معايير دولية التحكيم التجاري
القاضي محمد عبد طعيس مقدمة
يعد النشاط التجاري في مقدمة الاعمال التي تثير المنازعات بين الافراد وخصوصا الممتهنين لهذا النشاط بحكم طبيعة الانسان الفطرية وحبه الشديد لذاته وتطلعه للاستحواذ على كل عناصر الحياة والذي يعد المال في مقدمتها ، وحيث ان الامور لا تستقيم وتستقر الا بأيجاد سبل فعالة لتسوية تلك المنازعات التي في العادة لا تتقيد بحدود جغرافية معينة بحكم طبيعة الانشطة التجارية وما يترتب عليها من امتدادات خارج اطار الدولة الواحدة ليس بالمقدور حصر منازعاتها ضمن سيادة دولة معينة او تحت ولاية قوانينها الوطنية ، فقد دعت الحاجة الملحة اخضاع تلك المنازعات التجارية لأطر قانونية وقضائية تفوق الاطر الوطنية الضيقة التي لم تعد صالحة للفصل في المنازعات المذكورة اصلا بسبب قصور ولايتها اضافة لما تحتويه قوانينها من جمود واجراءات مطولة قد تربك قدرات التجار وتهز مراكزهم المالية ، الامر الذي دفع اطراف النزاع التجاري للاتجاه الى التحكيم لحل خلافاتهم عن طريق الاتفاق الرضائي على تعيين محكم او محكمين للفصل فيما بينهم ثم يرضون بالحكم الذي يصدره هؤلاء المحكمين ، ولم يتوقف الامر عند تحديد او تسمية المحكمين بل يتدخل اطراف النزاع احيانا حتى في تعيين القواعد القانونية التحكيمية الواجبة التطبيق على نزاعهم ، ولكن ولوج هذا الطريق يتطلب اتسام النزاع التحكيمي بالطابع الدولي نتيجة ارتباطها بعناصر اجنبية قد ترد من عدة مشارب مثل رابط الجنسية او طبيعة النز اع او تعدد الانظمة القانونية التي تتنازع على حكم النزاع التحكيمي وهي محل اجتهاد وخلاف بين الشراح والمهتمين بالشأن التجاري الدولي ، مما كان ذلك مدعاة للبحث في كيفية اكتساب العملية التحكيمية صفتها الدولية وهل ان هذه الصفة تمنح جزافا كل نوع من انواع التحكيم حتى ولو كان النزاع ذا عناصر وطنية ، ام ان هذه الصفة تمنح الى عملية التحكيم التي تكون عناصرها دولا مختلفة او اطرافا ينتمون الى جنسيات متعددة ؟ ولكي نقدم اجابة مقنعة وجدنا من الضروري معرفة المعايير التي اعتمدت في تحديد دولية التحكيم التجاري وما لها من اثر في تحديد القواعد القانونية الواجبة التطبيق على النزع التجاري ، الامر الذي يستلزم البحث في كيفية اكتساب التحكيم التجاري الصفة الدولية ، هل يتم بفصل وابعاد النزاع عن القوانين الوطنية او باخضاعه للاحكام القانونية المنظمة للاتفاقيات الدولية او ان طبيعة النزاع وتعدد عناصره الاجنبية هي المبرر لاكتساب تلك الصفة ، ام انها ناتجة عن ارتباط اجراءات وموضوع النزاع بعدة انظمة قانونية . . وهو ما سنتولى بحثه تباعا. اولا:- فصل التحكيم عن النظام القانوني الوطني . يجد المنادون بتبني هذا المعيار وجوب تجرد احكام التحكيم التجاري عن الاطار القانوني الوطني الضيق حتى يكتسب صفته الدولية المرنة ، ويتجلى هذا الفصل في جانبين اولهما خروج موضوع النزاع من نطاق قواعد الاجراءات الوطنية التي تنظم كيفية السير في اجراءات التحكيم من قبل المحكمين وثانيهما عدم