعة دواليب الإغلاق بدأت عام 1510 على الأكثر، وذلك في مدينة سيڤيديل الواقعة في ولاية فريولي بشمال إيطاليا. ومن المحتمل أن يكون ذلك قد تم قبل هذا التاريخ ببضع سنين، ولقد مكث ليوناردو في فريولي ردحا من الزمن مشتغلا بالإشراف على تحصينات القلاع حتى سنة 1500 على أكثر تقدير، متقدما بذلك على أي ادعاء ألماني باختراع هذه الآلية.إن زَعْم ليوناردو بالسبق إلى الاختراع لم يكن السؤال الوحيد الذي يمس هذه البحوث في أصول دولاب الإغلاق. فقد تعلمت كذلك جانبا من كيفية قيام ليوناردو بالاستعارة من الماكينات القائمة وإعادة ترتيب مكوناتها لإنتاج أجهزة جديدة. ويمكن تعرّف هذا الأسلوب بكل وضوح عند إنعام النظر في الرسومات التخطيطية التي رسمها ليوناردو لأقفال الأبواب والدراجات.ولفتح الأقفال التي صمّمها والتي تركّب في الصناديق والأبواب، على الرغم من نوابض الإغلاق القوية، لجأ ليوناردو في بعض الأحيان إلى تصميم أقفاله بحيث يزودها بما يسمى بخوابير الصلي، التي كانت منفصلة عن المفاتيح اللازمة لفتح الآلية، وكانت تستخدم لزيادة ضغط النوابض في القفل. وهذه الخوابير كانت عادة على شكل الصامولة (الصمّولة) المجنحة أو صامولة الفراشة، وغالبا ما كان يزود كل جناح بعدد من الفتحات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض دواليب الإغلاق السابقة كانت أيضا مزودة بمثل هذه الخوابير التي تتصل بالدولاب بغية صلي القفل. ثمة تشابه آخر بين أقفال الأبواب ودواليب الإغلاق عند ليوناردو يمكن ملاحظته في السقّاطات الماسكة للنوابض في حالة إجهادها، ففي رسومات ليوناردو لكل من أقفال الأبواب ودواليب الإغلاق [انظر الشكل في الصفحة 23] تتكون السقاطات من قضيب يحمل على أحد جانبيه نتوءا بارزا ومثلَّما، مثلث الشكل، مع وتد تثبيت إضافي صغير.تقانة عصر النهضة
وعمل ليوناردو كذلك على تصميم الدراجة في التسعينات من القرن الخامس عشر، حيث تظهر السلاسل ذات الوصلات المسطحة وآليات الكبح في دراجته، وتظهر مرة أخرى في دواليب الإغلاق التي اخترعها. وقد ورد رسم بدائي لدراجة في مذكرات ليوناردو كان قد نُسب إلى أحد تلامذته، إلا أنه يُعتقد أن ذلك يعكس عملا سابقا على الدراجة وأجزائها. وهناك عدة مشكلات تتعلق بهذا الرسم، لا سيما ما يخص الدواسات ونظام التوجيه وآلية سلسلة القيادة.قمتُ مع عدد من تلامذتي السابقين في جامعة پردو (<
بعد عرض تم في باريس وفلورنسا، افتتح في مدينة نيويورك معرض «عجائب الميكانيك: الاختراع في عصر ليوناردو» وذلك في الشهر 10/1997 بصالة عرض ليبرتي ستريت في مركز العالم المالي. قدم العرض الذي يستمر حتى الشهر 3/1998 خمسين نموذجا عاملا لآلات تم تصميمها (ولكن لم يتم تنفيذها دائما) بوساطة عدة مخترعين بارزين من عصر النهضة. ونبيّن هنا بعض الاختراعات التي أعيد تنفيذها بغرض العرض. المحررون
E. بِلسْمان> و<J. بريانت> و<K. ديتسمان>) بتفسير رسوم إضافية ترجع إلى السنوات العشر الأواخر من القرن الخامس عشر رسمها داڤينشي بيده، وتمكنا بوساطتها من إعادة بناء نظام توجيه لدراجته على جانب لا بأس به من التعقيد. تبيّن صفحتان من مجموعة مخطوطات مدريدCodexMadridمكونات جهاز التوجيه وتصاميم تجريبية لسلسلة القيادة. يضاف إلى ذلك، أن ليوناردو رسم ما يبدو كأنه مجموعة من الكوابح الخلفية لدراجته التي تمكِّنها من السير بلا انزلاق من دون تشغيل الدواسات [انظر الشكل في الصفحة 24]. وجدير بالذكر أن كلا من آليات سلسلة القيادة والنابض الكابح في دراجة ليوناردو عادت إلى الظهور مرة أخرى في دواليب الإغلاق الواردة في التصاميم السابقة.إن اختراع دولاب الإغلاق يعتبر إنجازا حقيقيا على قدر بالغ من الأهمية، إذ إن أقفال البنادق السابقة ـ على وجه التحديد القفل المتوافق ـ كانت تعتمد على مصادر حرارية خارجية كخشب أو فحم متوهج لدرجة الاحمرار، أو ثقاب مشتعل بقصد إضرام النار في مسحوق البارود. وبعد إدخال دولاب الإغلاق، أمكن إخفاء البندقية وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بها جاهزة للعمل الفوري من دون الحاجة إلى انتظارٍ لإشعال الثقاب. إن هذا التقدم باتجاه إنتاج بنادق أكثر ملاءمة أدى، وبصورة نهائية، إلى تغيير الدور الذي تقوم به هذه الأسلحة في المجتمع.إن أول حادث مسجل لتفريغ شحنة بندقية ـ وهو حادث كان قد أصبح ممكنا باختراع دولاب الإغلاق ـ وقع سنة 1515 في مدينة كونستانس بألمانيا، وذلك طبقا للتقرير الأصلي الذي أورده كاتب معاصر هو الألماني <W. رِم>، حيث يتحدث عن أن رجلا يُدعى <L. بفيستر> استأجر عاهرة و«عندما كانت معه في غرفة صغيرة أمسك الرجل بيده بندقية محشوة، وكان جهاز الإقفال فيها يعمل بشكل أنه عندما يُضغط على آلية الإشعال يحدث اشتعال ذاتي وتنطلق القطعة (الطّلْقة)». كان بفيستر يلهو بالبندقية عندما انطلقت منها طلقة لتصيب المرأة في ذقنها. وكانت العقوبة أن يقوم الرجل بسداد المطالبات الطبية، وأن يوفر للمرأة دخلا ثابتا في كل عام طوال بقية حياتها.إن العدد المتزايد من البنادق ذات دواليب الإغلاق، التي يُلوِّح بها قُطّاع الطرق وغيرهم من اللصوص والفارين من وجه العدالة، دفعت السلطات إلى إصدار قوانين لمنع إنتاج وتشغيل دواليب الإغلاق. بيد أن الدلائل تشير إلى أن كلا من صنّاع الأسلحة الصغيرة والمتعاملين بها تحايلوا على هذه القوانين، وصارت الجهود المبذولة للسيطرة عليها غير كافية على المدى البعيد. ثمة عوامل مادية كالثمن ومدى الاعتماد وحجم الطلب على البنادق ذات دواليب الإغلاق دخلت في الاعتبار وحددت كيفية استخدام هذه الوسائل.وعلى مدى القرون منذ عصر ليوناردو كان للتقدم في صناعة البنادق أثر في مجالات أخرى. والتأثيرات الأكثر أهمية هي ـ بكل تأكيد ـ تقانة الإنتاج على نطاق واسع باستخدام المكونات التبادلية. ومن البدايات المتواضعة كتركيب دولاب دوار في مخزن البارود فإن الكثير قد تحقق وتطور. وتساؤل ليوناردو عما إذا كان قد تم تحقيق أي شيء على الإطلاق يمكن الإجابة عنه بالإيجاب، وبكل تأكيد.