الفصل الثاني
التكليف الإسلامي للإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى
وما يقوم بتنفيذه تجاه الإسلام والمسلمين من أعمال نافعة ومصالح كبرى
ينقسم تكليف الإمام عموماً في الإسلام عند ظهوره وعد وجود المانع عن عمله ، إلى عدة أقسام :
القسم الأول :
وجوب توليه رئاسة الدولة وقيادة الأمة ، بمعنى تطبيق الأطروحة الكاملة للعدل الإسلامي على وجه الأرض. والأخذ بالأزمة العليا للمجتمع لأجل ضمان هذا التطبيق .
القسم الثاني :
وجوب الدعوة الإسلامية ، بمعنى إدخال المجتمع الكافر في بلاد الإسلام ، إما الحرب أو بالصلح أو بغيرهما.
القسم الثالث :
وجوب الحفاظ على المجتمع المسلم ضد الغزو الخارجي ، والدفاع عن بيضة الإسلام بالنفس والنفيس .
القسم الرابع :
وجوب الحفاظ على المجتمع المسلم ضد الانحراف وشيوع الفساد في العقيدة أو السلوك بالتوجيه الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ تعاليم الإسلام .
صفحة (45)
وهذه الأقسام الأربعة ، تجب وجوباً مطلقاً في أي مكان وزمان ، يجب أن يبذل الإمام والأمة في سبيلها أقصى ما يستطيع وتستطيع .
القسم الخامس :
وهو خاص بصورة عجز الإمام عن جملة من الأعمال السابقة ، لكونه يعيش في مجتمع منحرف يطارده ويراقبه ويعزله عن الأعمال الاجتماعية والسياسية ، كما كان عليه حال أئمتنا عليهم السلام – بشكل عام – وقد حملنا عن بعض جوانب ذلك صورة واضحة في تاريخ الغيبة الصغرى .
ففي مثل ذلك يكون عمل الإمام – كما رأينا في ذلك التاريخ – مكرساً – في الإغلب – على الحفاظ على قواعده الشعبية ومواليه ، وعلى حسن علاقتهم بالآخرين وحسن تلقيهم تعاليم الدين وتطبيقهم أحكام الإسلام .
نعم ، إن وجد الإمام طريقاً أحياناً إلى القيام ببعض الأعمال الإسلامية على نطاق واسع . وكان المانع مرتفعاً عنه في ذلك العمل ، وجب عليه إنجازه ، وكان ذلك العمل أوسع من قواعده الشعبية وشاملاً خيره لكل بلاد الإسلام .
القسم السادس :
وجوب إغاثة الملهوف وإعانة المضطر . وهو تكليف عام لا يختص بالإمام عليه السلام ، بل يعم كل مسلم. نعم ، قد يحول العجز عن الإغاثة أو وجود عمل أو هدف إسلامي أهم ، فيسقط وجوبها ، كما قرر في محله بحسب القواعد الإسلامية .
إذا علمنا هذه الأقسام ، وعلمنا أن الإمام المهدي (ع) ، يجب عليه بالنظر الأولي كل هذه الأمور جملة وتفصيلاً ، يجب أن يؤدي منها ما يستطيع إليه سبيلاً . شأنه في ذلك شأن أي إمام آخر . وقد أدى الأئمة من آبائه عليهم السلام ، ما استطاعوا من هذه التكاليف ، وتركوا ما عجزوا عنه ، أو اقتضت المصالح الإسلامية العليا تركه .
أما الإمام المهدي (ع) نفسه ، فهو مذخور للقيام بدولة الحق في اليوم الموعود ، وهو من أعظم الأهداف الإلهية ، يرتبط بأصل خلقه البشرية ووجودها على ما سنبرهن عليه في مستقبل هذا التاريخ . وقد علمنا من القواعد العامة بما فيها قانون المعجزات بأن الأهداف الإلهية العليا تتقدم على أي شيء آخر ، فكل ما تتوقف على حدوثه فإنه يحدث لا محالة وكل ما تتوقف على انتقائه وانعدامه فإنه ينتفي لا محالة ، سواء كان ذلك من أمور الكون أو من أحكام الشريعة .