تطبيق القواعد القانونية الوطنية على موضوع النزاع ذو الطابع الدولي[1] . ويتضح هنا ان تدخل ارادة طرفي النزاع لا تتوقف عند حد فصل موضوع نزاعهما عن الاطار الوطني بل في اختيار القواعد التحكيمية التي تحكم العلاقة القانونية بينهما والا لا مبرر للخروج من ولاية الاحكام التشريعية المحلية ان لم يكن هناك بديل تشريعي وقضائي يتولى مسألة فض النزاع ، وهذا بدوره يتطلب معرفة طبيعة هذه القواعد وكيف اكتسبت صفتها الدولية التي جعلت منها صالحه للتطبيق والقبول من اطراف النزاع ، لنجد من خلال التقصي والبحث انها قواعد تحكيمية متعارف عليها دوليا نشأت وفق التقاليد والاعراف التي سارعليها الممتهنون للنشاط التجاري الدولي واكتسبت ثباتها والزاميتها بمرور الزمن نتيجة ما ولدته من اقناع واحترام لدى العاملين في ذلك النشاط وهي في العادة تكون قواعد مباشرة ومستقلة بالفئة المذكورة ، أي بعبارة اخرى ان هذه القواعد تنتمي الى نطاق يختلف عن الاطار التقليدي لمصادر القواعد الوطنية وبشكل يفوق المرتكزات التي اسست عليها تلك القواعد لذا سميت بالمصادر فوق الوطنية او ما يعرف بقانون التجار[2] . ويبدو لنا مما تقدم ان الصفة الدولية للتحكيم تظهر اعترافا قانونيا بالعرف الاجتماعي وما اعتاد عليه اهل التجارة وما تكون لديهم من تقاليد واعراف تجارية خارج اطار النطاق الوطني ، ولا شك ان هذه القواعد في مصدرها هي نتاج اعراف وطنية متعددة التقت في اطار وطابع دولي وقننت بما يتناسب مع شريحة الممتهنين للنشاط التجاري الدولي واصبحت بحكم القواعد الملزمة لهم لذلك فهي ان سميت قواعد تحكيم دولية الا انها في الاساس وطنية المصدر او المنشأ ، ولعل هذا الفرض يقودنا الى التساؤل ان كانت القواعد التحكيمية الدولية وطنية المصدر فكيف يمكن لها التجرد من الصفة الوطنية ونزع صفة الجنسية عنها لكي يمكن تدويلها وتطبيقها على اطراف ذوي جنسيات متعددة خارج الاطار الوطني الذي نشأت فيه ؟ والاجابة عن ذلك تتطلب معرفة او تحديد اشخاص العلاقة التحكيمية لنجد انهم اطراف متعددة الجنسية او على الاقل احدهم يعد عنصرا اجنبيا مما يتعذر اخضاعهم لأي احكام قانونية وطنية ، الامر الذي يستلزم تجرد المحكمين عند اجراء التحكيم من اعتماد الصفة الوطنية او المصدر القانوني الوطني وعدم اعطاء التحكيم جنسية أي دولة حتى التي كانت هي منبع للقاعدة القانونية التحكيمية موضع التطبيق ، أي بعبارة اخرى يأخذ المحكمون بالقاعدة القانونية الوطنية لغرض السير بالعملية التحكيمية دون اخضاعها للقانون الوطني أي الاعتراف بالقاعدة وتنفيذها على علاقة دولية ذات عنصر اجنبي دون منح العملية التحكيمية جنسية القاعدة القانونية التي نشأت عنها [3]. لذلك يتجسد معيار فصل العملية التحكيمية عن النطاق القانوني الاجرائي والموضوعي الوطني بأسباغ الصفة الدولية على ما يطبق منها على العملية التحكيمية ذات العنصر الاجنبي بأعتبارها قواعد قانونية دولية وابعاد العملية التحكيمية عن أي رابط وطني كالجنسية او الاقامة او الموطن ، كما هو حال