النتائج 1 إلى 5 من 5
الموضوع:

فلسفة المتنبي بين نيتشه ودآرون

الزوار من محركات البحث: 775 المشاهدات : 2567 الردود: 4
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    مدير المنتدى
    تاريخ التسجيل: January-2010
    الدولة: جهنم
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 84,944 المواضيع: 10,515
    صوتيات: 15 سوالف عراقية: 13
    التقييم: 87260
    مزاجي: متفائلة
    المهنة: Sin trabajo
    أكلتي المفضلة: pizza
    موبايلي: M12
    آخر نشاط: منذ ساعة واحدة
    مقالات المدونة: 18

    فلسفة المتنبي بين نيتشه ودآرون

    في كتاب "مطالعات في الكتب والحياة" مقالات متسلسلة للعقاد يحاول فيها المقاربة بين فلسفة المتنبي ونيتشة ودارون




    فلسفة المتنبي


    إن للمتنبي مذهباً خاصاً في الحياة. وقد يستغرب الواقفون عند الظواهر نسبة الفلسفة إلى شاعر ولو كان من كبار الشعراء؛ لجهلهم حقيقة الشعر والفلسفة معاً وظنهم أن الفلسفة لا تصدر إلا عن الفكر وحده مجرداً من الخيال والعاطفة؛ وإن الشعر لا يصدر إلا عن الخيال والعاطفة بحتاً مجردين من الفكر. ولقلة تفرقتهم بين الحقائق التي تقر في الروع وتنطبع في البصيرة ثم تسلك سبيلها من العقل الباطن إلى العقل الظاهر فإذا هي موافقة له غير مستعصية على براهينه وأنماطه، وبين الحقائق الذهنية الصرف التي يدركها الفكر الظاهر ابتداء كما تدرك المسائل الحسابية والمعلومات الاحصائية؛ وهي مما لا يستجيش احساسا ولا يحتاج إلى خيال.

    والحقيقة أن الفكر والخيال والعاطفة ضرورة كلها للفلسفة والشعر مع اختلاف في النسب وتغاير في المقادير. فلا بد للفيلسوف الحق من نصيب من الخيال والعاطفة ولكنه أقل من نصيب الشاعر؛ ولا بد للشاعر الحق من نصيب من الفكر ولكنه أقل من نصيب الفيلسوف. فلا نعلم فيلسوفاً واحداً حقيقياً بهذا الاسم كان خلواً من السليقة الشعرية ولا شاعرا واحداً يوصف بالعظمة كان خلواً من الفكر الفلسفي. وكيف يتأتى أن تعطل وظيفة الفكر في نفس انسان كبير القلب متيقظ الخاطر مكتظ الجوانح بالاحساس كالشاعر العظيم؟؟ إنما المفهوم المعهود أن شعراء الأمم الفحول كانوا من طلائع النهضة الفكرية ورسل الحقائق والمذاهب في كل عصر نبغوا فيه. فمكانهم في تاريخ تقدم المعارف والاراء لا يعفيه ولا يغض منه مكانهم في تواريخ الاداب والفنون، ودعوتهم المقصودة أو اللدنية إلى تصحيح الذوق وتقويم الأخلاق لا تضيع سدى في جانب أناشيدهم الشجية ومعانيهم الخيالية. هكذا كان شكسبير شاعراً ناطق الفكر حتى في أغانيه الغزلية وهكذا كان جيتي وشيلر وهيني شعراء الألمان الادباء الفلاسفة في استعدادهم وسيرة حياتهم وفيما يستقرى من مجموعة أعمالهم؛ وهكذا كان بيرون ووردزورث وسونبرن من الشعراء المجاهدين في أغانيهم المغنين في جهادهم؛ وهكذا كان من قبلهم جميعاً دانتي اليجييري إمام النهضة الايطالية بل هكذا كان كل شاعر عظيم في أية لغة وبين أي قبيل.

