الفصل الأول
في السر الأساسي لغيبة المهدي (ع)
ونريد به الأسلوب الأساسي الذي يتبعه عليه السلام في احتجابه عن الناس ونجاته من براثن الظلم . وبمعرفتنا لهذا الأسلوب ، سيسهل علينا الجواب على عدد كثير من الأسئلة التي تثار في الفصول الآتية ن إن شاء الله تعالى.
نواجه في باديء الأمر ، في أسلوب احتجابه أطروحتين أساسيتين :
الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص :
وهي الأطروحة التقليدية المتعارفة المركوزة في ذهن عدد من الناس ، وتدل عليه ظواهر بعض الأدلة على ما سنسمع . وهي أن المهدي (ع) يختلفي جسمه عن الأنظار ، فهو يرى الناس ولا يرونه ، وبالرغم من أنه قد يكون موجوداً في مكان إلا أنه يُرى المكان خالياً منه .
أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) بإسناده عن الريان بن الصلت ، قال : سمعته يقول : سئل أبو الحسن الرضا (ع) عن القائم (ع) ، فقال : لا يرى جسمه ولا يسمى باسمه .
ــــــــــــــــــ

(1) انظر الأخبار الثلاثة في المصدر المخطوط .
صفحة (31)
وأخرج بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد (ع) في حديث : قال : الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته . وأخرج أيضاً بإسناده عن عبيد بن زرارة قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول :
يفقد الناس أمامهم فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه .
وهذه الأطروحة هي أسهل افتراض عملي لاحتجاب الإمام المهدي (ع) عن الناس ونجاته من ظلم الظالمين. فإنه في اختفائه هذا يكون في مأمن قطعي حقيقي من أي مطاردة أو تنكيل ، حيثما كان على وجه البسيطة.
وهذا الاختفاء يتم عن طريق الإعجاز الإلهي ، كما تم طول عمره لمدى السنين المتطاولة بالإعجاز أيضاً . وكان كلا الأمرين لأجل حفظ الإمام المهدي (ع) عن الموت والأخطار ، لكي يقوم بالمسؤولية الإسلامية الكبرى في اليوم الموعود .
ونحن نعلم بالدليل القطعي في الإسلام أهمية هذا اليوم الموعود عند الله عز وجل وعند رسوله ، فإنه اليوم الذي يتحقق به الغرض الأساسي من خلق البشرية ، على ما سنعرف ، وتتنفذ به آمال الأنبياء والمرسلين، وتتكلل جهودهم بالنجاح ، بوجود المجتمع العادل وإنجاز دولة الحق . كما أننا نبرهن(1) على أن الأهداف الإلهية المهمة ، إذا توقف وجودها على المعجزة ، فإن الله تعالى يوجدها لا محالة لا محالة ، من أجل تحقيق ذلك الهدف المهم .
وإذا نعتقد – كما هو المفروض في هذا التاريخ – بولادة الإمام المهدي (ع) المذخور لليوم الموعود ، يتبرهن لدينا بوضوح كيف ولماذا تعلق الغرض الإلهي بحفظه وصيانته ، كما تعلق بطول عمره . فإذا كانت صيانته منحصرة باختفاء شخصه ، لزم على الله عز وجل تنفيذ هذه المعجزة وفاء بغرضه الكبير .
وتضيف هذه الأطروحة الأولى ، قائلة : بأن هذا الاحتجاب قد يزول أحياناً ، عندما توجد مصلحة في زواله: كما لو أراد المهدي (ع) أن يقابل شخصاً من البشر لأجل أن يقضي له حاجة أو يوجه له توجيهاً أو ينذره إنذاراً . فإن المقابلة تتوقف على رؤيته ، ولا تتم مع الاختفاء .
ــــــــــــــــــ