القواعد التحكيمية المعتمدة في اتفاقية نيويورك لعام 1958 التي فصلت العملية التحكيمية عن أي نظام قانوني وطني محدد واقتصرت معالجتها فقط بالاعتراف وتنفيذ الاحكام الصادرة في دول غير الدول المراد التنفيذ فيها واعتمدت معيار مكان صدور الحكم كأساس لمنح الجنسية للقرار التحكيمي فقط ، وسارت بنفس الاتجاه اتفاقية جنيف لعام 1961 وكذلك اتفاقية واشنطن لعام 1965 ، ويظهر لنا هذا التوجه خطوة متطورة بأتجاه نزع الجنسية عن التحكيم التجاري الدولي وعزله لاقصى درجه ممكنه عن النظم القانونية الوطنية احتراما لارادة اطراف العلاقة التحكيمية ، مما كان ذلك مبررا لمسعى اهل الفقه منذ امد بعيد الى ايجاد نظم قانونية دولية بوسع الافراد والجماعات الاحتكام اليها لما تمتلكه هذه النظم من آليات اكثر مرونة وتطورا من القوانين الوطنية بالشكل الذي جعل العملية التحكيمية الدولية تبدو اكثر تنظيما ، خاصة بعد ان أطرت هذه القواعد الدولية وقننت ضمن اطار عمل مؤسساتي دولي بأمكان الافراد اللجوء اليه للفصل في نزاعاتهم بعيدا عن الاطر القانونية الوطنية وما تنطوي عليه من قيود ، الامر الذي يمكن معه القول ان التحكيم يكتسب صفته الدولية بخضوعه لقواعد قانونية مغايرة للقواعد القانونية الموجودة في التشريعات الوطنية وان هذا التغاير يتجلى في تدخل ارادة اطراف العلاقة التحكيمية في اختيار القواعد الاجرائية والموضوعية المطبقة على التحكيم بغض النظرعن مصدر هذه القواعد وتعددها وان كانت نابعة من مصادر وطنية او غيرها . ثانيا: - دولية التحكيم وفق اسس الاتفاقيات الدولية . ان كان لتدخل ارادة اطراف العلاقة التحكيمية في اختيار القاعدة القانونية الدولية لحكم النزاع الذي ينشأ بينهم امر جوهري في اكتساب التحكيم صفته الدولية كما اشرت انفا ، فان بعض المنازعات التجارية اوجبت بحكم طبيعتها على الدول قبول بعض الاتفاقيات الدولية المتعلقة بفض تلك المنازعات التحكيمية ضمن الاطار الدولي استثناءا من ولاية تشريعاتها الوطنية ومبدأ السيادة ، ولعل الامر هنا لا يقتصرعلى الاعتراف بالتحكيم الدولي فقط بل يتعدى الى موافقة تلك الدول على اخضاع منازعات معينة لاجراءات القواعد التحكيمية الدولية وقبول تطبيق وتنفيذ قرارات التحكيم الصادرة بشأنها ، وهذا ما حصل في اتفاقية واشنطن لعام 1965 عندما اقرت التحكيم الدولي في نزاعات الاستثمار بين دول من جهة ومواطنين من دول اخرى منظمة الى الاتفاقية من جهة اخرى ، وكذلك الحال فيما ينشأ من نزاع بين مستثمر من دول اخرى مع الدول التي حصل الاستثمار فيها ، أي بعبارة اخرى اجازت هذه الاتفاقية للمستثمر ان يتفق مع الدول التي يستثمر على ارضها تضمين عقد الاستثمار شرط يفيد بأخضاع العلاقة القانونية بينهما للتحكيم وفق بنود الاتفاقية المذكورة. ونجد صورة اخرى لاقرار دولية التحكيم في الاتفاقية الدولية الخاصة بنقل الركاب والامتعة بواسطة السكك الحديدية والاتفاقية الدولية الخاصة بنقل البضائع لعلم 1961 حيث اجازت هاتان الاتفاقيتان صراحة لاطراف النزاع الاتفاق على حل