صفحة (46)
فإذا نظرنا إلى هذا الهدف المهم ، الذي ذخر المهدي (ع) له ، وجدنا أن أموراً عديدة يتوقف على حدوثها كوجود المهدي (ع) وغيبته ، والمعجزة التي تتكفل طول بقائه ، والمعجزة التي تتكفل اختفاءه الشخصي أحياناً لصيانته من الأخطار . كما نجد أن أموراً يتوقف اليوم الموعود على انتفائها . فمن ذلك في جانب الأحكام : إن كل حكم شرعي يكون تطبيقه منافياً مع حفظ الإمام المهدي أو غيبته وبالتالي يكون منافياً مع وجود اليوم الموعود نفسه ، فإن هذا التطبيق يكون ساقطاً شرعاً عن الإمام ، ولا يجب عليه امتثال الحكم وتنفيذه . وأما الأحكام الشرعية الإسلامية غير المنافية مع هذه الأمور ، سواء الأحكام الشخصية كوجوب الصلاة والصوم ، أو العامة كوجوب الأمر بالمعروف – مثلاً – على ما سنسمع ، فلا موجب للالتزام بسقوطها ، بل تكون شاملة له ويجب عليه تنفيذها لفرض استطاعته ذلك ، باعتبار عدم منافاتها مع غيبته وهدفه .
إذا علمنا ذلك ، استطعنا أن نحكم بوضوح بسقوط التكليف بأي واحد من الأقسام السابقة ، إذا كان مستلزماً لانكشاف أمره وزوال غيبته . وهذا واضح إلى حد كبير في الأقسام الثلاثة الأولى ، فإنه مستلزم لذلك عادة، إلا أن يفترض كونه قائداً أو موجهاً بشخصية ثانوية يعرف بها غير صفة الحقيقة على ما سيأتي .
وبغض النظر عن ذلك ، تكون الأطروحتان الرئيسيتان للغيبة ، مختلفتين في المدلول :
أما بناء على صحة أطروحة خفاء الشخص ، فكل الأقسام يمتنع عليه القيام بها ، إلا ما كان خلال الأحوال الاستثنائية التي تتم فيها المقابلة مع الآخرين . لوضوح أنه حال اختفائه لا يمكنه القيام بأي عمل .
وقد يخطر في الذهن ، أنه يمكن للمهدي (ع) الظهور التام ، والقيام بسائر الأعمال وتطبيق كل الأحكام .
والجواب : إن هذا قبل أوانه لا يكون ممكناً . أولاً : لأنه منوط بإذن الله تعالى لا بإذن المهدي عليه السلام. وثانياً : لأن لانتصاره في يوم ظهوره شرائط معينة على ما سنعرف وبدون تحقق هذه الشرائط لا يمكن الانتصار وبالتالي لا يتحقق الهدف الأسمى المطلوب . إذن فلا بد من تأجيل الظهورالكامل إلى حين تحقق تلك الشروط ، ولا تجوز المبادرة إليه في الظروف غير المدروسة وتحت المناسبات الطارئة .
صفحة (47)
نعم ، يبقى احتمال واحد ، على تقدير صحة الأطروحة الأولى ، وهو إمكان الإكثار من المقابلات والظهورات المتقطعة . وهي وإن كانت استثنائية من الحال الاعتيادي للمهدي (ع) إلا أنها تتضمن – على أي حال – تطبيقاً للحكم الإسلامي وإنقاذاً لبلاد الإسلام من عدد من المظالم التي تقع فيها . فلماذا لم يحدث ذلك واقتصرت المقابلات على قليل من الموارد نسبياً .