(1) انظر لمعجزة في المفهوم الإسلامي ، مخطوط للمؤلف .
صفحة (32)
ويكون مقدار ظهوره للناس محدوداً بحدود المصلحة ، فإن اقتضت أن يظهر للناس ظهوراً تاماً لكل رائي تحقق ذلك، واستمرت الرؤية بمقدار أداء غرضه من المقابلة . ثم يحتجب فجأة فلا يراه أحد ، بالرغم من أنه لم يغادر المكان الذي كان فيه. وإذا اقتضت ظهوره لشخص دون شخص تعين ذلك أيضاً ، إذ قد يكون انكشافه للآخرين خطراً عليه.
وعلى ذلك تحمل كل أخبار مشاهدة المهدي (ع) خلال غيبته ، حتى ما كان خلال الغيبة الصغرى ، وخاصة فيما سمعناه في تاريخ الغيبة الصغرى(1) بأن المهدي (ع) ظهر لعمه جعفر الكذاب مرتين ، ثم اختفى من دون أن يعلم أين ذهب . فأنه يعطي أن الاختفاء كان على شكل هذه الأطروحة .
وأما أخبار المشاهدة خلال الغيبة الكبرى ، فبعضها ظاهر في الدلالة على ذلك ، بل منها ما هو صريح به . بل أن بعض هذه الأخبار تتوسع ، فتنسب الاختفاء إلى فرسه الذي يركبه وخادمه الذي يخدمه ، بل حتى الصراف الذي يحوّل عليه شخصاً لأخد المال(2) .
وأود أن أشير في هذا الصدد إلى أن هذه الأطروحة في غنى عما نبزه بعض مؤرخي العامة على المعتقدين بغيبة المهدي (ع) .من أنه نزل إلى السرداب واختفى فيه ولم يظهر.كما سبق أن ناقشنا ذلك في تاريخ الغيبة الصغرى(3). وأن أخبار مشاهدة المهدي (ع) في كل من غيبته الصغرى والكبرى مجمعة على مشاهدته في أماكن أخرى . وعلى أي حال ، فهذه الأطروحة في غنى عن ذلك ، لوضوح إمكان اختفاء المهدي (ع) بشخصه في أي مكان ، ولا ينحصر ذلك في السردات بطبيعة الحال .
وسيأتي في الفصول الآتية ، ما يصلح أن يكون تكملة للتصور المترابط للمهدي (ع) بحسب هذه الأطروحة.
الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان :
ونريد به أن الناس يرون الإمام المهدي (ع) بشخصه بدون أن يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقته .
ــــــــــــــــــ

(1) انظر ص 314 . (2) انظر النجم الثاقب ، ص 351 . (3) المصدر ، ص 563
صفحة (33)
فإننا سبق أن عرفنا من تاريخ الغيبة الصغرى ، أن المهدي (ع) رباه أبوه محتجباً عن الناس ، إلا القليل من الخاصة الذين أراد أن يطلعهم على وجوده ويثبت لهم إمامته بعده . ثم ازداد المهدي (ع) احتجاباً بعد وفاة أبيه وأصبح لا يكاد يتصل بالناس إلا عن طريق سفرائه الأربعة . غير عدد من الخاصة المأمونين الذين كانوا باحثين عن الخلف بعد الإمام العسكري عليه السلام ، كعلي بن مهزيار الأهوازي وغيره . وكان المهدي (ع) يؤكد عليهم في كل مرة الأمر بالكتمان والحذر .
وكلما تقدمت السنين في الغيبة الصغرى ، وتقدمت الأجيال ، قلّ الذين عاصروا الإمام العسكري عليه السلام وشاهدوا ابنه المهدي (ع) ، حتى انقرضوا . ووجدت أجيال جديدة لا تعلم من أسلوب اتصالها بالإمام (ع) إلا الاتصال بسفيره ،على أفضل التقادير. وكان هذا الجيل – بشكل عام – جاهلاً بالكلية بسحنة وشكل إمامه المهدي (ع) ، بحيث لو واجهوا لما عرفوه البتة إلا بإقامته دلالة قطعية على شخصيته .
ومن هنا تيسر له – كما علمنا في ذلك التاريخ – فرصة السفر إلى مختلف أنحاء البلاد كمكة ومصر ، من دون أن يكون ملفتاً لنظر أحد .
وهذا ما نعنيه من خفاء العنوان . فإن أي شخص يراه يكون غافلاً بالمرة عن كونه هو الإمام المهدي (ع). وإنما يرى فيه شخصاً عادياً كسائر الناس لا يلفت النظر على الإطلاق .
ويمكن للمهدي (ع) أن يعيش في أي مكان يختاره وفي أي بلد يفضله سنين متطاولة ، من دون أن يلفت إلى حقيقته نظر أحد . وتكون حياته في تلك الفترة كحياة أي شخص آخر يكتسب عيشه من بعض الأعمال الحرة كالتجارة أو الزراعة أو غيرها . ويبقى على حاله هذه في مدينة واحدة أو عدة مدن ، حتى يأذن الله تعالى له بالفرج . ويمكن الاستدلال على هذه الأطروحة ، انطلاقاً من زاويتين :
الزاوية الأولى :
الأخبار الواردة بهذا الصدد منها : ما أخرجه الشيخ الطوسي في الغيبة(1) عن السفير الثاني الشيخ محمد عن عثمان العمري أنه قال : والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه .
والمقصود بصاحب هذا الأمر : الإمام المهدي (ع) ، والمراد بالموسم موسم الحج . والرواية واضحة الدلالة على عدم اختفاء الشخص ومقترنة بالقسم بالله تعالى تأكيداً . وصادرة من سفير المهدي (ع) وهو أكثر الناس اطلاعاً على حاله .
ومنها : ما ورد عن السفير من قوله حول السؤال عن اسم الإمام المهدي (ع) : وإذا وقع الاسم وقع الطلب(2) .
فإنه ليس في طلب الحكام للمهدي (ع) ومطاردتهم له ، أي خطر ولا أي تأثير ، لو كانت الأطروحة الأولى صادقة وكان جسم المهدي (ع) مختفياً ، إذ يستحيل عليهم الوصول إليه . وإنما يبدأ الخطر والنهي عن الاسم تجنباً للمطاردة طبقاً للأطروحة الثانية . فأنه ما دام عنوان المهدي (ع) واسمه مجهولين ، يكون في مأمن عن المطاردة، وأما إذا "وقع الاسم" وعرف العنوان ، لا يكون هذا الأمن متحققاً ويكون احتمال المطاردة قوياً .
ومنها : ما ورد من التوقيع الذي خرج من المهدي (ع) إلى سفيره محمد بن عثمان رضي الله عنه يقول فيه : فإنهم إن وقفوا على الاسم أذاعوه ، وإن وقفوا على المكان دلّوا عليه(3) .
فإنه لو صدقت الأطروحة الأولى لم يكن رؤية المهدي (ع) في أي مكان على الإطلاق ، ولم يكن في الدلالة على أي مكان خطر أصلاً . وإنما يكون الخطر موجوداً طبقاً للأطروحة الثانية .
ــــــــــــــــــ