نزاعاتهم عن طريق التحكيم اولا ثم اللجوء الى المحاكم الوطنية ثانيا[4] . وبنفس المآل ذهبت اتفاقية موسكو لعام 1972 المتعلقة بتسوية المنازعات المتولدة عن التعاون الاقتصادي والعلمي والفني عن طريق التحكيم ، ولكن الجدير بالملاحظة ان احكام هذه الاتفاقية وما سبقها من اتفاقيات لم يقتصر دورها على اقرار دولية التحكيم كما اشرت بل تعدى الامر الى اخضاع بعض منازعات الدول الموقعة عليها للتحكيم الدولي وموافقة تلك الدول تحمل مسؤولية اعطاء القوة التنفيذية لما يصدر عن التحكيم من قرارات كأنها احكام قضائية وطنية[5]. كل ذلك اثار تساؤلنا حول اكتساب ذلك النوع من التحكيم صفته الدولية هل يتم فعلا من خضوع اطراف النزاع لأحكام الاتفاقيات الدولية في حسم نزاعهم او ان العملية التحكيمية تكتسب صفتها من طبيعة القواعد القانونية التي تحكمها والمنصوص عليها في الاتفاقية المذكورة وهي قد لا تكون ذات منشأ دولي اساسا ؟ وللاجابة عن ذلك نود الاشارة الى ان خضوع العمليات التحكيمية لأحكام الاتفاقيات الدولية يعني بالضرورة خضوعها لأحكام قانونية دولية تبنتها هذه الاتفاقيات بغض النظر عن منشأ هذه القواعد ومصدرها طالما انها قواعد تحكيمية نظمت ضمن اطار الاتفاق الدولي واصبحت وليدة ذلك الاتفاق الذي البسها السمة الدولية . وبذلك يمكن القول ان القواعد القانونية الاجرائية والموضوعية التي تنظم العملية التحكيمية هي قواعد دولية لا ترتبط بأي نظام قانوني وطني وهي في العادة اما ان تكون قواعد قانونية مباشرة اعتمدت ضمن الاتفاقيات الدولية وقننت للعمل بها ضمن الاطار التجاري الدولي او ان تكون قواعد غير مباشرة نشأت وتطورت بسبب تراكم العرض والخبرات وما استقرعليه الممتهنون للتجارة الدولية من اعراف دولية تكاد تشترك في نموها وتطورها العديد من الدول ورعاياها ، وفي الحالتين فأن القواعد التحكيمية المذكورة شرعت ضمن نظم دولية وفي اطار منظمات او مؤسسات ذات طابع دولي الامر الذي اكسبها الصفة الدولية ، ومع خضوع العملية التحكيمية اساسا لهذه القواعد التي تضعها تلك المراكز التحكيمية الدولية يكون التحكيم التجاري قد اكتسب الصفة المذكورة . ثالثا:- دولية التحكيم وفق دولية النزاع. اتجه البعض الى اعتماد واقعة النزاع او موضوعه كاساس في تحديد كون التحكيم دوليا من عدمه[6]، ويبدو ان هذا الافتراض لا يخلو من الصعوبة حيث يتطلب الامر خضوع موضوع النزاع لعدة نظم قانونية حتى يكتسب التحكيم صفته الدولية ، وهذا يمكن تلمسه عندما ترتبط العلاقة التحكيمية بعدة انظمة قانونية حيث يدور البحث هنا عن عناصر تكوين التحكيم من اهلية اطراف عقد التحكيم والرضا والمحل والسبب وهي امور يستوجبها شرط التحكيم او مشارطته لارتباط كل عنصر منها بأكثر من نظام قانوني فمثلا لمعرفة القانون الواجب التطبيق بالنسبة للأهلية يمكن الرجوع الى القانون الشخصي لأطراف العلاقة القانونية او العقدية ، وان القانون الشخصي قد يتحدد وفق قانون البلد الذي يحمل الشخص جنسيته او قانون البلد الذي يقيم فيه ويزاول نشاطه الاعتيادي (الموطن)[7] وبالتالي فأن هذا التعدد للقوانين المطبقة على العملية التحكيمية يمنح المحكمين سلطة اختيار القواعد القانونية التي تطبق على النزاع ، سواء كانت هذه القواعد تخص قانون الاجراءات الواجب التطبيق على اجراءات التحكيم او القواعد الموضوعية الواجبة التطبيق على موضوع النزاع ولا شك ان ارادة اطراف النزاع لها الاثر المهم في تعدد الانظمة القانونية التي تطبق على العملية التحكيمية ، لذلك يكون التحكيم مرتبط في العادة بعدة انظمة قانونية وطنية ، وقد نجد صورة اخرى لتعدد الانظمة القانونية التي تحكم العلاقة التحكيمية عند ابرم عقد التحكيم في دولة معينة حيث يتخذ ذلك العقد الشكلية القانونية لقانون بلد الابرام مما يخضع اساسا للأجراءات القانونية للبلد الذي ابرم فيه وما يتطلبه ذلك البلد من شروط اجرائية لصحة الابرام أي ان العقد هنا يرتبط حكما بقانون دولة الابرام وبنفس الوقت يرتبط بالقانون الواجب التطبيق الذي اختاره اطراف النزاع ليطبق على موضوع النزاع وهذه صورة لتعدد الانظمة القانونية التي تحكم العملية التحكيمية والتي تكسبها الصفة الدولية لارتباطها بأكثر من نظام قانوني. ونخلص مما تقدم ان التحكيم يكون دوليا متى ما كانت عناصره الاجرائية التكوينية والموضوعية تتصل باكثر من نظام قانوني وطني وهذا الامر يمكن تصوره حتى وان جرت العملية التحكيمية في ظل قانون وطني معين طالما ان نطاق تطبيقه خارج اطار ولاية الدولة التي ينتمي اليها ذلك القانون ، كما لو اتفق طرفا العقد المبرم في دولة (أ) على حسم ما ينشأ من نزاع بينهما من جراء تنفيذ العقد او تفسيره عن طريق التحكيم في الدولة (ب) فيعد هذا التحكيم دوليا لاتصاله بأكثر من نظام قانوني[8] . وبذلك يتضح ان للعوامل الجغرافية اثر واضح في خضوع العملية التحكيمية لعدة دول اوعدة انظمة قانونية مثل قانون دولة ابرام العقود اوقانون الجنسية او موطن اطراف النزاع او القانون الذي تم الاتفاق عليه في شرط التحكيم او مشارطته وقد يتدخل ايضا العامل الاقتصادي في تعدد الانظمة القانونية الحاكمة للنزاع موضوع التحكيم عندما يشترط ويتفق اطراف النزاع على ضرورة حسم نزاعهم باسرع الطرق وايسرها لأهمية موضوع النزاع وما ينطوي عليه من مخاطر لأنشطتهم التجارية اضافة الى امتداد تأثيره الاقتصادي ، الامر الذي يدفع المذكورين الى البحث عن طرق قانونية مختصرة ومبسطة خارج اطار انظمتهم الوطنية بغية الحد من مديات تأثير تلك العوامل وتجنبهم ضياع الجهد والوقت والمال . ورغم المآخذ على هذا المعيار في انه يعتمد المعيار الشخصي في تحديد الانظمة القانونية الواجبة التطبيق وبغض النظر عن ارتباط تلك الانظمة القانونية وتعددها الناشئ من ارتباطها بطبيعة النشاط التجاري الدولي والذي في العادة يكون اطرافه ينتمون الى دول متعددة الا اننا نستطيع القول ان دولية التحكيم تنشأ من ارتباط اطراف العلاقة التحكيمية بأكثر من قانون اجرائي او موضوعي نتيجة ارتباط النزاع بمكان الابرام اومكان اجراء العملية التحكيمية او مكان اصدار القرار