كنائس العراق .. منذ العصر العثماني حتى الآن
كم يبلغ عدد الاديرة والكنائس التي يتعبد فيها اخواننا المسيحيون في القطر...
ماهو اقدمها واحدثها ودورها في رفد الحركة الثقافية، يوم كان التعليم قاصرا على الطبقة الغنية.. ان واحدا من هذه الاديرة اتخذه العلامة الاب انستاس ماري الكرملي مكانا لتجمع المسلمين والمسيحيين، ومنه، من هذا الدير القديم ف سوق الشورجة خرجت عشرات المؤلفات القيمة، والبحوث والدراسات التي مازالت حتى الان معينا لاينضب، مصدرا لمئات المؤلفات..!
كنائس بغداد..
*ان كتاب (تاريخ كنائس بغداد منذ العصر العثماني حتى الان) لمؤلفه السيد حكمت رحماني (44 سنة) وقد انتهى من اعداده مع اطلالة العام الجديد 1978.
يجيب على كل هذه الاسئلة واكثر.. ورغم ان الرحماني كاد يتخصص في تحقيق ودراسة وفهرست المخطوطات، الا ان مؤلفه الجديد كما قال لي يعتبره كتاب العمر وحصيلة جهود مضنية استغرقت منه عدة سنوات، جاب خلالها مناطق القطر وهو يحصي ويدقق ويصور ويعتمد على مصادر موثوقة ليجيء (تأريخ كنائس بغاد) بشكل يحقق طموحه ويسد فراغا في المكتبة العربية.
*على ان الاديرة التي شيدت في الشرق وخصوصا في ارض العراق كثيرة اشارت اليها كتب البحاثة على مدى العصور كما جاء في (الديارات) لشابشتي (معجم البلدان) لياقوت الحموي، (كلدو واثور) لادي شير، و(ذخيرة الاذهان) لبطرس نصري، ومن اوائل الاديرة هي تلك التي انشأها مار اوجين رئيس الرهبان في الشرق ومنها (دير الازل) قرب نصبيين و(دير بقردي) في جزيرة ابن عمر، قال عنه الحموي(وهو دير جليل، عندهم فيه رهبان كثيرة،ويزعمون ان به قبر نوح عليه السلام) ودير ابي يوسف وهو دير كبير فيه رهبان ذوو وحدة وهو على شاطئ دجلة وعلى طريق القوافل) وهناك (الدير الاعلى) وهو مشهور لايزال الى يومنا هذا يضرب به المثل في رقة الهواء وحسن المناخ وكان يقال سابقا انه ليس للنصارىدير مثله لما فيه من اناجيلهم ومتعبداتهم وقد هر تحته في سنة 301 هجرية عدة معادن كبريتية اقبل الناس يستحمون فيها حيث يبرأ من به جرب او حكة.
دينار منقوش!
*ثم نمضي في كتب الرحالة حتى نصل الى (دير الجاثليق) وهو دير قديم رحب البناء قرب بغداد في غربي دجلة وهو رأس الحدبين السواد.
يقول الشابشتي:
(دير الجائليق) عند باب الحديد قرب (دير الثعالب) في وسط العمارة بغربي بغداد، اما _دير الثعالب) فهو يقع على نهر عيسى على طريق صرصر وهو مشهور في كتب التاريخ والبلدان.. وقد ذكر ياقوت الحموي في ترجمة ابي الفرج الاصفهاني قال:
-قال ابو الفرج في كتاب (ادب الغرباء) وخرجت انا وابو الفتح احمد بن ابراهيم ماضيين الى دير الثعالب في يوم ذكر انه سنة 255 للنزهة ومشاهدة اجتماع النصارى هناك والمشرب على نهر يزدجرد الذي يجري على باب هذا الدير ومعه جماعة من كتاب النصارى، واذا بفتاة كأنها الدينار المنقوش تتمايل وتتثنى كغصن الريحان في نسيم الشمال فضربت بيدها الى يد ابي الفتح وقالت:
ياسيد تعال اقرأ هذا الشعر المكتوب على حائط هذا الشاهد فمضينا معها وبنا من السرور ما بها وبظرفها وملاحة منطقها والله به عليم فلما دخلنا البيت كشفت عن ذراع كأنه الفضة وأومات الى الموضع فاذا به مكتوب:
خرجت يوم عيدها
في ثباب الرواهب
فتنت باختيالها
كل جاء وذاهب
لشقائي رأيتها
يوم دير الثعالب
تتهادى بنشوة
كاعب في كواعب
هي فيهم كأنها الـ بدر بين الكواكب
فقلت لها: انت والله المقصودة بهذه الابيات، ولم نشك انها كتبت الابيات ولم نفارقها بقية يومنا.
هند الصغرى !
