بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أنزل الله تعالى القرآن على قسمين محكم ومتشابه . فالمحكم ما علم المراد به وفهم معناه فليس فيه التباس نحو قوله تعالى في سورة يونس {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} ، أمّا المتشابه فهو ما لا يعلم المراد منه ولا يفهم معناه إلاّ بعد شرحه وبيان تفسيره وذلك لالتباسه نحو قوله تعالى في سورة الجاثية {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} ونحو قوله تعالى في سورة الزمر {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فجاء ذكر الأرض بالجمع على أنّ الأرض مفردة . فكلّ آية في القرآن يفهم معناها فهي محكمة ، وكلّ آية لا يفهم معناها إلاّ بعد الشرح والتفسير فهي متشابهة .
وإنّما أنزل الله القرآن على قسمين محكم ومتشابه حجة على قريش لأنّهم قالوا كما في سورة النحل {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وقال بعضهم كما في سورة المدثر {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} وقال بعضهم كما في سورة الأنفال { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} ، فردّ الله عليهم قولهم وقال : إنْ كنتم صادقين فيما تقولون وأنّ القرآن جاء به محمّد من تلقاء نفسه فأتوا بسورة مثل المحكم من القرآن فصاحة وبلاغة أو حلّوا ألغاز الآيات المتشابهة منه وافهموا المقصود منها ، فإنْ عجزتم عن هذا وذاك فاعلموا أنّما أنزل بعلم الله وأنّه وحيٌ يوحَى .
فقد قال الله تعالى في سورة القيامة {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، وقال تعالى في سورة ص {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} أي بعد زمن طويل . وقال أيضاً في سورة الأنعام 104{وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وقال تعالى في سورة الشعراء {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} ، والمعنى فقد كذّبوا بالآيات المتشابهة من القرآن واستهزؤوا بِها ولكن ستأتيهم بعد حين أنباء الآيات وتفسيرها التي كانوا بِها يستهزؤون .
وإليك تفسير الآية (7) سورة آل عمران {هُوَ} الله {الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ} يا محمّد {الْكِتَابَ} أي القرآن {مِنْهُ} أي من الكتاب {آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي أصل الكتاب {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي يشتبه على الإنسان معناها والمقصود منها {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميل عن الحق {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي يحتجّون به على باطلهم {ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ} أي لطلب التلبيس على ضعفاء الخلق كي يردّوهم عن دينهم فيقولون لهم لو كان هذا القول منزلاً من الله لكان واضحاً مفهوماً ليس فيه التباس ولكن هذا قول البشر قاله محمّد من تلقاء نفسه {وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} أي وطلباً لمعانيه وتفسيره ، فقالوا فما معنى قوله في سورة البقرة : {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} ، فهل يكون الأكل في البطن أم بالفم ؟ وقالوا فما معنى قوله في سورة الصافات {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} فكيف تبقى شجرة في النار حية لا تحترق ؟ وهكذا أخذوا يعترضون على الآيات المتشابهة ويكذّبون بِها ويستهزئون والنبيّ يقول هكذا أنزلت [روي أنّ أبا بكر سأل النبيّ فقال : أشبت يا رسول الله ؟ فقال : "شيبتني {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} ، {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ}" . وفي حديث آخر قال رسول الله : "شيبتني هود" .] فردّ الله تعالى عليهم بقوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} أي وما يعلم تفسير المتشابه من القرآن والمقصود منه إلاّ الله وحده لأنّ الآيات المتشابهة تنبئ عن ماضِ ومستقبل وتنبئ عن العالم الأثيري وإنّكم لم تحضروا الماضي كي تعرفوه ولا المستقبل كي تفهموه ثمّ إنّكم لا تفهمون عن العالم الأثيري شيئاً لأنّكم لم تنتقلوا إليه بعد والشجرة التي في أصل الجحيم أثيرية وليست مادّية كما تظنّون ، والأثير لا يحترق وإنْ كان في النار ونظيره عندكم القطن الاصطناعي (آسبست) لا يحترق في النار مهما طال مكثه ، أمّا الأكل في البطن فنظيره عندكم الجنين في بطن أمّه فإنّه يأكل في بطنه ولا يأكل من فمه , وكذلك أهل النار لأنّهم أرواح أثيرية فالنار تدخل جوفهم من كلّ مكان .
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وإنْ كنّا لا نعلم تأويله {كُلٌّ} من المحكم والمتشابه {مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} أنزله على نبيّنا {وَمَا يَذَّكَّرُ} أي وما يتّعظ {إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} أي إلاّ ذوو العقول .
أمّا معنى قوله تعالى في سورة الجاثية {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يعني مع علم ذلك الرجل بالأشياء ودراسته للطبيعيّات والفلك والجغرافيا والكيمياء والطب والهندسة والتاريخ وغير ذلك من العلوم فقد أضلّه الله عن الحقّ وختم على قلبه وذلك بسبب ظلمه للناس واعتدائه عليهم فإنّ الله تعالى لا يحبّ الظالمين فلا يهديهم إلى طريق الحقّ بل يضلّهم عنه كي ينالوا العقاب والعذاب يوم القيامة ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم {وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} .
أمّا قوله تعالى في سورة الزمر {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} , فإنّ الأرض والكواكب السيّارة كانت كلّها أرضاً واحدة ثمّ انفجرت فصارت تسع قطع , فأرضنا واحدة من تلك القطع ، فقوله تعالى {وَالْأَرْضُ} يريد بِها تلك التي تمزّقت وصارت تسع قطع , وقوله {جَمِيعًا} للتأكيد ، يعني الأرض وعطارد والزهرة والمرّيخ والمشتري وزحل وباقي السيّارات فهي جميعاً قبضته يوم القيامة ، وإليك مثلاً على ذلك : لو كان إناء من الخزف موضوعاً فوق منضدة فأقول لك ناولني الإناء ، فهذه الجملة مفهومة , ولا معنى لقولي ناولني الإناء جميعاً ، لأنّه إناء واحد ، أمّا إذا سقط الإناء على الأرض وتكسّر فصار تسع قطع فحينئذٍ يصحّ قولي ناولني الإناء جميعاً ، يعني ناولني القطع المتكسّرة جميعها . ثمّ لو قلت لك ناولني الأواني جميعاً ، لم يصحّ أيضاً لأنّه إناء واحد ، فكذلك قوله تعالى {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
من كتاب المتشابه من القرآن هنا