بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم
قال تعالى:{ويسألونكَ عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذِكْراً، إنّا مكّنا له في الأرض وآتيناه من كلّ شيء سبباً فأتبع سبباً}،
وقال {إِنَّا مَكَّنَّا} والتمكين لا يطلق على الملك اليسير وإنّما على الملك الواسع العظيم
{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْء سَبَبًا}.والسبب في اللغة: كلّ شيء يقتدر به على شيء آخر، سوى أنّه في القرآن استعمل في الوسيلة غير المتعارفة
يروى في الخبر: أنّ الله تعالى رفعه إلى السّماء الدّنيا فكشط له عن الأرض كلّها جبالها وسهولها وفجاجها حتى أبصر ما بين المشرق والمغرب وآتاه الله من كلّ شيء عِلْماً، يعرف به الحقّ والباطل، وأيّده في قرنيه بكسف من السّماء فيه ظلمات ورعدٌ وبرقٌ، ثمّ أُهبِطَ إلى الأرض وأوحى الله تعالى إليه: أنْ سِرْ في ناحية غرب الأرض وشرقها.
بسم الله الرحمن الرحيم نكمل
{فَأَتْبَعَ سَبَبًا} من تلك الأسباب.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} سار بالأسباب التي زوّد بها، وقد ذكرت الروايات أنّه كان يسير في فتوحاته بالزئير. (مغرب الشمس) إشارة إلى أقاصي الأرض، وقد يقال بأنّ رحلته فضائية في السماء كما مرّ إشارة الروايات إلى أنّ الأسباب التي أوتيها سماوية وأرضية وأنّه "كشط له".
{قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ}، خطاب مباشر منه تعالى لذي القرنين،
الظاهر من الروايات أنّه محدّث، كما يلاحظ ذلك في أجوبة الأئمّة (عليهم السلام) عندما كانوا يُسألون عن علمهم فكانت الإجابة أنّه كصاحب موسى وذي القرنين، أي ليست علومهم بنبوّة، ولكنّه علم لدني معصوم،
- قال أبو جعفرٍ (عليه السلام): إنّ عليّاً (عليه السلام) كان محدّثاً فخرجت إلى أصحابي فقلت: جئتكم بعجيبةٍ فقالوا: وما هي؟ فقلت: سمعت أبا جعفرٍ (عليه السلام) يقول: كان عليّ ع محدّثاً فقالوا: ما صنعت شيئاً أَلا سألته من كان يحدّثه فرجعت إليه فقلت: إنّي حدّثت أصحابي بما حدّثتني فقالوا: ما صنعت شيئاً أَلا سألته من كان يحدّثه فقال لي: يحدّثه ملك قلت: تقول: إنّه نبيّ؟ قال: فحرّك يده هكذا أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كذي القرنين أوما بلغكم أنّه قال: وفيكم مثله.
{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا}، تدلّ على أنّ الحاكمية - القيادة السياسية والقوّة التنفيذية-أوّلاً وبالذات هي لله تعالى، وكلّ حاكم عداه سواء كان نبياً أو وصياً أم غيرهما من الحجج المصطفين، فحاكميته في طول حاكمية الله تعالى.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ}، والحديث الحديث، مع دلالتها على أنّ ذا القرنين كان معنياً بتدبير عدّة مجتمعات وفي مجالات متعدّدة.
{لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا}، ممّا يكشف أنّهم كانوا في تخلّف مدني حتّى على مستوى الضروريات والأولويات، وقد كُلّف ذو القرنين برفع هذا التخلّف. والروايات أيضاً تدلّ على أنّ من مهام الإمام والولي الحجّة هو رفع هذا النمط من التخلّف، كما في تصدّي الإمام الباقر (عليه السلام) في حساب المسافة في قضية البريد وصكّ النقود، وتصدّي أئمّة أهل البيت لتأسيس جملة من العلوم، كما هو شأن الأنبياء السابقين حيث جاءوا للبشرية بأُسس العلوم(5)، وهذا مقتضى العناية الإلهية بعد أن كانت لضروريات العيش مدخلية في التكامل الروحي للأُمّة.
وبعد اتّضاح الصورة في ملامح ذي القرنين يمكن أن نخرج ببعض النتائج التالية، وهي:
أوّلاً: إنّ تمكينه في الأرض لأجل استصلاح المجتمعات البشرية وإيصالها إلى الكمال المنشود ببناء حضارتهم ومدنيتهم بالقدر اللازم، وإرساء العدل وإفشاء الصلاح ورفع الظلم عنه، كما يبدو ذلك من النماذج التي تعرّض لها القرآن من حياته.
وما ذكر من ملك ذي القرنين الذي مُكّن منه مع النماذج التدبيرية التي قام بها، تلحظ أنّها وثيقة الصلة في سورة الكهف بالمحور الأصلي وهي طمأنينة الرسول بأنّ الهداية الإيصالية وهي مقام الإمامة وأنّها هي التي ستحقّق أهداف الرسالة والهداية الإرائية التي هي مقام النبوّة.على يد المهدي (عج) فالإمام المهدي سيمكن في الأرض حجة على الناس جميعاً ويكون ذلك التمكين أعظم من سليمان وذي القرنين
ثانياً: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّة}، مع أنّ ذا القرنين أوتي كلّ ما سبق وأنّه منصوب من قبل الله تعالى وفي الوقت الذي زوّد بتلك القدرة اللدنية وقد ملك فيها الدنيا، إلاّ أنّه يطلب الإعانة، ممّا يعني أنّ الغرض الإلهي لا يتحقّق بالإلجاء، وإنّما لابدّ للأُمّة أن تنهض بمسؤوليتها، في الوقت الذي منّ الله عليها بالهداية الإيصالية أي بنصب الإمام لهم.
ومن هنا أمكن أن نفهم توجيه الخطاب بالحكم ووظائف الدولة للأُمّة، وأنّه لا يعني أنّ الولاية بيد الأُمّة كما فهمه البعض، كما لا يعني أنّ الأُمّة مرفوع عنها المسؤولية تماماً في هذا المجال، وإنّما تعني أنّ هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الأُمّة تجاه الحكم والوالي، وهي الإعانة والتجاوب والطاعة،
فنصب الإمام من الله للناس لا يعني إسقاط التكليف عن الأُمّة بنصرته وتمكينه وإقداره من قبلهم، فهناك تكليف مُلقى على عاتق الإمام كما أنّ هناك تكليف مُلقى على عاتق المأمومين وهم الأُمّة. وهذا تماماً ينطبق علينا في أداء واجبنا مع المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء سواء في غيبته بالدعاء له وتهذيب النفس أو بنصرته حينما تشرق شمسه البهية
ثمّ تستعرض الآيات تفصيل بناء السدّ للدلالة على أنّ الأولياء يعملون بالأسباب الظاهرية، على العكس من توقّع الناس أن يكون سيرة ولي الله فيهم كلّها بالإعجاز وخرق الأسباب.
فتلخّص: أوّلاً: إنّ هناك قدرة لدنية، زوّد بها ذو القرنين، وملكاً عريضاً، ربما كان أوسع من ملك سليمان.
وثانياً: وكان برنامجه استصلاح الأقوام البشرية المغلوبة والمتخلّفة والمتناحرة، فأفشى العدل في قوم، وهيّأ ضروريات المدنية لآخرين، وبنى السدّ لثالث.
وثالثاً: وبأسباب طبيعية كشفت لهم.
ورابعاً: مع نفي الإلجاء وحفظ دور الأُمّة ومسؤوليتها.
وقد ألفت القرآن إلى كلّ هذا في حياة هذا الولي; لرفع أسى النبيّ (صلى الله عليه وآله) وطمأنته بأنّ الأغراض التي على أساسها كان التشريع سيتحقّق من خلال الهداية الأمرية في إمامة الأُمّة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة}.
من الموقع العالمي للدراسات الشيعية مع الإختصار والإضافة