التحكيمي اضافة للقانون الذي يحكم موضوع النزاع والذي اختاره الاطراف لحل نزاعهم . رابعا:- دولية التحكيم وفق دولية القانون الاجرائي الذي يحكم النزاع . اتجه المنادون بهذا المعيار ومنهم الفقيه sammartano الى اعتماد معيار الاجراءات والعناصر غير الذاتية لتحديد دولية التحكيم اذ يمكن تحديد دولية التحكيم من خلال معرفة الاجراءات التي يسير عليها المحكمون ، على اعتبار ان هذه الاجراءات بطبيعتها اجراءات قانونية تنتمي وترتبط بأكثر من نظام قانوني فأذا ما تجردت تلك الاجراءات من الصفة الوطنية وتعددت لأرتباطها بأطراف ذات جنسيات متعددة فيمكن عندها اكتساب التحكيم صفته الدولية فمثلا لو تتعددت القوانين الاجرائية الحاكمة للخصومة وتدخل قانون اجرائي معين لحكم تعدد المحكمين ونظم قانون اجرائي اخر اجراءات الاثبات او طبق قانون اجرائي اجنبي خارج اطار الدولة او الدول التي تمت العملية التحكيمية فيها كما لو استعان المحكمون بقانون اجرائي اجنبي في اجراء معين لدى بلد خارج بلد التحكيم لأغراض استماع شهود او اجراء معاينة او استكمال اجراءات تحكيمية معينة اواثبات دليل او حالة معينة لأصبحنا هنا امام قوانين اجرائية متعددة تعطي العملية التحكيمية صفتها الدولية او تجعل منها خصومة دولية[9] .وقد يتفق الخصوم على اخضاع خصومتهم التحكيمية لقواعد الانسترال لكل ما يتعلق بالنواحي الاجرائيه للقانون النموذجي للتحكيم الذي وضعته الامم المتحدة عام 1985 وهي قواعد اجرائية صالحة للتطبيق في كافة دول العالم[10] فأذا ما اتفق اطراف النزاع في شرط التحكيم او مشارطته الى اخضاع خصومتهم التحكيمية لقواعد الانسترال اصبحت هذه القواعد هي الواجبة التطبيق مما يعد هذا الادراج سببا موجبا لأعتبار التحكيم دوليا ، ويبدو ان هذا الاتجاه يعود بنا الى مرتكز اساسي في تحديد دولية التحكيم بغض النظرعما يتفرع عن هذا المرتكز من معايير وهو تدخل ارادة اطراف النزاع التحكيمي في تحديد السبل التي من شأنها اخضاع العملية التحكيمية لأكثر من نظام قانوني اجرائي او موضوعي مع التعويل في تحديد تلك الدولية بالدرجة الاساس على الاتفاق الحاصل بين اطراف النزاع حول اخضاع نزاعهم الموضوعي لقواعد تحكيمية دولية معينة . وما يعاب على هذا التوجه هو التمسك بالاجراءات التي تحكم الخصومة التحكيمية في تحديد دولية التحكيم في حين ان التحكيم لا يتكون من اجراءات فقط كما هو الحال في أي خصومة تعرض على المحاكم الوطنية بل ان شرط التحكيم الوارد بلفظ اتفاقية الخضوع والاذعان هو الذي يحدد دولية التحكيم وفق مبدأ سلطان الارادة اضافة الى ان اطراف العلاقة التحكيمية يرتبطون بأكثر من نظام قانوني مما يعني ضمنا ان عقد التحكيم يخضع بالنتيجة لعدة انظمة قانونية وكذلك الحال عند البحث في القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع فقد نجد انه لا يغطي ما ينشأ عن النزاع من مشاكل قد تعترض العملية التحكيمية والتي في العادة تتضمن عدة عناصر اجرائية وموضوعية توجب اللجوء الى قواعد الاسناد لمعرفة القانون الواجب