وهذا السؤال لا نجد له جواباً بناء على صحة الأطروحة الأولى ، لعدم تعرض الإمام المهدي (ع) لأي خطر، باعتبار إمكان اختفائه في اللحظة التي يشاء . ومعه يكون تطبيق الحكم الشرعي ممكناً بالنسبة إليه ، فيكون واجباً عليه . على حين لم يحدث ذلك بالكثرة المطلوبة جزماً ، وإلا لاشتهر أمره وشاع . وهذا بنفسه يدل على بطلان هذه الأطروحة ، إذ عدم قيام الإمام المهدي (ع) بذلك يدل على عدم إذن فالقول بصحتها مستلزم للقول بتقصير الإمام المهدي (ع) في تطبيق أحكامه . وهو واضح البطلان ، إذن فهذه الأطروحة باطلة .
وهناك مناقشات وجدل ، يعود إلى هذا الأمر يحسن عدم الإطالة في ذكره .
وأما بناء على صحة الأطروحة الثانية ، كما هو الصحيح ... فهذا الاحتمال الذي كنا نناقشه ، وهو إمكان الإكثار من الظهورات والمقابلات يكون واضح الفساد ، بل هو منتف موضوعاً . لأن تعدد الظهور بكثرة يؤدي إلى تعرف الكثيرين على حقيقته وانكشاف أمره ، ومن ثم يكون منافياً مغ غيبته وقد عرفنا أن كل أمر مناف للغيبة لا يمكن حدوثه ، قبل تحقق شرائط اليوم الموعود .
وقد يخطر في الذهن : بأن تخطيطاً دقيقاً يمكن أن يقوم به المهدي (ع) في كل مقابلة ، كفيل بعدم انكشاف أمره ، وجوابه : بأن كثرة الظلم وتعدد حاجات الناس وضورواتهم ، يوجب كثرة الظهور وكثرته تكون موجبة لإلفات النظر إليه بنحو لا يفيد معه تخطيط دقيق .
صفحة (48)
كما قد يخطر في الذهن : بأن المهدي يمكنه إخفاء شخصه بالمعجزة في أوقات الخطر . إذن فليظهر للعمل موقتاً ، ثم فليختف متى استلزمت المصلحة ضرورة الاختفاء .
وهذه الفكرة لها عدة أجوبة أهمها أمران :
الأمر الأول :
إن معنى ذلك توقف تنفيذ الأحكام الشرعية على المعجزة . لأن تنفيذه من قبل المهدي (ع) مسلتزم عادة لوقوعه في الخطر، نتيجة لانحراف المجتمع ، فيكون مستلزماً لاختفائه الإعجازي . ونحن نعلم ، بحسب القواعد الإسلامية، إن كل حكم شرعي إذا توقف على المعجزة لم يكن تنفيذه واجباً ، إلا ما يمت إلى أصل الإسلام بصلة ، كإثبات النبوة أو الإمامة أو إقامة دولة الحق . ومن الواضح أن الحكم الشرعي بوجوب إغاثة المضطر – مثلاً – لا يمت إلى أهل الإسلام بصلة ، فلا يكون واجباً .
الأمر الثاني :
أنه لو تعددت ظهورات المهدي (ع) فسوف يعرفه الكثيرون بمجرد رؤيته ، فيلزمه الاختفاء قبل أن تسنح له فرصة العمل . وهذا معناه أن كثرة الظهور في أي زمان تمنع عن مواصلة أي شكل من أشكال العمل .
وعلى أي حال ، فالعمل المتصور للإمام المهدي (ع) بناء على ما هو الصحيح من صحة الأطروحة الثانية، على قسمين : عمل يقوم به بصفته الحقيقية ، بحيث يمكن للفرد نسبته إليه ولو بعد انتهاء العمل . وعمل يقوم به حال كونه مجهول الحقيقة ، يعيش في المجتمع كفرد عادي ، بشخصية ثانوية ، في اسم آخر وحرفة ومكان غير ملفت لأي نظر .
أما العمل بصفته الحقيقية ، في تنفيذ ما يمكنه تنفيذ من الأقسام السابقة للتكاليف الإسلامية ، فحاله هو ما سبق أن قلناه قبل أسطر . وقد رأينا أنه من غير المحتمل أن يكون المهدي (ع) شرعاً مكلفاً بذلك ، لتعذر العمل عليه بهذه الصفة ، طبقاً لكلتا الأطروحتين .
صفحة (49)