    ونظرة واحدة في تاريخ آدابنا العربية تبين لنا صدق هذا القول وترد الواقفين عند الظواهر إلى رأي أصح وأكمل في فهم الملكة الشعرية وتعرف القرابة الحميمة بين السليقة والبديهة الموصولة بالفكر، فمن هم أكبر شعراء اللغة العربية في رأي الأكثرين من النقاد والقراء؟؟ أليسوا هم بشارا وأبا نواس ودعبلا وابن الرومي وأبا تمام والبحتري والمتنبي والمرعي والشريف وبقية هذه الطبقة؟؟ فما مزية هؤلاء على الشعراء الآخرين من اضراب المجنون وابن أبي ربيعة وابن مناذر والحسين بن ضحاك وحماد عجرد وغيرهم ممن حذا حذوهم وغنى على ليلاهم؟؟ أهي قلة الفكر في شعرهم أم كثرته؟؟ أهي اقتصارهم على المعاني الغنائية أم طرقهم لأبواب المعاني المختلفة وتوفرهم على فنون القول المتشعبة؟؟ في دواوينهم جواب قاطع على هذا؛ وفحواه أنهم فاقوا أولئك الشعراء بان كانوا أوسع منهم جوانب نفس وأجمع منهم لملكات الشعر والفلسفة ومواهب الاحساس والتأمل وانهم أقدر على النظر فيما حولهم ممن نظروا في ناحية واحدة فحسرت أبصارهم عن غيرها وداروا فيها طول عمرهم لا يتحولون عنها.

    والمتنبي على وجه خاص أولى من عامة شعرائنا (ماعدا المعري) بالنصيب الأوفى في عالم المذهب والاراء. لأن الحقائق المطبوعة لا تكاد تقر في نفسه حتى يرسلها إلى ذهنه ويكسوها ثياباً من نسجه. ويغلب أن يوردها بعد ذلك مقرونة بأسباب معززة بحجبها على نمط لا يفرق بينه وبين أسلوب الفلاسفة في التدليل الا طابع السليقة وحرارة العاطفة فتأمل قوله:

    اذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
    فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم


    أو قوله:

    اذا أتت الاساءة من لئيم ... ولم ألم المسيء فمن ألوم؟؟
    والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق

    ولا نزيد على هذا فاننا ربما نقلنا حكم المتنبي بيتاً بيتاً لو مضينا في السرد إلى النهاية، فتأمل هذه الأبيات ألا ترى أنه قد قرن كل حكم فيها بسببه أو بتفسيره وبإقامة الدليل الذي ينفي الغرابة عنه؟؟ أليس العقل هنا مساوقا للطبع متأهباً لتعزيز حكمه وتسويغ نظره وتمحيض المساعدة الطيعة السمحة له؟ فمذهب المتنبي في الحياة ثمرة هذا التزاوج بين طبعه وعقله ونتيجة القدرة على استيعاب مؤثرات الحياة جميعها أو هضمها هضما تغتذي به السليقة والذهن في وقت معاً. وهذه هي صيغة المذاهب التي تستنبط من أقوال الشعراء وتحمل في أطوائها حجة الشعر والفلسفة التي تفتح لها منافذ القلوب والعقول.



    بعد هذا نسأل ما هو اذن ذلك المذهب الذي ذهب إليه المتنبي في الحياة؟؟ وينبغي قبل الشروع في بيان ذلك أن ننبه إلى الفرق بين الكلام في مصدر الحياة والكلام في سننها وصروفها؛ فإما الكلام في مصدر الحياة فقد كان المتنبي حكيما في اجتنابه واغلاقه بابه؛ فأراح نفسه من الخلط والخبط والقيل والقال وطاوع مزاجه العملي فنأى به عن الخوض في هذه المتاهات التي لا تفضي إلى طائل ولا يحصل العقل من ورائها على حاصل. عالج فتح هذا الرتاج في صباه على جدة من النفس وفراغ من الوقت وتعطش إلى الالمام بكل شيء واستكناه كل سر كما يظهر في قصيدة الميمية التي نظمها في المكتب فأتعبه فتحه ثم ما عتم أن مل هذا البحث الذي لا تسكن إليه نفس ولا يستمرئه طبعه فأقلع عنه ونفض يديه منه ولعله أخذ حيناًً بمذهب القائلين بأن الانسان ربيب هذه الأرض ووليد الزمن:

    فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجساد من تربه



    ثم رأى الناس مختلفين في هذه القضية لا يتفقون "إلا على شحب والخلف في الشجب"


    فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب


    ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... اقامه الفكر بين العجز والتعب


    وما له ولهذا الشجب العقيم وهذا التعب البور في نظره؟؟ فزوي وجهه عن مباحث ما وراء الطبيعة وأبعدها إلى مؤخرة فكره وأبقاها هناك لا يسمح لها بالبروز إلى واعيته والتحرك لاقلاق باله الا في الفترات القليلة التي يغفى فيها طمعه وتفتر آماله، ثم تعود تواً إلى زاوية سجنها السحيق حيث لا يزعجه اشتجارها ولا يشغله عن دنياه ضجيجها أو سرارها.



    كلا: ليس للمتنبي صبر على هذه الفلسفات!.. إنما هو فيلسوف الحياة سننها وصروفها وليس فيلسوف الحياة مصادرها ومصائرها. وفلسفته في هذا الصدد بينه صريحة قريبة المنال متفقة الاجزاء لا تعقيد فيها ولا غموض يمكنك تلخيصها في كلمات وجيزة هي: ان الحياة حرب ضروس علاقة الانسان فيها بالانسان علاقة المقاتل بالمقاتل، فهو يركب سناناً من صنعه في كل قناة ينبتها الزمان، وما المودة فيها الا حيلة من حيل الحرب أو هدنة في حومة القتال؛ فاحذر الناس واستر الحذر! واياك أن تشكو إلى أحد أو تغرك دمعة باك أو بشاشة مبتسم، إنك ان تشك إليهم بلواك تكن كالجريح الذي يشكو ألمه إلى الرخم والعقبان؛ وان الذي يبكي بين يديك حين تظفر به لن يرحمك غداً حين يظفر بك، والذي يبتسم لك ويبدي مودتك انما يداري الضعف والكيد بهذه المودة ثم هو اذا تمكن من مقاتلك لن يرثى لضعفك ولن يقيل عثرتك. فاعلم أنك تنال بالخوف في الدنيا ما لا تنال بالود وان من أطاق التماس شيء من أشيائها غلابا واغتصابا لم يلتمسه سؤالا

    انما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا !!


    فكن كالموت الذي الذي لا يرثي للدمع ولا يروى من الدم، وقف وسط هذه المعمعة وقفة من "لا يقترى بلداً إلا على غرر ولا يمر بخلق غير مضطغن" فانما أنت حيث سرت بين أعداء يترقبون غفلتك ويتحينون فرصة ضعفك، وماذا يحميك منهم غير الحيلة والبأس؟! وكيف تعيش بينهم بغير العدة والسلاح؟ أتطنك تأوى منهم إلى عدل أو رحم أو تقوى؟ لا يا صاح! إياك والاتكال على عدل الناس ورحمتهم وتقواهم!! إياك وهذه الغرارة والجهل في معركة الحياة

    فالظلم من شيم النفوس فان تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم


    والأصل في طباع الناس العدوان والغصب ثم جاء الحق والانصاف خوفا من عدوان العادين وغصب الغاصبين. والناس يعتدون حتى يمنعوا فيعرفوا بعد المنع ما يجوز لهم وما لا يجوز، وتأتي من ذلك الحدود والحرمات والحقوق. ولكنهم لا يمتنعون بغير مانع ولا يعفون لغير علة.



