العطاء في حياة الإمام علي (عليه السلام )

العطاء سمة بارزة من سمات الأنبياء والأئمة والأولياء والقادة والعظماء، وحياة الأنبياء والأئمة كلها عطاء في عطاء، فرسالتهم في الحياة هي العطاء، والتي تشمل كل جوانب العطاء الروحي والمعنوي والديني والفكري والتربوي والسلوكي. وكذلك القادة والزعماء لا يمكن أن يكونوا كذلك إلا بالعطاء لمجتمعهم وأمتهم؛ وإلا فإنهم قادة وزعماء مزيفون لا يرتبطون بواقع العطاء بأية صلة حقيقية. ومما يؤسف له حقاً أن أكثر الناس لا يهتمون إلا بقضاياهم الخاصة، ومصالحهم الشخصية؛ ولا يعيرون لقضايا المجتمع أو الأمة أية أهمية، ولذلك يأتون إلى هذه الحياة الدنيا ثم يذهبون إلى العالم الآخر وكأنهم لم يأتوا ولم يولدوا ولم يعيشوا في هذه الحياة . وهناك من الناس من يهتم بقضايا مجتمعه، ويعمل على تنميته وتطويره، والارتقاء به نحو الأفضل والأحسن، والمساهمة في رقيه نحو مدارج الكمال. وقلة قليلة من البشر ممن يكرس حياته كلها من أجل قضايا أمته الكبيرة، فيضحي بوقته وماله وراحته؛ بل وحياته كلها من أجل الارتقاء الحضاري بأمته، ومنافسة الأمم الأخرى، والسعي للتفوق عليها جميعاً. وعندما نقرأ سيرة الإمام علي (عليه السلام) سنجد أن حياته كلها كانت عطاء متواصلاً من أجل خدمة قضايا أمته، ونشر رسالة الإسلام إلى العالم، والتضحية بمصالحه الشخصية من أجل مصالح الأمة، والصبر على الجراح والمعاناة من أجل إسعاد الآخرين؛ بل والتنازل عن حقه في الحكم والخلافة من أجل حفظ وحدة المسلمين، وتقوية الإسلام؛ وهذا هو من أعظم العطاء. لنبدأ الإبحار في سيرة الإمام علي (عليه السلام ) من عطائه المالي وإنفاقه كل ماله من أجل إسعاد الفقراء والمحتاجين، فقد ((كان الإمام علي (عليه السلام ) يقدم الآخرين على نفسه، ويبحث عمن يعطيه ويعتبر ذلك ديناً عليه، لا له، ويقول: ((الكريم يرى مكارم أخلاقه ديناً عليه يقضيه، واللئيم يرى سوالف إحسانه ديناً له يقتضيه )). ولذلك فإنه (عليه السلام) كان يبحث عن ذوي الحاجة ليعطيهم، كما يبحث أحدنا عن الدر والجوهر. وكما يقول أحدهم: (( ما كان علي لينتظر حتى يسأله سائل، بل كان يبحث هو نفسه عن صاحب الحاجة، والمسكين، واليتيم، والفقير، والمحروم، يمضي إليهم هو ويعطيهم من ماله ما يعتقد أنه حق لهم معلوم. وكان يقول (عليه السلام): السخاء ما كان ابتداء أما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم)) ( فرار من الذم). هكذا كان يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى .. ولسوف يرضى ! وقد جعله ربه رضياً. ولشد ما كان يرضى إذ يسعد الآخرين !!.. وكان عند ربه مرضياً !.. أرضى الله ورسوله، فأرضاه الله ورسوله ) وحينما رزق الله المسلمين غنائم كثيرة واتسع رزق المجاهدين منهم، اتخذ بعضهم المزارع، والدور الكبيرة، وفاخر الرياش.. أما هو ونفر من كبار الصحابة، فقد كانوا يتصدقون بما يغنمون!، بل ولم يكن يؤخر العطاء من الليل إلى النهار. فعن سالم الجحدري قال:(( شهدت علي بن أبي طالب (عليه السلام ) أُتي بمال عند المساء، فقال: اقتسموا هذا المال: فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين فأخّره إلى غد.فقال لهم: تقبلونلي أن أعيش إلى غد ؟قالوا: ماذا بأيدينا ؟فقال: لا تؤخّروه حتى تقسموه )) وكان الإمام علي يعاتب من لا يشجع على الكرم، أو يدعو إلى البخل وقد روي:(( إن أمير المؤمنين (عليه السلام ) بعث إلى رجلٍ بخمسة أوساق من تمر. فقال له رجل: (( واللهِ ما سألك فلان، ولقد كان يجزيه من الخمسة أوساق، وسق واحد. فقال له (عليه السلام ): (( لا كثر الله في المؤمنين ضربك، أعطي أنا وتبخل أنت؟)) . وقد كان الإمام علي يُعطي بمقدار كرمه هو، لا بمقدار حاجة من يعطيه. من ذلك ما روي أن إعرابياً سأله شيئاً، فأمر له بألف، فقال وكيله: من ذهب أو فضة ؟ ( أي دينار أو درهم ). فقال (عليه السلام ): كلاهما عندي حجر، فأعطِ الإعرابي أنفعهما له. هكذا كان الإمام علي (عليه السلام ) في عطائه المالي لا يفرق بين أن يكون العطاء من فضة أو ذهب !! فالمال عنده مال الله، وهو المؤتمن عليه، و الناس عباد الله، وعليه أن يعطيهم من مال الله الذي بيده؛ وإن لم يبقَ لعائلته إلا أقل من القليل؛ لأنه إمام المسلمين، وليس كأحدهم. وكان الإمام يهتم بقضاء حوائج الناس مهما كانت، فيعطف على الضعيف، ويرحم المستضعف، ويقضي حاجة كل محتاج، ويسعى لحل المشاكل بين الناس. روي أن سعيد بن قيس الهمداني رآه في شدة الحرّ، في فناء حائط، فقال له: يا أمير المؤمنين ( أتخرج ) بهذه الساعة؟ فقال (عليه السلام ): (( ما خرجت إلا لأعين مظلوماً أو أغيث ملهوفاً )) . ومظهر آخر من مظاهر العطاء عند الإمام علي (عليه السلام ) هو استعداده الدائم للتضحية بنفسه من أجل الإسلام، فما كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم ) يطلب أحداً لمبارزة الأعداء إلا وكان الإمام علي هو السبّاق لذلك، كان الجميع يهابه لكنه لم يكن يهاب من أحد حتى وإن كان معروفاً بقوته وبطولته، وكان الإمام علي (عليه السلام ) دائماً هو المنتصر على أعدائه. ولعل من أبرز مصاديق استعداده للتضحية هو مبيته على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) رغم المخاطر التي كانت تحف به، حيث كان من الممكن أن يستشهد في تلك الليلة؛ لكن الإمام علي (عليه السلام ) لم يكن يخاف الموت، ولم يكن يجبن عند الشدائد، فقد كان يعرفه الجميع بالشجاعة والبطولة. ويتجلى عطاء الإمام علي (عليه السلام ) مرة أخرى بعدم قيامه بأي عمل عنيف ضد من أخذوا الخلافة منه، وتحمله للظلم الذي وقع عليه من أجل الحفاظ على وحدة المسلمين، وانتشار الإسلام، فهمه هو الإسلام وليس ذاته الشخصية. يقول الإمام علي (عليه السلام ): (( لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه )). قال الشيخ ميثم البحراني شارحاً هذا الكلام: إن غرض الإمام علي(عليه السلام ) (( هو صلاح حال المسلمين واستقامة أمورهم وسلامتهم عن الفتن، وقد كان لهم بمن سلف من الخلفاء قبله استقامة أمر وإن كانت لا تبلغ عنده كمال استقامتها لو ولي هو هذا الأمر، فلذلك أقسم ليسلمن ذلك الأمر ولا ينازع فيه؛ إذ لو نازع فيه لثارت الفتنة بين المسلمين وانشقت عصا الإسلام وذلك ضد مطلوب الشارع، وإنما يتعين عليه النزاع والقتال عند خوف الفتنة وقيامها )) (9) .فالإمام علي (عليه السلام ) يهمه ـ بحسب رأي ابن ميثم ـ صيانة مصالح المسلمين، والحفاظ على وحدتهم، وضمان مصالحهم العامة، والقضاء على الفتنة بينهم، وإن كان في ذلك ظلم على الإمام علي (عليه السلام ) خاصة، فالحفاظ على الوحدة الإسلامية أهم من الدخول في صراع مع من سبقه من خلفاء، وإن كان ذلك يؤدي قهراً إلى ضياع حقه في الخلافة، مع علم الجميع ـ كما أشار الإمام نفسه ـ إلى أنه أحق الناس بالخلافة من غيره.(10) وخلاصة الكلام: إن مظاهر العطاء في سيرة الإمام علي (عليه السلام ) لا تقتصر على جانب دون آخر، ولا على شريحة دون أخرى، ولا على مناسبة دون مناسبة؛ فحياته كلها عطاء، ولذلك سيبقى الإمام علي (عليه السلام ) عظيماً على مر الدهور والسنين، ولن تستطيع كل الحواجب أن تمنع شمس عظمته من الإشراق والانتشار. فلتكن حياتنا عطاء وعندما نستذكر حياة الإمام علي (عليه السلام ) في العطاء والتضحية من أجل قضايا الأمة، ومصلحة الإسلام والمسلمين، فلنكن في عطائنا كالإمام علي (عليه السلام ) ـ ولن نكون كمثله ، في عطائه لأمته، واستعداده للتضحية بنفسه وبكل ما يملك من أجل خدمة الآخرين، والحفاظ على الأهداف الإسلامية الكبرى. فالإنسان الكبير والذي يسجل التاريخ اسمه هو من يعطي وقته وماله وحياته من أجل الآخرين، أما من لا يهتم إلا بمصالح نفسه وذاته، ولا يهمه قضايا الأمة، ومصالح المجتمع، فإن التاريخ لن يقبل أن يسجل هؤلاء الأنانيين في دفاتر وسجلات القادة والعظماء. فالإنسان يكون كبيراً بعطائه المتواصل وتفانيه من أجل تنمية مجتمعه، والسعي لتقوية أمته، وكلما كبر عطاء الإنسان كبر حجمه ومكانته عند الله سبحانه وتعالى وعند الناس. وكما تتفاوت الأفراد في عطائها وفاعليتها كذلك تتفاوت المجتمعات في عطائها وإنتاجها؛ فنجد أن هناك مجتمعات معطاءة من أجل منافسة المجتمعات الأخرى، والاعتماد على أنفسنا في كل مجالات الحياة، وهناك مجتمعات تعتمد على غيرها في كل شيء، الغذاء والصناعة والاقتصاد بل وحتى الملابس، وهذه المجتمعات عادة ما تكون متخلفة حضارياً، وغير قادرة على التطور والتقدم، أما المجتمعات المعطاءة فهي دائماً تسير نجو التطور والتقدم والازدهار. فلتكن حياتنا كلها عطاء، ولنقتدي بالإمام علي (عليه السلام ) في عطائه وتضحيته من أجل أن يكون الإسلام في رفعة، والمسلمون في تطور وتقدم وازدهار، وأن يعيش الناس في سعادة واطمئنان.