(1) انظر المصدر ص 221 . (2) نفس المصدر ، ص 219 . (3) المصدر ، ص 222 .
صفحة (35)
ومنها : ما قاله أبو سهل النوبختي حين سئل فقيل له : كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك ، فقال : هم أعلم وما اختاروه . ولكن أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم . ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجة على مكانه لعلّي كنت أدل على مكانه . وأبو القاسم فلو كانت الحجة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه(1) .
ومن الواضح أنه لا معنى لكل هذه الاحتياطات والتحفظات مع صحة الأطروحة الأولى أي اختفاء شخص المهدي عليه السلام . وإنما لا بد من ذلك مع صحة الأطروحة الثانية ، فإن الدلالة على المكان مستلزم لانكشاف العنوان . والقائل لهذا الكلام هو أبو سهل النوبختي الذي كان من جلالة القدر والوثاقة بحيث كان من المحتمل أن يكون هو السفير عن الإمام (ع) ... ومن هنا سئل في هذه الرواية عن غض النظر عنه وإبداله بالشيخ ابن روح .
فهذه جملة من الأخبار الدالة على صحة الأطروحة الثانية ، وبطلان الأولى . إلى أخبار غيرها لا نطيل الحديث بسردها .
الزاوية الثانية :
قانون المعجزات الذي يقول : إن المعجزة إنما تحدث عند توقف إقامة الحق عليها ، واما مع عدم هذا التوقف ، وإمكان إنجاز الأمر بدون المعجزة فإنه لا تحدث بحال . كما برهنا عليه في محله(2) .
ولا شك أن حفظ الإمام المهدي (ع) وبقاءه مما يتوقف عليه إقامة الحق بعد ظهوره . فلو توقف حفظه على إقامة المعجزة بإخفائه شخصياً لزم ذلك . إلا أن هذا غير لازم لما عرفناه من كفاية خفاء العنوان في إنجاز الغرض المطلوب وهو حفظه من كيد الأعداء . وسنذكر فيما يلي بعض الإيضاحات لذلك . ومن هنا تكون معجزة اختفائه بلا موضوع ، ويتعين الأخذ بالأطروحة الثانية .
ومن أجل تنظيم هذه الأطروحة فكرياً وبرهانياً ، لا بد من الجواب عليها .
ــــــــــــــــــ

(1) المصدر ، ص 240 . (2) انظر المعجزة في المفهوم الإسلامي ، المخطوط .
صفحة (36)