    هذا هو أصل الأخلاق عند المتنبي وهذه هي سنة الحياة في نظره. حرب مستعرة لا راحة فيها ولا أمان. لا رحمة فيها ولا عدل. لا كلمة فيها لغير القوة أو الحيلة التي هي نوع من القوة. حرب قائمة دائمة في السر والعلن وبين الاصحاب والاعداء وفي صفوف الأقوياء والضعفاء. حرب ولكن فيم ينبغي أن تخاض؟ أفي اللذة والسرور؟ أفي العلم والمعرفة؟ أدفاعاً عن النفس وذوداً عن المال؟؟ كلا لا تخاض في شيء من ذلك ولكن في طلب العز والقهر والسيادة. أو عملاً "بارادة القوة" ان شئنا أن نجعل لهذا المذهب القديم صيغة من صيغ البحث الحديث. "والدنيا لمن غلب" ؛ وهذه هي شريعة الحياة.



    والمتنبي لا يكره اللذة والسرور فهو يشتهيها ويحض عليها فيقول في أسلوبه المعتاد من النصيحة المبينة والحكمة المشفوعة بالحجة:

    انعم ولذ فللأمور أواخر ... أبدا اذا كانت لهن أوائل
    ما دمت من أرب الحسان فانما ... روق الشباب عليك ظل زائل


    غير أنه يطلبهما بشرط؛ لأنه لا يراهما خير ما يطلب في الحياة. يطلبهما بشرط أن لا يعرضاه للذل ولا يصماه بالدنس:

    ولا أقيم على مال أذل به ... ولا ألذ بما عرضي به درن


    بل هو لا يستطيب اللذة التي لا تصحبها الكرامة ولا يجد معها التبجيل

    فما منزل اللذات عندي بمنزل ... اذا لم أبجل عنده وأكرم


    لهذا لا يستنيم للذة ولا يسلمها زمامه ولا يعطيها من نفسه غير ساعة ثم يمضي في شأنه الذي عقد العزيمة عليه

    وللخود مني ساعة ثم بيننا ... فلاة إلى غير اللقاء تجاب


    وهو لا يجهل ما يبتغي من الدنيا ولا يخفى عليه ما في بعد الهمة من المكاره والعذاب، وان السيادة محفوفة بالمشقة من كل جانب، وان صفو الحياة من نصيب العاجزين الغافلين أو الحالمين المتعللين، ينعمون في الشقاوة بجهلهم ويشقى كبار النفوس في النعيم بعقولهم – لا يجهل شيئاً من هذا الذي يبتلى به ذوو الهمم بل يعرفه ويقوله ويكرره كما لم يكرره شاعر قبله ولا بعده؛ غير أنه مع كل هذا يبتغي المجد ويستقتل في طلبه؛ لا بل هو يبتغيه ويستقتل فيه لأجل كل هذا وهو يقفو أثره حيث كان تلذذاً بالمغامرة واستخفافاً بالعناء والنصب. اذ كانت نفسه تستريح إلى التعب وتتعب من الراحة وتصح على العدو والاحضار وتفسد على السكون والرقاد . وهو القائل:

    ذراني والفلاة بلا دليل ... ووجهي والهجير بلا لثام
    فاني أستريح بذى وهذا ... وأتعب بالاناخة والمقام


    وصدق المتنبي فيما افتخر به، ولم يغالط ولم يبالغ ولا توخى الاغراب في المعنى، فما من شيء في الحقيقة هو أضنى للنفس من قوة محبوسة فيها لا تجد سبيلها إلى الظهور، وليس أروح لها وأجلب لسعادتها من اطلاق ما تحويه من زيادة قوة وارسال ما يطمو بها من زاخر عزم ولو أصابها في ذلك ما تتأذى به النفوس وتحرج له الصدور؛ ومن التعب المسقم ما يعتري الجسوم لتعذر التعب المحبب إلى نفوسها وامتناع الطريق إلى الصراع الذي تهيأت له طبائعها. فتضوى وتهزل اشتياقاً إلى ما يضوى غيرها ويهز له؛ ويداويها الطب بما لا يشفيها فيحار فيها حيرة طبيب المتنبي الذي قال فيه:

    يقول لي الطبيب أكلت شيئاً ... وداؤك في شرابك والطعام
    وما في طبه أني جواد ... أضر بجسمه طول الجمام




    ولك أن تعد المتنبي من طلاب اللذة إذا اعتبرت أنه – كما قال – يجد لذته "فيما النفوس تراه غاية الألم" وأنه: يرى جسمه يكسي شفوفا تربه فيختار أن يكسى دروعا تهده" ولكننا حينئذ نقول لغواً وهذ راً أو نحصل الحاصل ونخلط بين المقاصد حين نقول: "ان النفوس تطلب اللذة" فان النفس لا يمكن أن تطلب على هذا المعنى شيئاً إلا قيل أنه "لذة" ! فيصبح الشيء اللذيذ مردافاً في كل ما تطلب وانها تساق أحياناً إلى ما تعلم فيه حتفها وسقوطها فتنساق إليه على كره منها.