التطبيق على هذه العناصر وتلافي عقباتها كما هو الحال بشأن الاهلية او المنافسة غير المشروعة او حول عدم صحة اتفاق التحكيم وغيرها ومع تنازع هذه القوانين لحكم تلك العناصر يتطلب الامر اللجوء لقواعد الاسناد لفض حالة الاشتباك وهذا كله يشير بالضرورة الى ارتباط العملية التحكيمية بعدة انظمة قانونية تعطي السمة الدولية للتحكيم التجاري وتعدد الانظمة القانونية هنا هو بالتاكيد كما ذكرت ينشأعن ارتباط تلك الانظمة بالواقعة محل النزاع ، وبذلك يمكن القول ان التحكيم يكتسب الصفة الدولية اذا كانت المنازعات المراد حسمها دولية وتكون الاخيره دولية اذا ما تعددت الانظمة القانونية التي تحكم تلك المنازعات وتعلقت بالنشاط التجاري الدولي . خاتمة بعد البحث في كيفية اكتساب التحكيم التجاري الصفة الدولية واشرنا الى ما يتصل بذلك من اراء واختلافات فقهيه خلص لنا ان صفة التحكيم الدولية لا تمنح جزافا للعملية التحكيمية بل تخضع لضوابط تستند اما الى عناصر تكوينية تدخل اساسا في صلب النزاع وهي عناصر ذاتية جوهري تتعلق ببناء وتركيب شرط التحكيم او تتعلق بالقانون الواجب التطبيق على اجراءات التحكيم والتي تسمى بالعناصر الاجرائية وجميعها ترتبط في العاد بالعوامل الاقتصادية اوالجغرافية ، ووجدنا ان البحث في ماهية عناصر الارتباط المذكورة يقودنا الى نتيجة مفادها ان تدخل ارادة اطراف النزاع التحكيمي لها الدور الاساس في تحديد ماهية العملية التحكيمية ومدى اكتسابها الطابع الدولي ، حيث يبرز سلطان الارادة ابتداءا في تجريد اطراف العملية التحكيمية لموضوع نزاعهم وفصله عن الاطار التشريعي الوطني لقصوره في معالجة النزاع وجمودية نصوصه، ويتجسد هذا المسعى اولا بأخراج موضوع النزاع من نطاق قواعد الاجراءات الوطنية ومن ثم عدم تطبيق القواعد القانونية الوطنية على موضوع النزاع الذي يحدد اطرافه في العادة طبيعة القواعد القانونية التي تحكم نزاعهم ذا الطابع الدولي ، الامر الذي يتطلب البحث عن ماهية هذه القواعد لنجد انها قواعد قانونية تحكيمية وليدة العرف التجاري الدولي اعتاد عليها الافراد في ميدان التجارة الدولية واكتسبت الزاميتها بمرور الزمن واحترام التجار لها لما فيها من آليات متطورة تعد اكثر مرونة ويسرا من القوانين الوطنية في حل المنازعات التجارية واصبحت قواعد منظمة بعد ان قننت ضمن الانظمة الداخلية للمؤسسات التحكيمية ليكون بأستطاعة الافراد والجماعات اختيارها واللجوء اليها لتسوية منازعاتهم ذات الطابع الاجنبي او التي تتعدد القوانين التي تحكم عناصرها التكوينية او الاجرائية بغض النظر عن ماهية هذه القواعد ومصدرها طالما انها اكتسبت صفتها الدولية بخروجها عن ولاية البلد الذي نشأت فيه . وخلصنا ان معظم القواعد التحكيمية اكتسبت صفتها الدولية ليس بانطباقها على منازعة ذات عناصر اجنبية فقط او بأتساع اطار سريانها خارج النطاق الوطني بل ان المؤسسات التحكيمية الدولية لعبت دورا في تطوير هذه القواعد وتوفير الاحترام والالزام لها بالشكل الذي جعلها قادرة على حسم أية