كما تابعتها المخابرات البولندية منذ شبابه
حياة رومان بولانسكي رحلة حافلة بالإنجاز والعُسر
بعد وفاة سكرتير الحزب الشيوعي البولندي الصارم بوليلاف بيروت في 1956، شهدت البلاد شيئا من الانفراج السياسي. فانتهز رومان بولانسكي الفرصة للتقدم بطلب تأشيرة خروج لزيارة شقيقته في باريس.
واضطر للانتظار قرابة سنة للحصول على مطلبه، رغم انه نفسه ولد في فرنسا (في 1934)، وزار موطنه الأصلي للمرة الأولى وهو بين الرابعة والخامسة من العمر. وكانت تلك بداية زيارات فرنسية عدة له مع زوجته الممثلة البولندية باربرا كويافاتوفسكا.
وفي باريس، طلب اليه إخرج فيلم «النافذة الألف» القصير عن قصة روبرت مينوغوز. وبما أن اعمال هذا الأخير كانت تعتبر «تقدمية» بالمقاييس الشيوعية البولندية، فقد نظرت وزارة الثقافة في وارسو بعين الرضى الى تولي بولانسكي إخراج الفيلم.
السكّين
في 1961، بعد بقاء مطّول في فرنسا لم يكن يقصده، عاد الى بولندا، ليبدأ العمل في أول أفلامه الدرامية الطويلة بعنوان «السكّين في الماء». وكان الفيلم يحكي عن صحافي رياضي ناجح وثري يمتلك سيارة فاخرة ويختًا ويعيش حياة مترفة.. انعكاسًا لما شاهده بولانسكي في الغرب.
لكن ذلك النوع من الحياة الرخوة لم يرق قادة الحزب الشيوعي، باعتباره «تمجيدًا للانحلال الغربي». ووصل الأمر بزعيم الحزب، فلاديسلاف غومولكا، إلى حد الهجوم العلني على بولانسكي شخصيًا، ووصف فيلمه بأنه «ضحل فكري ويحتوي على نوع من التشاؤمية الخطرة لأنها ستشوّش على أذهان صغار الشباب البولنديين».
وتبعًا لتاديوش لوبيلسكي، بروفيسير السينما في جامعة كراكوف البولندية، «أكّد هذا النوع من النقد لبولانسكي شيئًا كان يراوده بين الحين والآخر، وهو أنه بحاجة لإخراج أفلامه في الغرب. فما كان بوسعه العمل في جمهورية بولندا الشعبية على أفلام مثل تلك التي اشتهر بها لاحقًا كـ «رقصة مصّاص الدماء» و«وليد روزميري» و«تشاينا تاون».
نفاذ إلى الشهرة
ابتداء من 1962 صار بولانسكي يقضي معظم وقته خارج بولندا. لكن الفترة الأولى لم تكن هيّنة بسبب صعوبة العثور على جهات يمكن أن تتولى إنتاج أفلامه. على أن حسن لطالع حالفه فجأة عندما جعلت مجلة «تايم» من فيلمه «خنجر في الماء» موضوع غلافها في 1963، وقيل إن هذا التقرير الصحافي كان السبب الرئيس في حصول الفيلم على جائزة اوسكار.
وفي السبعينات، تغيرت القيادة السياسية في بولندا فشاع جو ليبرالي نسبي. ويقول البروفيسير لوبيلسكي إن السلطات تعاملت مع بولانسكي بالكثير من ازدواج المعايير في ذلك الوقت. وكان هذا يعود الى أنها كانت مترددة في قبول ما ترمز اليه هوليوود من جهة، وتسعى من الجهة الأخرى الى تحسين علاقاتها مع الغرب، الذي غزاه «ابنها» بولانسكي.
لكن رضى السلطات البولندية تحول الى غضب بحلول منتصف السبعينات بعدما نما لعلمها أنه حصل على الجنسية الفرنسية. من جهته حاول بولانسكي امتصاص شيء من هذا الغضب بتقديمه طلبًا للحصول على تأشيرة دخول قائلاً إنه يرغب في عرض فيلمه الجديد «تشاينا تاون» في وارسو، وإخراج فيلم على أرضه وموطنه. وكان رد بعض زعامات الحزب على هذا سلبيًا، فقالوا إنه لن يُسمح له بالدخول بجواز سفره الفرنسي، وإن كان له أن يدخل كمواطن عادي فبجوازه البولندي.
الجنس مع قاصر
في 1977 اعتقلت شرطة لوس انجليس بولانسكي بتهمة الاغتصاب، وخففتها لاحقا الى «ممارسة الجنس مع قاصر» إذ كانت في الثالثة عشرة فقط من عمرها. لكنه تمكن، قبل النطق بالحكم عليه، من الفرار الى فرنسا خوفًا من قضائه فترة طويلة في السجون الأميركية. وبعد عام قررت الحكومة البولندية، بناء على تقارير استخباراتها التي كانت تضعه نصب عينيها طوال الوقت، اعتباره «شخصًا غير مرغوب فيه» على أراضيها وصنفته «مواطنًا فرنسيًا».
وفي 1980 رفع عنه هذا الحظر، وسمح له بزيارة أبيه. وبحلول ذلك الوقت، كانت الساحة السياسية تشهد تغيرًا قادته نقابة عمال السفن «التضامن»، وتمكنت عبره من كسر سيطرة الدولة على كل صغيرة وكبيرة في البلاد. وفي 1981 كانت الأشياء قد تبدلت، بحيث سمح لبولانسكي بإخراج فيلم «أمادياس» (عن حياة موزارت) الذي حقق نجاحًا مدويًا.
على أن الأمور انقلبت بعدها، وحظر نشاط «التضامن»، وعبّر العديد من الفنانين عن سخطهم بمقاطعة وسائل إعلام الدولة. وبالنسبة إلى بولانسكي فقد كان هذا يعني إسدال ستار الختام على نشاطه الفني في موطنه.
من مجرم إلى بطل
في نهاية العقد، تغيرت الأحوال من جديد، وشهدت البلاد انتخاب أول حكومة غير شيوعية منذ بدء دورانها في فلك الاتحاد السوفياتي. ومجدت الحكومة الجديدة بولانسكي باعتباره «مخرجًا بولنديًا عظيمًا». وعندما اختيرت وارسو في 2002 للعرض الأول لفيلمه «عازف البيانو»، افتخرت البلاد بشدة بابنها الفنان. وحتى قدامى الشيوعيين وصفوا الفيلم بأنه «في غاية الروعة».
وعندما اعتقل بولانسكي في سويسرا في العام 2009، وجد موجة هائلة من التضامن معه في بولندا. وقال ليخ فاوينسا، العمؤسس المشارك لنقابة «التضامن» بوجوب العفو عن «الخطيئة الوحيدة التي ارتكبها». وفي 2010، عندما رفضت الحكومة السويسرية طلب القضاء الأميركي تسليمه له وأطلقت سراحه، قال وزير الخارجية البولندي إن البلاد بكاملها تستقبل النبأ «بأقصى درجات السعادة والرضى»، وأضاف آن لبولندا أن تحتفل ببطلها بولانسكي.