    كذلك المال مطلوب في مذهب المتنبي وتدبيره واجب ورأيه في طلبه كرأيه في اللذة، أي أنه يقدم عليه المجد وينصح بادخاره لأنه آلة المجد ووسيلته إليه لا لذاته.


    فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده


    أما العلم فالمتنبي يطلبه أيضاً ويطري المعرفة ويرفع الحكمة ويقول في بيت واحد

    أعز مكان في الدنى ظهر سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب


    فيخيل إليك أنه يعدل العلم بالسيادة ويضعهما في موضع واحد من الجلالة والوسامة، إلا أنك لا تلبث أن تستعرض أقواله الأخرى حتى يلوح لك الموضع الذي يضع فيه العلم والحكمة وترى أنه لا يجعلهما غاية منشودة لذاتها وانما يجعلهما واسطة إلى غايته من العزة والغلب والقهر. فأنت تقرأ قوله

    الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول ولها المحل الثاني
    لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الانسان


    فتحسبه يقدم الرأي على الشجاعة عرفاناً لحق الرأي وترجيحاً له على كل ما يدرك بالشجاعة. فلا يطول بك الشك في ذلك حتى تراه يقول على الاثر:

    ولما تفاضلت النفوس ودبرت ... أيدي الكماة عوالي المران


    فكأن فضل الرأي الصائب الحكيم عنده هو كونه يبصر أيدي الكماة بتدبير عوالي المران ويعين الشجاعة على مرادها. ثم ماذا يكون اذا اجتمعت الشجاعة والرأي لانسان؟ يكون أنه يبلغ من العلياء كل مكان. فالعلياء هي الغاية القصوى على كل حال.
    وفصل الخطاب في هذا الأمر قوله:

    حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
    اكتب بنا أبداً بعد الكتاب به ... فنحن في دولة الأسياف كالخدم


    فالرأي والمعرفة والحكمة والكتب والأقلام هذه كلها خدم المجد والسؤدد وآلات الملك والاستعلاء. اذا وصلت بك إليها هي حسنة ميمونة واذا قعدت بك عنها فهي قبيحة مشئومة "وبعض العقل عقال" وعندئذ يكون الجنون خيرا من العقل والجهل أفضل من الحكمة!! أو قل أن الكتاب في رأي المتنبي هو الجليس المسامر الذي يؤنسك وينادمك وليس بالسيد المطاع الذي يملك نفسك ولا بالاستاذ الموقر الذي يسيطر على عقلك. فنعم الجليس هو كما قال ولكن بئس السيد وبئس الاستاذ!! ولا غرو أن يكون هذا رأي شاعرنا في الكتب فان مزاجا كمزاجه لم يخلق للنهم بالدرس والانكباب على الأخصاء وقضاء العمر بين الكتب والدفاتر على ديدن المستبحرين من العلماء. وانما زاده من الدرس التبلغ وشعاره فيه : "بحسب ابن آدم لقيمان يقمن صلبه!" أو يصح أن يكون شعاره قوله هو نفسه:

    أبلغ ما يطلب النجاح به الطبـ ... ـع وعند التعمق الزلل***


    والقوة أيضاً هي محك الأخلاق وبوتقة الفضائل . فما كان منها قوياً أو صادراً عن قوة فهو محمدة فاضلة وما كان منها ضعيفاً أو صادراً عن ضعف فهو مذمة مرذولة. كن حليماً ولكن مع القدرة اذ

    كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجئ إليها اللئام


    وحازما ولكن في غير جبن. فان الجبن الذي يبدو في زي الحزم "خديعة الطبع اللئيم"
    وحييا لأن الحياء من شيمة الأسد لا من شيمة الذئاب، فاذا ضيع عليك الحياء غنيمتك فاخلعه

    فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ... ولا تتقى حتى تكون ضواريا


    وكن صابراً شديد العزم "لا تستتغيث إلى ناصر ولا تتضعضع من خاذل" كي تعد نفسك لحمل نوائب الدهر والاضطلاع "باحداثه الحطم" ثم اعلم أن "سيفك الصبر فلا تنبه" وان البر نقيضه الخوف واذن "يدخل صبر المرء في مدحه ويدخل الاشفاق في ثلبه"
    وكن كريماً ولكن ممن يقال فيهم

    هم المحسنون الكر في كل غارة ... وأحسن منه كرهم في المكارم


    أو ممن يقال فيهم:

    هزمت مكارمه المكارم كلها ... حتى كأن المكرمات قنابل


    لأن الكرم انما يحمد ممن يعطي من فيض أيده وقدرته ومما يطفح به معين شجاعته وسعة ذرعه – يحمد ممن يترفع عن المحاكاة في كرمه "فما يفعل الفعلات الا عذاريا"، ومن السيد الفطن الفعال لما يشق على السادات، لا من وارث تجهل يمناه ما يصنع ولا "كسوب بغير السيف سآل"
    وكن صادقاً صدق من يقدم بصدقة على المخاوف ولا يبالي أن يكون سره كعلنه:

    القائل الصدق فيه ما يضربه .... والواحد الحالتين السر والعلن


    وكن قانعا اذا دان لك المجد واتسق لك الذكر فانما

    ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته .... ما فاته وفضول العيش أشغال

    اما اذا فاتك الذكر والمجد فالقناعة حوب وعار والرضى بالقليل فاقة في اليد والفؤاد. فقل مع المتنبي:
    ليس التعلل بالامال من أربي ... ولا القناعة بالاقلال من شيمي


    أو قل معه:

    وفي الناس من يرضى بميسور عيشة ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
    ولكن قلباً بين جنبي ماله ... مدى ينتهي بي في مراد أحد


    وهذا الشاعر المفتون بالقوة كثيراً ما يتغنى بالوفاء والامانة والحفاظ ويمدح هذه الخصال في جميع من يمدحهم. ولا نستغرب ذلك فالحقيقة ان الامانة – ويدخل فيها الوفاء وحفظ العهد – من أجمل صفات القوة ولفظها في العربية يشير إلى ذلك، فان الامون هو القوي والحصن الأمين هو المكان الذي يأمن الانسان في حماه لمنعته وقوته. ولفظها في اللغات الافرنجية مشتق من الشرف والعلو، فهي من قديم الزمن صفة رفيعة كريمة.



    والمتنبي كان وفيا يخلقه كما كان وفيا بكلامه ومذهبه يدل على ذلك صفحه عن أبي العشائر الذي ألحق به بعض خدمه لاغتياله ليلا: وقيل أن ذلك كان برضى من سيف الدولة أو بإيعاز منه. فرماه أحدهم بسهم وناداه: "خذه وأنا غلام أبي العشائر" فغفرها له أبو الطيب وأغضى عن يد سيف الدولة في هذه المكيدة وقال متجملا