منازعات تجارية خارج الاطار الوطني ، الامر الذي اكسب تلك القواعد سمتها الدولية بحكم استقلالها واستقلال المؤسسات التي تبنتها وبالتالي اذا ما اختار اطراف النزاع خضوع نزاعهم لتلك المؤسسات او انظمتها القانونية فإن ذلك يعني اكتساب العملية التحكيمية الصبغة الدولية ناهيك ان بعض الاتفاقيات الدولية قد اقرت صراحة دولية التحكيم لبعض المنازعات وقبلت الدول الموقعة عليها استثناءا من ولايتها اخضاع بعض المنازعات للتحكيم الدولي خاصة عندما يتضمن النزاع صفة او رابطا خارج اطاره الوطني كما هو الحال في منازعات الاستثمار واتفاقيات نقل الركاب والامتعة والبضائع وغيرها ، وتبين ايضا ان التحكيم التجاري يكتسب صفته الدولية من طبيعة الواقعة محل النزاع وما ترتبط به هذه الواقعة من عناصر مثل الاهلية والجنسية والشكلية والاقامة والتي ترتبط بعدة انظمة قانونية تتنازع فيها بينها لحكم وتسيير العملية التحكيمية من حيث الشكل او الموضوع الامر الذي يمكن معه القول ان التحكيم يكون دوليا متى ما كانت عناصره الاجرائية والموضوعية تتصل بأكثر من نظام قانوني وطني والذي يمكن تصوره حتى ان جرت العملية التحكيمية في ظل قانون وطني معين طالما ان نطاق تطبيقه خارج اطار سيادة وولاية الدولة التي ينتمي اليها ذلك القانون . وبذلك خلص لنا ان معيار دولية التحكيم يتحدد بأرادة اطراف النزاع التحكيمي ومبدأ سلطان الارادة وما له من اثر في تحديد القواعد التحكيمية التي تحكم اجراءات التحكيم وموضوعه والتي تكون اما ناتجة عن اتفاقيات دولية او انها تكونت من العرف التجاري الدولي واكتسبت الزاميتها منه او ان النظام القانوني الوطني ينص صراحة على وجوب منح الصفة الدولية للتحكيم في حالات معينة وفق شروط محددة لدى قبوله بالاحكام القانونية الدولية والاعتراف بها استثناءا لتعلقها حكما بالتجارة الدولية .
[1] .نظرية الفقيه (luzatto) اشار اليها علي بدري نجيب- دور التحكيم التجاري الدولي لتسوية المنازعات- رسالة ماجستير مقدمة الى جامعة سانت كليمنتس العالميه- بغداد عام 2009 .
[2] .قانون التجار( lex mercatoria ) عبارة عن جملة من القواعد العرفية التي تكونت بمرور الزمن نتيجة اعراف وتقاليد خاصة بالعاملين بالتجارة واكتسبت الزاميتها وحتميتها واصبحت بحكم القانون الخاص الملزم لهم .
[3] .د. هشام خالد- معيار دولية التحكيم التجاري- منشأت المعارف- الاسكندريه – عام 2006- ص63 .
[4] . المادة (61) فقرة (5) من الاتفاقية الدولية الخاصة بنقل البضائع لعام 1961 .
[5] . فوزي محمد سامي- التحكيم الدولي التجاري – دار الحكمه للطباعة والنشر- بغداد-عام 1992 –ص117 .
[6] . فوزي محمد سامي- التحكيم الدولي التجاري – دار الحكمه للطباعة والنشر- بغداد-عام 1992 –ص117 .
[7] . فوزي محمد سامي – المصدر السابق- ص188 .
[8] . فوزي محمد سامي- المصدر السابق- ص118 .
[9] . محسن شفيق- التحكيم التجاري الدولي- دار النهضة العربية- القاهرة- عام 1997 – ص162 وما بعدها .
[10]. علي بدري – المصدر السابق- ص106 .
مجلة التشريع