*واخبار الاديرة في كتب الادب العربي كثيرة، ومنها هذا الخبر عن دير هند الصغرى وهو بالحيرة وهند هذه هي بنت النعمان بن المنذر المعروفة بالخرقة، قال هشام الكلبي: كان كسرى قد غضب على النعمان بن المنذر فحبسه فأعطت بنته هند الله عهدا ان رده الى ملكه ان تبني ديرا تسكنه حتى تموت، فخلى كسرى عن ابيها النعمان، فبنت الدير واقامت الى ان ماتت ودفنت فيه، وهي التي دخلت على خالد بن الوليد لما فتح الحيرة فسلمت عليه، فقال لها سليني حاجة فقالت: هؤلاء الذين في ذمتكم تحفظونهم؟؟
قال: هذا فرض علينا اوصانا به نبينا صلى الله عليه وسلم. قالت ما لي حاجة غير هذا:
*هذا ماكان امر الديارات في العهد الغابر واغلبها انقرض ولم يبق منه الا اطلال... ولكن ماهي ابرز الاديرة التي مازالت عامرة حتى الان؟
يقول السيد رحماني:
-انها كثيرة ومنها دير الربان هرمزد ويقع في ناحية القوش على الجبل ويطل على واد عظيم طوله نصف ميل تقريبا وترتفع على جانبيه سلسلة من الجبال يتراوح ارتفاعها ما بين 500- 800م ويرتفع الدير حوالي 2700 قدم فوق سطح البحر لذلك كان مناخه في الصيف لطيفا ويعتبر من احسن المصايف في شمالنا الحبيب، وقد بني هذا الدير في القرن السابع الميلادي وهناك (دير السيدة) الذي يقع على هضبة قليلة الارتفاع تبعد عن القوش بمسافة ميل واحد، وهو محاط بالكروم، محصن باسوار فخمة من اطرافه الاربعة، فيه ثلاث ساحات الاولى خاصة بالضيوف وفي هذا الدير مكتبة نفيسة تحوي العديد من المخطوطات القديمة، وهو يعتبر من اكبر الاديرة في الشرق الاوسط.
بين الماضي والحاضر..
*وحين نعود الى كتاب (كنائس بغداد) نجد مؤلفه يشير الى ان دير الاباء الكرمليين الذي يقع قرب الشورجة يعتبر اقدمها، فقد بني عام 1737 وقد الحقت به مدرسة للفتيان تخرج العديد فيها الذين شاركوا في ازدهار الحركة الثقافية في القطر كان على رأسهم الاب انستاس ماري الكرملي المتوفى عام 1947، وقد هجره الرهبان قبل فترة وانتقلوا الى دير حديث في كرادة مريم شيد عام 1956 وفيه مكتبة ثمينة تضم كتبا ومخطوطات نفيسة من مقتنيات الرهبان الكرمليين.
*ويقول السيد رحماني ان كتابه عن (كنائس بغداد) يربط الماضي بالحاضر بافاقه المشرقة، بثروته الادبية والتراثية والتاريخية ويستشرف الحاضر بكل طموحه وافاقه المستقبلية.
*قاطعته: وماذا يضيف كتابك من معلومات عن الاب الكرملي؟
-في البدء سأتحدث عن الكرملي، مولعا بالعربية والتاريخ، تتبع اثار السلف وكان من صومعته يعمل ست عشرة ساعة في اليوم وعن مجلسه الذي اختار له يوم الجمعة، واهم حضوره من الباحثين الادباء والشعراء...
بينهم ماسينيون من المستشرقين الفرنسيين الذي اعتاد زيارته كلما مر ببغداد الى جانب الزهاوي ، الرصافي، احمد حامد الصراف، كوركيس وميخائيل عواد، محمد رضا الشبيبي وطه الراوي ومناقشاتهم الهادئة احيانا والساخنة احيانا اخرى، وحوارهم الذي يدور في مختلف الابحاث التاريخية واللغوية والفلسفية باستثناء شيئين كان الاب الكرملي يؤكد عليهما باستمرار هما الدين والسياسة.
معجم اللغة العربية!
*ويروي السيد رحماني واحدا من مجالس الاب الكرملي فيقول:
-بينما كانت احدى حلقات الجمعة متحلقة حول الاب الكرملي، سأل احدهم كيف السبيل الى وضع معجم يحوي كافة مفردات اللغة العربية فاجاب الاب:
لايمكن تحقيق هذا المشروع، لان العربية واسعة، ولا يمكن الالمام بها لكن بالامكان وضع معجم لغوي يتناول الالفاظ او المصطلحات التي تطرأ على اللغة وادخالها في قالب عربي صرف وضرب الاب مثالا على بعض الكلمات والالفاظ التي لم ترد في متن اللغة لكنها موجودة فيها فعلا فقام احد الحضور وقال ماهذه الكلمة ؟ فاجابه الكرملي دلوني على كلمة (ساتدما) واين موجودة لان اغلب المعاجم لم تأخذ بها وهنا تطوع ثلاثة من الباحثين الكبار للاجابة على السؤال مستعينين بمعاجم (لسان العرب) و(محيط المحيط) و(تاج العروس) ولما لم يحظوا بشيء انتظروا اجابة الاب الذي سرعان ما اخذ معجم (محيط المحيط) وقرأ احدى صفحاته ووجد كلمة (ساتدما) ومعناها (احد الجبال الموجودة في سلسلة جبال حمرين)!
*وهو يختتم حديثه معي قال المحقق حكمت رحماني: ان المعجم الذي وضعه الاب الكرملي وسماه بالمساعد اي الذي يساعد الناس على اخراج مفردات اللغة العربية، تكمن اهميته في انه مستدرك على المعجمات العربية كلها وبهذا يكون الاب انستاس والشواهد اللغوية في هذا العصر وما قبله!.
تحقيق: رشيد الرماحي
مجلة الف باء
آذار 1969