    فان يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف


    ومن وفائه رثاؤه لابي شجاع في ثلاث قصائد ذلك الرثاء الذي لا يقرأه قارئ فيخامره شك في حزنه وحفظه للجميل حتى بعد موت صاحبه. وأنه لم يهج سيف الدولة كما هجا كافورا؛ بل كان يغالب حنينه إليه وأسفه على فراقه مع أنه فارق سيف الدولة مضروباً موتوراً ولم يفارق كافوراً الا باختياره.. دع عنك لهجه بالوفاء وقوله عن نفسه أنه خلق الوفا "لورد إلى الصبا لفارق الشيب موجع القلب باكياً" ودع أنه عرف بالمداجاة والتقية في معاشرته للناس حتى لقد ترك الخضاب وأبى أن يستر شيبه "من هوى الصدق وعادته، وعاف كل جمال مموه وأحب جمال البدويات اللاتي ما عرفن "مضغ الكلام ولا صبغ الحواجب" واشتد بغضه وتيهه على كل "جاهل متعاقل" إلى غير ذلك من الأقوال والمأثورات التي تشهد في جملتها شهادة حق أن الرجل كان مطبوعاً على الوفاء والصدق والصراحة، ولم يكن يكذب في كلامه أو عمله إلا تكلفاً واضطراراً. فليعذر في هذا "فمدفوع إلى السقم السقيم"

    وقد أباحك غشاً في معاملة ... من كنت منه بغير الصدق تنتفع


    ولكي يبين لك حب أبي الطيب انظر إلى قوله في هجاء ابن كيغلغ:

    وتراه أصغر ما تراه ناطقا ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم


    ثم إلى قوله فيه:
    منه تعلم عبد شق هامته ... خون الصديق ودس الغدر والملق
    وحلف الف يمين غير صادقه ... مطرودة ككعوب الرمح في نسق

    فهل ترى أن الهجو بحلف الايمان الباطلة في موضعين من قصيدتين مذمة من تلك المذام التي يختلقها الشعراء اختلاقاً أم ترى ان الشاعر انكر خلقاً موجوداً في المهجو وقدح في عادة بغيضة إليه؟؟ ولقد أخطر الرجل حياته ومات ليكون فعله كقوله وحكمه على نفسه مصدقا لحكمه على غيره كما ذكر الرواة في سبب موته؛ ولا يكون هذا عمل رجل يستسهل الكذب ويرسل كلامه من طرف لسانه. على أننا لا نثبت حب أبي الطيب للصدق لانا نريد أن نحاسب الفيلسوف الخلقي برأيه ونختم عليه العمل بمذهبه فان القول برأي شيء والعمل به شيء آخر، ولكننا رأينا التوافق بين خلقه ومذهبه واضحاً فاستطردنا لنؤدي لشاعرنا هذه الشهادة الواجبة له على قرائه.
    ***


    فمن هذا ومما سبق ايراده يظهر لنا جماع مذهب المتنبي في غاية الحياة وأصل الأخلاق والفضائل. فالسيادة هي غاية الحياة والقوة هي أصل الأخلاق والفضائل والمحور الذي تدور عليه المحامد والمناقب. وهو يحيط بأمور كثيرة في شعره ولكنه يطبعها جميعاً بهذا الطابع ويردها بلا استثناء إلى مقياسه هذا الذي لا يتغير في قصيدة عن قصيدة ولا في بيت عن بيت. ولا يسع أحداًَ بعد الأبيات المطردة والأمثلة المتواترة التي سقنا بعضها هنا والتي لم تأت عفواً ولا فلتة ولا انتحالاً الا أن يذكر نظائرها من فلسفة فردريك نيتشه نبي دين القوة في العصر الحديث، وان يميل إلى المقابلة بين هذه الاراء المتماثلة المتفقة في مذهب الشاعر العربي ومذهب المفكر الالماني. وهذا ما عولنا عليه..

  2. #2
    صديق مشارك
    تاريخ التسجيل: April-2011
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 47 المواضيع: 0
    التقييم: 6
    آخر نشاط: 22/April/2012
    ثلاث اسماء لها من الروعة ما لايوصف بالكلمات ... موضوع قيم لك تحياتي واحترامي

  3. #3
    مدير المنتدى
    اهلا وسهلا بالخدمة

  4. #4
    من أهل الدار
    تاريخ التسجيل: January-2010
    الدولة: بلد الائمة
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 4,426 المواضيع: 190
    التقييم: 311
    مزاجي: هادئة
    آخر نشاط: 17/September/2012
    مقالات المدونة: 7
    موضوع جميل عزيزتي .... سلمت الايادي

  5. #5
    مدير المنتدى
    شكرا الج

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال