إن مذكرات ليوناردو داڤينشي تزخر بالاختراعات، بدءا من الأجزاءالدقيقة للبندقية، إلى الدراجات والسيارات. ولكن هل وجدأي من إبداعات ليوناردو طريقه إلى التطبيق أثناء حياته؟<V. فولي>
تقول الأسطورة إن الفنان والمخترع الإيطالي الكبير ليوناردو داڤينشي كان يردد عند احتضاره «أخبروني إن كان أحد اختراعاتي قد وجد طريقه إلى التطبيق.» وعلى الرغم من أن المؤرخين يتحفظون حول دقة هذه الرواية، فإن هذه المقولة تَرِد في مذكرات ليوناردو، وهذا يوحي بأنه كان يتأسف لأنه لم يستطع أن يحقق في حياته أكثر مما فعل.إن السؤال عن مقدار ما حققه ليوناردو خلال حياته التي امتدت 67 عاما (1452 - 1519) ظهر من جديد لدى العلماء المعاصرين المختصين بهندسة عصر النهضة. وعندما نُشرت مخطوطات ليوناردو لأول مرة في نهاية القرن التاسع عشر دُهِش القراء من كثرة الصفحات المكتظة بالاختراعات التي لم تنفذ إلا بعد مئات السنين، ولكن ما إن انتصف القرن العشرون حتى حدث تحوُّل في وجهات النظر. فالمؤرخون من أمثال <
B
. جيل> و<
L
. أولشكي> أشاروا إلى أن ليوناردو يدين كثيرا للمخطوطات الهندسية التي تركها علماء عصر النهضة الذين سبقوه وإلى أنه كان عنصر استخراج أو اشتقاق فقط.
تصميم دولاب (عجلة) الإغلاق من مجموعة مخطوطات الأطلسي Codex Atlanticus لليوناردو داڤينشي (أعلى الصفحة المقابلة). يبين الشكل قطاعا مستعرضا يمر بمنتصف محور الدولاب. عند إعداد (تجهيز) البندقية بدولاب الإغلاق استعدادا لإطلاق النار (في الأعلى)، يجري إنزال ملزمة قابضة على حجر من پيريت الحديد إلى أن تحتك بالدولاب الذي يتصل بالنابض الرئيسي بوساطة سلسلة قصيرة (ذات حلقات مسطحة) متصلة بمحور الدولاب. يثبت الدولاب في موضعه أثناء الصلي بوساطة لُسين أمان (متراس). عند سحب الزناد يعتق المتراس ويبدأ الدولاب بالدوران وحك حجر پيريت الحديد، مما يولِّد شرارات.
بدأت سمعة ليوناردو تستعيد مكانتها بعد اكتشاف المزيد من مذكراته في الستينات من هذا القرن، وقد نُشرت بعنوان «مجموعة مخطوطات مدريد». وجدير بالذكر أن الناشر الأصلي للمخطوطات ـ المؤرخ الإيطالي <
L
. ريتي>، وخليفته <
A
. مارينوني> إضافة إلى المؤرخ والجامع الثري الأمريكي <
B
. ديبنر> ـ وجدوا جميعا في المذكرات أمثلة عن التصاميم الأصيلة والأعمال التجريبية التي وضعها ليوناردو. وأزاح الباحثون الستار عن براهين بأن أعمال صُنّاع ذلك العهد تضمنت بعضا من أفكار داڤينشي في مشروعاتهم الخاصة.
ومع ذلك، يبقى السؤال قائما عما إذا كان أي من اختراعات ليوناردو الأساسية قد خرج من حَيِّز الورق إلى مجال التنفيذ العملي في حياته. ويبدو أن هناك واحدا على الأقل حقق ذلك، وهو دولاب الإغلاق.
دولاب الإغلاق، المقبض والماسورة
يشكّل دولاب الإغلاق وسيلة ميكانيكية توفر الشرارة اللازمة لإشعال المركبات القابلة للاشتعال، وعلى وجه الخصوص البارود. وفي تصميم حديث يمكن تعرّف دولاب الإغلاق في معظم ولاعات السجائر، أما في عصر ليوناردو فإن دولاب الإغلاق كان يستخدم أساسا في الأسلحة النارية الصغيرة، مثل البندقية التي يمكن حملها وإطلاقها بوساطة فَرْدٍ واحد. وكانت هذه البنادق تتكوّن من ثلاث قطع: المفجّر المعروف والمقبض الخشبي والماسورة. تقوم الماسورة الأسطوانية الطويلة للبندقية باحتواء مسحوق البارود والطلقة، وبتوجيه القذيفة عند إطلاق البندقية. ويثبّت جهاز الغلق في مؤخرة الماسورة، أما المقبض (الدبشك) فيشكل الجزء الخشبي للبندقية، وهو الذي يمسك القطعتين الأخريين معا.إن بعض مكونات دولاب الإغلاق تشبه تلك المستخدمة في أقفال الأبواب، ولعل هذا التماثل هو الذي أدى إلى تسميتها بهذا الاسم. يتألف دولاب الإغلاق من دولاب من الصلب وسلسلة متصلة بمحوره تربط الدولاب بنابض قوي. وتقوم كل من السلسلة والنابض بلف الدولاب صعودا إلى الأعلى استعدادا للإطلاق (فتح النار)، وبمجرد وصول حركة اللف إلى أقصى مداها، تقوم سقّاطة (غالبا ما تُعرف بلسين الأمان، أو المتراس) بتثبيت الدولاب في مكانه حتى يُعتق عند شد الزناد (المقداح)، وعندئذ يشرع الدولاب بالدوران فيحتكُّ بحجر صلب، يكون عادة من پيريت الحديد (حجر أصغر من الكبريت والحديد) مضغوط بشدّة على الدولاب الدوار بوساطة نابض ثان. وخلال هذه العملية، يؤدي الاحتكاك الداخلي إلى تسخين الفتات الناتج من الحك إلى حدّ التوهج. هذا، وينحشر الجزء العلوي من حافة الدولاب في مخزن البارود من خلال شقب ضيق عند قاعدته، وتؤدي الحرارة الناجمة عن الشرارات إلى إشعال النار في شحنة من مسحوق البارود داخل المخزن.
تُبيِّنُ رسومات تخطيطية من مجموعة مخطوطات الأطلسي طرازين من مكونات دولاب الإغلاق هما النوابض الملولبة وعدد من السلاسل ذات الوصلات المسطحة تظهر بحبر ضعيف نازف من الجانب الآخر. ويبدو أن النوابض الملولبة استحوذت على اهتمام ليوناردو؛ إذ إنها أقل حجما من تلك المسماة بالنوابض الورقية المسطحة التي كانت شائعة في وقته. وفي أعلى الصفحة رسم داڤينشي سلسلة من الأزاميل التي لها شكل V والتي تتسع زواياها إذا انتقلنا من اليمين إلى اليسار (كان ليوناردو أعسر، يكتب من اليمين إلى اليسار). وفي أسفل اليمين، يظهر شكل جانبي للإزميل، الثاني من المجموعة، مع الشكل V ظاهرا على السطح السفلي للإزميل، حيث يبدو وهو يقوم بالقطع عند حافة الدائرة ـ من المحتمل أن تكون دولاب إغلاق. ولقد استخدم المؤلف أزاميل مماثلة لإعادة تخليق الحزوز (الصورة المتداخلة) التي كثيرا ما تظهر حول حواف دواليب الإغلاق في التصاميم السابقة.
وعلى الرغم من أن عددا من المخططات التي أنجزها ليوناردو، والتي مازالت موجودة حتى يومنا هذا، دفع بعض المؤرِّخين إلى القول بأن داڤينشي هو مخترع دولاب الإغلاق، فإن البعض الآخر من المؤرخين لم يوافق على ذلك. يقول المنكرون إن أقدم إنتاج موثّق لدولاب الإغلاق قد تم في بلاد أبعد شمالا، في ما يعرف اليوم بألمانيا، وقد خَلُص هؤلاء الباحثون إلى أن ليوناردو لا بد وأن يكون قد رسم تصميمه الخاص بدولاب الإغلاق بعد سماعه عن التطورات الألمانية في هذا الشأن.وإلى أمد قريب، لايزال البرهان المتوفّر حول هذا الموضوع غير قاطع. فالرسومات الألمانية الأولى لدواليب الإغلاق، التي ترجع إلى بداية القرن السادس عشر، تعود إلى تاريخ قريب من تاريخ تصاميم ليوناردو. والمراجع المدونة حول الدولاب، وكذلك العدد القليل المتبقي من البنادق، هي أيضا لا تساعد على التفسير. وعلى الرغم من ذلك، فإن توجها حديثا لهذه المشكلة يقدم دليلا ثبوتيا على أن ليوناردو يستحق أن يُنسب إليه فضل التوصل إلى هذا الاختراع، حيث إنه بدأ العمل على دواليب الإغلاق في عام 1493 أو نحو ذلك.