الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 13-1
إليك ملخص الجلسة الثالثة عشر من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.
إن موضوع العناء موضوع تربوي وعرفاني بمستوى عال/ لا يمكن نيل الحبّ لله بلا عناء
لقد طرحنا في الجلسات الأخيرة بعض الأبحاث في آثار العناء وبركاته وضرورة الاهتمام بهذه الاستراتيجية والرضا بالمعاناة التقديرية والتكليفية. ومن جملة ما ذكرناه في الجلسة السابقة هو أنه لا يمكن نيل الحبّ لله بلا عناء. فمن اشتمل على حبّ الله في قلبه، يودّ النصب والعناء في سبيل الله.
إن موضوع العناء أعمق وأرقى مستوى من أن نبقى نقول: «الكبد والعناء من ذاتيات هذه الدنيا». إن شأن العناء أعلى وأشرف من هذا المستوى وإنه يتضمن بحثا تربويا وعرفانيا راقيا.
من صعوبات المعاناة هو عدم المعرفة بأسبابها وأهدافها
لا يمكن الاهتمام بموضوع العناء وكسب آثاره التربوية بلا برنامج، فلابدّ أن نتعرف على «برنامج العناء» في كلا صعيدي التكليف والتقدير. لا شكّ في أن العناء الخالي من البرنامج لا يكون عناء جيدا ولا يترك آثارا جيدة على روح الإنسان. أما «العناء المبرمج» فلابدّ أن يكون مصمّما على يد مدرّب ومدير ومصمّم بارع، وهو الله سبحانه ربّ العالمين. فلنعرف أن معاناتنا في الحياة مبرمجة من قبل ربّنا عز وجل.
من صعوبات المعاناة هي أنك جاهل بأسبابها وأهدافها. عندما يفرض مدرّب كمال الأجسام بعض التمارين على أعضاء الفريق، غالبا ما يوضّح لهم الهدف من هذه التمارين الصعبة ويخبرهم بأثرها على عضلاتهم، بيد أن الله سبحانه لا يتحدث عن فلسفة البلايا والمعاناة التي يفرضها علينا بشكل خاص، ولكن يجب أن تؤمن وتثق به وتتوكل عليه.
ما هي علاقة العناء بإحساس لذّة الإيمان؟
من المسائل المهمّة في قضيّة العناء هو أن نعرف ما يرتبط به من القضايا. فعلى سبيل المثال، يرتبط العناء بعشق الله والصبر. أما إحدى القضايا المهمّة التي ترتبط بالعناء هي «الإيمان».
انظروا إلى هذه الروايات فقد قال رسول الله(ص): «مَنْ کَانَ أَکْثَرُ هَمِّهِ نَیْلَ الشَّهَوَاتِ، نَزَعَ مِنْ قَلْبِهِ حَلَاوَةَ الْإِیمَانِ»[مجموعة ورام/ج2/ص116] وقال الإمام الصادق(ع): «حرامٌ على قلوبِکُم أنْ تعرِفَ حَلاوةَ الإیمانِ حتّى تَزهَدَ فی الدّنیا»[الكافي/2/128]. ما هي حلاوة الإيمان؟ هل من الحلاوة أن يعيش الطفل تحت ظل والديه وينمو في أحضانهم؟ هل من الحلاوة أن يكون الإنسان صاحب زوجة وأهل وأسرة؟ وهل من الحلاوة أن يعاد المريض في فراشه إذا مرض؟ وهل من الحلاوة أن يحظى الإنسان بصديق حميم وعزيز؟ وهل من الحلاوة أن يحظى الإنسان بإعجاب وتشجيع الناس؟ كل هذه الحالات حلوة وجميلة، ولكن حلاوة الإيمان أقوى وأشدّ حلاوة منها، وإذا ذاق الإنسان حلاوة الإيمان سينسى طعم غيره من العلاقات الحلوة.
الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 13-2
الإيمان يخرج الإنسان من وحشة الوحدة
الإيمان يخرج الإنسان من وحشة الوحدة ويجعل الله أنيسه ومونسه. الإيمان بالله يقرّب إليك أرحم موجود في العالم. الإيمان بالله الرحمن الرحيم يؤدي إلى نتائج عجيبة. فإذا بحثت عن أيّ شيء سوى الإيمان تُحرَم من حلاوة الإيمان. فحلاوة الإيمان ليس بحلاوة إلى جانب باقي أنواع الحلاوة في العالم. فمن ذاق لذة الإيمان وحلاوته، لا يبقي مجالا لباقي اللذائذ الحلوة بعد.
ولهذا عندما كان الناس يهتفون في حسينيّة جماران ويفدون أرواحهم له، ما كان الإمام يشعر بلذة من تلك المشاعر. إذ كان الإمام قد التذّ بالإيمان بالله لذّة لا تقاس بحلاوتها شيء، إذ لا تقاس محبّة الله بمحبة الناس. كان السيد الإمام(ره) قد بالغ بمجاهدة نفسه وترك الشهوات والملذّات فنال لذّة الإيمان. على أساس حديث رسول الله(ص)، من كان همّه نيل اللذات والشهوات، لن ينال لذة الإيمان، فما بالك بمن تعلّق بهذه اللذات وراح يركض وراءها. ثم لا تقتصر اللذة والشهوة، بالشهوات الجنسية، بل تعمّ جميع مشتهيات الإنسان، بعضها سلبية كالغضب الذي تطرد به شيئا ما، وبعضها إيجابية تنجذب بها إلى منفعة ما.
لقد حبّب الله الإيمان في قلوب المؤمنين وزيّنه في قلوبهم، فأصبح ذا جمال وجذابيّة تسحر الإنسان. فقد قال الله سبحانه: (وَ لکِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَیْکُمُ الْإِیمانَ وَ زَیَّنَهُ فِی قُلُوبِکُمْ)[الحجرات/7].
إيمان المرء يجعله قريبا من الله ويحيط الله بهذه الإنسان بعد الإيمان لكي لا يشعر بالوحشة. ولهذا يقول: ( نَحنُ أَقرَبُ الیهِ مِنْ حَبْلِ الوَرید)[ق/16] ويقول في آية أخرى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ)[الحديد/4]. وكذلك يقول: (أَيْنَمَا تُوَلُّوْا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)[البقرة/115]. فلا إمكان لإنسان أن يحيط بك ويخفف من وحشتك، بل الله هو القادر على الاحاطة بك. ولا يقدر الإنسان أن يعيش وحيدا ولا يستطيع أحد أن يخرجك من وحدتك مثل الله سبحانه.
الإيمان، يسبب النفور من المعصية
إذا ذاق الإنسان حلاوة الإيمان وأصبح الإيمان محبوبا لديه، حينئذ ينفر من الكفر والفسوق والعصيان. وكذلك يشمئز من الإيمان بما سوى الله والعمل القبيح. فإذا أدرك الإنسان قبح الذنوب وتنفّر منها، عند ذلك يحصل على مهجة جيدة لمناجاة الله سبحانه، إذ سوف يعرف مدى قباحة الذنب ودناءته، وسوف يستغفر الله ويناجيه من كل قلبه.
في سبيل الشعور بحلاوة الإيمان لابدّ من تحمّل العناء وجهاد النفس
في سبيل أن يذوق الإنسان حلاوة الإيمان، لابدّ له من تحمل العناء والابتعاد عن السيئات عبر جهاد النفس. فقد قال أمير المؤمنين(ع): «صَابِرُوا أَنْفُسَکُمْ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَ صُونُوهَا عَنْ دَنَسِ السَّیِّئَاتِ تَجِدُوا حَلَاوَةَ الْإِیمَان»[غرر الحكم/الحديث81]
يحصل الإيمان والعلاقة بالله بالعناء والشدائد لا عبر درس أصول العقائد. طبعا إن درس أصول العقائد جيّد، ولكن من أجل الإجابة عن شبهات العدوّ. يعني إذا أراد العدوّ أن يسلبك عقائدك وإيمانك، هنا يأتي دور دروس العقائد والأبحاث العقلية والكلامية.
يعاني الإنسان أحيانا من بعض المعاناة ولكنّه لا يذوق حلاوة الإيمان
لابدّ للإنسان أن يتعرف على نفسه بشكل جيّد ولا يتحمل عناء لا فائدة فيه. إذ أحيانا يعاني الإنسان ويتحمّل الشدائد ولكنها معاناة بلا جدوى لا ترفع مقامه ولا تذيقه حلاوة الإيمان. أحد الأسباب هي أنه عندما كان يعاني من بعض المشاكل والمصائب كان بصدد التعويض عن معاناته. كبعض المتظاهرين بالتقوى الذين يراعون مقتضيات الزهد والتقوى في سبيل أن يجدوا فرصة للتعويض عن كل الأتعاب التي تحملوها في هذا المسار. فمثل هؤلاء لن يجدوا حلاوة الإيمان مهما تحملوا العناء، لأنهم بصدد العثور على فرصة يعوضوا فيها عن كل الشدائد والصعاب التي تحملوها، وفي الواقع قد تحمّلوا كل هذه المعاناة في سبيل الفوز براحة أكبر في هذه الدنيا.
فعلى سبيل المثال من يعفّ عن الشهوات في سبيل أن يصل إلى جاه ومقام في هذه الدنيا، فإنه لا يذوق حلاوة الإيمان. ومثل هؤلاء الناس ينطبق عليهم قوله تعالى: (خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَة)[الحج/11]. إن شهوة الجاه والمقام تمنع حلاوة الإيمان من أن تدخل في القلب. ولعلّ أحد أسباب توفيق بعض الفسقة ورؤساء العصابات للتوبة والهداية هي أنهم يعرفون ماضيهم وملفّ أعمالهم جيدا فلا يطمعون في نيل الجاه والشأن الرفيع في هذه الدنيا عبر الحصول على المقامات العرفانيّة. فمن أجل أن يذيقنا الله حلاوة الإيمان، لابدّ أن نتحمل المعاناة والمصاعب بصدق، لا من أجل نيل غيرها من الشهوات.
الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 14-1
إليك ملخص الجلسة الرابعة عشر من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.
إن جهاد النفس عملية معقدة جدا، لأن النفس تحتال على الإنسان
إن طريقنا الوحيد إلى الكمال هو مخالفة الأهواء والشهوات ولكن ليس مطلق الأهواء وجميع الشهوات. فلا ينبغي أن نجاهد جميع أهواءنا بشكل مطلق، بل لابدّ أن نجاهدها ضمن برنامج. فإن البرنامج المتمركز والاجتناب عن التكثّر المضر ضرورة لازمة في مسار جهاد النفس.
إن عملية جهاد النفس معقّدة جدا، لأن النفس تحتال على الإنسان. حتى بإمكان النفس أن تستغل الدين لصالحها.
ما الداعي إلى الاهتمام بالعناء/ «الفرار من العناء» أهمّ عوامل ترك جهاد النفس
السبب في الاهتمام بالعناء إلى جانب الاهتمام بجهاد النفس هو أنه لأننا بصدد الالتفات إلى الطريق الأصلي في الرشد والكمال، فلابدّ لنا من جهاد النفس وإن جهاد النفس هو عملنا الرئيس في هذه الدنيا. ثم إن أهمّ عامل أو العامل الوحيد الذي يدعونا للفرار من جهاد النفس هو نزعة الفرار من العناء. إذن فلابدّ من الحديث عن العناء لكي نقنع أنفسنا على تحمّل العناء وعدم الفرار منه.
لماذا لا نسمع نصائح الصالحين في موضوع جهاد النفس؟ ولماذا لا نهتمّ كثيرا وبشكل صحيح بآيات الجنة والنار؟ لأننا لا نودّ المحن والمعاناة. إذن تكمن مشكلة أغلب الناس في قضية العناء. ليس الخوف من العناء بخوف محمود وحتى ينبغي لنا أن نطلب بعض مصاديق العناء.
العناء شيء عابر ثم تتبعه راحة ومسرّة طويلة
خوف الإنسان من العناء يدعوه إلى الفرار من جهاد النفس وباقي الفضائل، ولذلك فلابد من تحديد موقفنا تجاه العناء وأسلوب تعاملنا معه. إن العناء شيء عابر ثم تتبعه راحة ومسرّة طويلة. كما قال أمير المؤمنين(ع) في وصف المتقين: «صَبَرُوا أَیَّاماً قَصِیرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِیلَة» [نهج البلاغة/ الخطبة193].
من لم يحلّ لنفسه قضية العناء، تخدعه نفسه حتى بأدلة دينية بحسب الظاهر
يتمثل العناء بترك اللذات تارة، ويتمثل بآلام ومحن تارة أخرى. فإذا لم نحلّ مشكلتنا مع هذين النوعين من العناء، نواجه مشكلتين:
المشكلة الأولى التي تظهر في بداية المطاف وتبقى معنا هي أنه إذا كان قلبك يطلب الراحة، تخدعك نفسك دائما. وإذا كنت غير خاضع للعناء، فتصنع نفسُك دائما ذرائع وحجج جميلة من الآيات والروايات للفرار من الدين والركون إلى الدعة، لأنها نفس أمارة بالسوء. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء)ِ[یوسف/53]. السبب الرئيس في انخداع الإنسان بالذرائع المصبوبة في قالب ديني هو أننا لم نجتث خفايا جذور طلب الراحة ولم نحلّ لأنفسنا قضية العناء. فإن لم يكن الإنسان قد حلّ موضوع العناء وطلب الراحة والدعة لنفسه، تخدعه نفسه في بداية المطاف.
كيف استطاع المجاهدون أن يطووا طريق مئة عام في ليلة واحدة؟
لماذا قد استطاع المجاهدون في سبيل الله أن ينالوا مقاما بحيث قد اجتازوا مسيرة مئة عام في ليلة واحدة؟ لأنهم قد وطّنوا أنفسهم على تحمل عناء الموت وقبلوا بذلك، وبذلك حصلوا على نورانية رائعة. فكان موضوع العناء محلولا لدى المجاهدين في سبيل الله.
فإذا لم تكن قد وطّنت نفسك على موضوع العناء، تخدعك نفسك من حيث لا تشعر. فعلى سبيل المثال إن غضبت في موقف ما ولم تقدر على تحمّل عناء «سوء معاملة الآخرين» وغضبت عليه أو شتمته، هنا تطمئنك نفسك أن: «کان یستحق هذه المعاملة ولا عليك من تقصير!» أما حلّ موضوع العناء، يعينك على أن لا تنخدع عند مواجهة هذه المعاناة بل تبتهج بتحملها.
الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 14-2
الزواج هو عبارة عن اختيار من سوف نختلف معه في الرأي!
إن هذه، لرؤية مهمة وهي أن الموضوع الرئيس هو أداء التكليف، ولابدّ من تحمّل العناء في إطار التكليف والبرنامج الإلهي. طبعا لابدّ أن نطبّع قلوبنا على ترك اللذات ولكن في مقام العمل، لابدّ أن يكون هذا الترك على أساس الأحكام الإلهية والبرنامج الإلهي لا على أساس اختيارنا. ولذلك فإذا رزق الإنسان لذة ما، حتى وإن فرّ منها تفرض عليه فرضا، وكذلك إذا واجهنا تكليفا إلهيا ممتعا، لا ينبغي أن نتركه بذريعة ترك اللذة. المهم هو حال القلب الذي لا ينبغي أن يطّبّع على حبّ الراحة واللذة، ولابدّ أن نخضع لقضاء الله في فرض بعض المحن علينا.
فعلى سبيل المثال لابدّ لكل زواج أن يشتمل على مشاكل واختلافات، لأن المرأة والرجل إنسانان، وبطبيعة الحال يختلف الناس مع بعض في بعض وجهات نظرهم. ولذلك فإنكم عندما تقدمون على الزواج، في الواقع تختارون من سوف تختلفون معه في الرأي! لا أن تبحثون عن من لا تختلفون معه أبدا. لابدّ من قبول أمثال هذه المعاناة وأن نتعامل معها بأسلوب حسن.
من لم يحلّ لنفسه قضية العناء، حتى وإن أصبح إنسانا صالحا، لن يكون صالحا كثيرا
القضية الأخرى في ما يرتبط بنتيجة عدم الخضوع للعناء هي أنك ما لم توطّن نفسك على العناء، حتى وإن أصبحت إنسانا صالحا، لن تكون صالحا كثيرا، إذ لا تزال أنانيتك موجودة على حالها. كان قد سعى العرفاء وعلماؤنا العظام أن يقلعوا أنانيّتهم، وآخر ما يحمي صنم الأنانية هو نزعة «الفرار من العناء» و «الركون إلى الدعة والشهوة». فإن قضي على «الأنا» تصبح عين الإنسان عين الله ولسانه لسان الله ويده يد الله. فآخر المطاف هو فناء «الأنا» وزوال أهوائنا حتى أن لا يبقى شيء سواه. وهذه هي اللذة الكامنة في الدين وهي أن تتحول أهواء النفس إلى هواه. فنحن نودّ أن نصل إلى درجة من الخلوص حتى لا يبقى شيء تحت عنوان «نحن» ونفنى في «هو». ومن أجل نيل هذه الدرجة لابدّ من توطين النفس على العناء.
إن ترك اللذة حلو/ أيّ لذة نتركها في سبيل كسب نظر لطف الله؟
إن معاناة ترك اللذات، وإن كانت معاناة ولا تخلو من الصعاب، ولكنّك إن عشت أجواءها تشعر بمدى حلاوة الترك، حتى أنّ كثيرا من عرفائنا تغزلوا بترك اللذات وقد اعتبروها عين اللذّة.
نقل الإمام الصادق(ع) حديثا عن النبي الأكرم(ص): «مَنْ أَکَلَ مَا یَشْتَهِی وَ لَبِسَ مَا یَشْتَهِی لَمْ یَنْظُرِ اللَّهُ إِلَیْهِ حَتَّى یَنْزِعَ أَوْ یَتْرُك» [التمحیص/ص34] فمن أجل كسب نظر لطف الله، لابدّ من ترك هذه اللذائذ.
علاقة جهاد النفس بالعبادة/ العبادة الحسنة، جائزة جهاد النفس
أحد المواضيع المهمّة، هو كيفية الربط بين جهاد النفس وباقي المفاهيم الدينية. فعلى سبيل المثال ما هي علاقة العبادة مع جهاد النفس؟ فإن العبادة شيء يختلف عن جهاد النفس، وهي عبارة عن العلاقة المباشرة مع الله.
علاقة هذين الأمرين هي أنه إذا كان الإنسان قد جاهد نفسه من بداية الصبح إلى الظهر، تكون صلاتي الظهر والعصر ألصق بفؤاده وتنتعش عباداته. فالصلاة الجيدة تكون جائزة لذلك الجهاد. الصلاة بمثابة لقاء الله. وإن كانت العبادة هي علاقة مباشرة مع الله، ولكن كيفية هذه العلاقة مرهونة بمستوى الجهاد الذي قمت به قبل العبادة. فقل لي ماذا فَعلت خارج البيت حتى تريد أن تدخله الآن؟!
يقول الإمام الحسن المجتبى (ع): «إنَّ مَنْ طَلَبَ الْعِبَادَةَ تَزَکَّى لَهَا»[تحف العقول/ص236]. الصلاة نتيجة جميع المحاسن ولذلك فمن أجل إدراك مغزى الصلاة وإحساس طعمها لابد من جهاد النفس. فالذي لم يجاهد نفسه يحرم من إدراك لذة العبادة كالطفل الصغير الذي لا يدرك شيئا من اللذة الجنسيّة.
إن لم تجاهد نفسك طوال يومك فعلى الأقل جاهدها حين الصلاة. فاختر لباسك من حلال والبسه في الصلاة. وأزل النجاسات من جسمك ولباسك. وكن طاهرا واعمل بآداب الصلاة جيّدا. إذا أطلق الإنسان عنان نفسه طوال نهاره ولبّى رغباته مهما شئت، لن ينظر الله إليه في صلاته، فما بالك بمن لم يلزم نفسه أثناء الصلاة. فجاهد نفسك أثناء الصلاة على الأقل.
أي محبوب غير مصحوب بقيود
ليس كل محبوب ومرغوب مصحوب بقيود من بداية الأمر. هناك رغبة وهواية ممتعة جدا، وفي نفس الوقت سهلة الوصول، ويمكن ذوق طعمها من بدء الانطلاق، والمبالغة في التمتع بها ليس إسرافا، وليس هذا الحبّ الجميل سوى حبّ محمد وآل محمد(ص). إن حبّ أهل البيت(ع) هدية الله سبحانه إلى أمّة النبيّ(ص).
فهو حبّ وهوى لا قيد فيه. وليس في حبّ أمير المؤمنين(ع) إفراط. طبعا هذا الذي يدعي أن أمير المؤمنين(ع) إله، لم ينته إلى هذا الانحراف لشدّة حبّه، بل قد جرّه هواه إلى ذلك، إذ أن شدّة الحبّ يجعل من الإنسان مطيعا ومتأسيا بمحبوبه.
أحد العوامل التي يسّرت حبّ أهل البيت(ع) على القلوب، هو ما عانوه من ظلامة. كل من حبّ أهل البيت تزكّى كما جاء في زيارة الجامعة الرائعة: «وَ مَا خَصَّنَا بِهِ مِنْ وَلَایَتِکُمْ طِیباً لِخَلْقِنَا وَ طَهَارَةً لِأَنْفُسِنَا وَ تَزْکِیَةً لَنَا» .
الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 1.15
إليك ملخص الجلسة الخامسة عشر من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.
الأهداف الدنيوية والأخروية لجهاد النفس
لقد درسنا في الأبحاث السابقة لحد الآن ضرورة جهاد النفس وآثاره. وفي تكملة البحث نحن بصدد الحديث عن هدفين رئيسين لجهاد النفس؛ أحدهما الهدف الدنيوي والآخر الهدف الأخروي لجهاد النفس.
الهدف الدنيوي: ازدياد طاقة روح الإنسان على الالتذاذ والتمتّع
الهدف الدنيوي من جهاد النفس هو ازدياد طاقتنا الروحيّة على الالتذاذ والتمتّع الأكثر بدلا من تنويع اللذات وتكثيرها. يجب أن نعلم أنّه لا يستطيع الإنسان أن يسيطر على حياته ويزيدها لذّة إلا بعد أن صعّد طاقته الروحيّة عبر جهاد النفس. إنّ بعض طلّاب اللذة، يطمعون أن يتمتعوا بلذات كثيرة بلا جهاد النفس، غافلين عن هذه الحقيقة وهي إن لم يجاهدوا أنفسهم يضعفوا عن التمتع بكثير من اللذات.
كيف نزداد لذة من الطعام والمنام واللذة الجنسية
إن واجهنا شخصا غير عارف بالله وغير مؤمن بالمعاد ولم ير هدف الخالق من خلق الإنسان ولم يجعل عالم الآخرة هدفا له في حياته فلابدّ أن نقول له: «ماذا تريد من حياتك الدنيوية الماديّة هذه؟ ألا تريد الالتذاذ والتمتع في هذه الحياة؟! فإن كان هذا هدفك فاترك الاهتمام بتكثير أنواع اللذات وتنويعها واشتغل بتقوية روحك ونفسك لتزداد طاقة على الالتذاذ».
فعلى سبيل المثال، بدلا من الالتذاذ بكثرة النوم والذي لا يخلو من عواقب وأمراض، حاول أن تقوّي روحك بالاستيقاظ في الأسحار، فإنك لو فعلت ذلك، سوف تزداد لذة من النوم في مدى البعيد حتى لو لم تكن مؤمنا بالله. وكذلك إن كنت من هواة اللذات الجنسية وأردت أن تزيد حظك منها، فاترك النظر الحرام فستتزداد حظا من اللذائذ الجنسية. وكذلك إن أردت الالتذاذ بطعامك وشرابك، فقلّل من التنويع والإكثار لكي تزداد لذة من الأكل. وكذلك إن شئت أن تعيش بمزيد من السعادة والسرور فلابدّ أن تتجرّع بعض جرعات الغضب وتكتمه.
الحياة الأفضل في هذه الدنيا، مشروطة بجهاد النفس
إذا استطاع الإنسان أن يقوّي روحه ويزيدها طاقة على الالتذاذ، عند ذلك سوف يلتذ بغرة الفجر والشعر والبحر والجبال والطبيعة لذة لا يشعر بها غيره وسوف يلتذ بأشياء لا يلتذ بها كل إنسان.
بالإضافة إلى كوننا مضطرّين إلى جهاد النفس شئنا أم أبينا، كذلك نحن بحاجة إليه في سبيل تحقيق حياة أفضل في هذه الدنيا، وإلا فبعد ما طوينا رداء الشباب وبدت بوادر الشيخوخة على ملامحنا نتورط بأمراض شتّى كضعف الأعصاب والكآبة والسأم وغيرها. إن جهاد النفس يقوّي إرادة الإنسان ويصنع منه إنسانا لجميع الفصول ومراحل الحياة، قادرا على حفظ معنوياته ونشاطه في مختلف الظروف ومنعطفات الحياة سهلها وصعبها، مرّها وحلوها.
تضعيف الروح بترك جهاد النفس، مدعاة إلى الحرمان من أولى لذات الحياة
إن جهاد النفس يقوّي حياة الإنسان، وكلما ازدادت الروح قوّة، يزداد الإنسان حظا من لذات الحياة. إن بعض الناس وبسبب كثرة الفرار من جهاد النفس، قد أضعفوا روحهم بحيث أصبحوا لا يلتذّون بأولى لذائذ الحياة كاللذة الجنسية. فإن هؤلاء وبسبب ضعف روحهم لا يلتذون بحياتهم، ولذلك فتجد أعصابهم محطّمة دائما باحثين عن لذة يأنسون بها فينجرّون إلى الذنوب لكي يعوضوا عمّا يعيشونه في داخلهم من عقدة الحرمان من اللذات.
يقول أمير المؤمنين(ع): «وَکَأَنِّی بِقَائِلِکُمْ یَقُولُ إِذَا کَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِی طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ وَ مُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ أَلَا وَ إِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّیَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَ الرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً وَ النَّابِتَاتِ الْعِذْیَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَ أَبْطَأُ خُمُودا»[نهج البلاغة/ الكتاب45]
نحن وللأسف قد أضعفنا روحنا بترك جهاد النفس، فلنتب إلى الله ونقل له: «ظلمت نفسي»؛ يعني إلهي لقد أتلفت نفسي! فقد لبيت هواي طيلة عمري وانشغلت بالفسوق والعصيان، إلهي اغفر لي ذنوبي وإطاعة نفسي، فلم أبقِ لي حولا ولا قوة ولا إرادة، فأصبحت إنسانا بلا تركيز وبلا بال صافٍ، عاجزا عن الالتذاذ بالطبيعة، ضعيف الجسم والبدن، فلا يقدر على خدمة غيره، لقد أصبحت إنسانا ضعيف النفس... فخذ بيدي سيدي وأجبر ضعفي. «قَوِّ عَلَى خِدْمَتِكَ جَوَارِحِي»[دعاء كميل]
لقد نقل أحد الأشخاص الذي كان قد زار سماحة الشيخ بهجت(ره) وقال: «أثناء حديثي مع سماحته، وجدت الشيخ بهجت(ره) ما زال يحفظ تفاصيل دقيقة جدا عن أيام ماضية وهو في ذاك العمر الكبير!» فمن أين حصل على هذه الحافظة القويّة؟! بطبيعة الحال إنّها بسبب جهاد النفس، طبعا ضمن البرنامج الذي يعطيه الدّين.
من عجز عن تكوين حياة دنيوية صحيحة، يعجز عن إعمار آخرته أيضا
من أراد أن لا يكون ضعيفا في حياته الدنيويّة ويحصل على قوّة روحيّة، لابدّ له من جهاد النفس. لا يخفى أن هذا هو ليس الهدف الرئيس من جهاد النفس، بل إنما هو الهدف الدنيوي منه الذي يوفّر الحد الأدنى من الحياة لا الحد الأقصى من العبودية. أمّا على أيّ حال هذا الذي لا يقدر على تكوين حياة دنيوية صحيحة، فهو عاجز عن إعمار آخرته أيضا.
من أراد أن يخدم عباد الله ويخدم بلد صاحب العصر والزمان(ع) لابدّ له أن يحظى بالموهبة والقوّة والمكنة اللازمة لهذا الشأن، وإنها تحصل بجهاد النفس.
الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 2.15
الأصل الأول في تطور الجامعات في الجانب العلمي هو جهاد النفس
إذا عرف الجامعيون أسرار جهاد النفس ومدى تأثيره على قوّة الإنسان الروحية والفكرية، سوف يصبح جهاد النفس الأصل الأوّل في التطوّر العلمي في جميع الجامعات. وهذا ما قد أثبته علم النفس أيضا. يعتقد علماء النفس أن «نسبة الذكاء» لیست العامل الرئيس في النجاح والإبداع العلمي، بل هو مفهوم آخر وعندما يشرحون هذا المفهوم نجد أنه جهاد النفس بعينه.
في أحد الاختبارات، جمع المحققون مجموعة من طلاب الابتدائية في غرفة وجعلوا فيها حلويّات، قم قالوا لهم: «العبوا ما شئتم ولكن لا تأكلوا الحلويّات حتى نرجع، ولكي نعطيكم جوائز». بعض الأطفال لم يبالوا بهذا القانون وبدأوا بأكل الحلويّات، وبعضهم صبروا فترة ثم بدأوا بأكلها بعد نفاد صبرهم وبقي قلة قليلة من الأطفال صبروا إلى النهاية ولم يأكلوا من الحلويّات شيئا. ثم بعد إجراء اختبارات عديدة أخرى على هؤلاء الأطفال ومتابعة حياتهم بدراسات وإحصاءات عديدة، خرجوا بنتيجة أن هؤلاء الأطفال الذين لم يستعجلوا بأكل الحلويّات كانوا في الواقع أكثر سيطرة على أنفسهم، وتوفّقوا أكثر في حياتهم حتى وإن كانت نسبة ذكائهم أقلّ من غيرهم. الشاب المدمن على الموسيقى في الواقع قد هدم قسما من قواه الذهنية
لماذا قال سماحة السيد القائد: «لا تروجوا الموسيقى في الجامعات»؟! لم يكن السبب هو حرمة بعض أنواع الموسيقى وحسب إذ لا خصوصية لحرمتها في الجامعات، فلعلّ السبب من ذكر الجامعات بالخصوص هو ضرورة حفظ المستوى العلمي والقدرة على إنتاج العلم في الجامعات. كان يقول الإمام الخميني(ره) وكذلك المرحوم شاه آبادي(ره) أن الشاب المدمن على الموسيقى قد هدم قسما من طاقاته الذهنية والروحية ولا تبقى له طاقة بعد للنشاط العلمي، إذ أن الموسيقى تسلب الإنسان قدرته على التركيز.
قد يقول البعض: «بالعکس؛ الموسيقى تزيدنا تركيزا»! ولكن الحقيقة هي أننا لا ينبغي أن نتكل على الموسيقى من أجل التركيز، بل يجب أن نتدرب على التركيز بلا هذه العوامل، وإلا فسوف تضعف قوانا الذهنيّة. ولذلك كان يقول الإمام الخميني(ره) إن الشاب الذي يدمن على الموسيقى لا تبقى له قوّة وطاقة بعد؛ فقد قال الإمام الخميني(ره): «الإذاعة والتلفزيون التي ينبغي أن تكون معلّمة، يجب أن تقوّي الشباب وتمنحهم قوّة. لا ينبغي للتلفزيون أن يبث الموسيقى عشر ساعات، ويسلب شابّنا قوته ويجعله في حالة من النشوة والخلسة، فهذه تشبه المخدّرات ولا تفرق عنها كثيرا وتسبّب حالة من النشوة»[صحيفة الإمام(الفارسية)، ج9، ص205] وكذلك قال الإمام(ره): «ومن جملة القضايا التي تخدّر الأدمغة هي الموسيقى. فعندما استمع دماغ الإنسان إلى الموسيقى فترة من الزمان، يتحول هذا الدماغ إلى دماغ إنسان غير جادّ، فإنها تخرج الإنسان عن جدّيته وتلفته إلى قضايا أخرى. كل هذه الوسائل التي ذكرنا بعضها وقد أعدوا إلى ما شاء الله من هذه الوسائل، كلها في سبيل إغفال الشعب عن مقدّراته وإلفات أنظاره إلى قضايا أخرى وحرفه عن قضايا اليوم حتى لا يزاحمهم...»[صحيفة الإمام(الفارسية)ج9، ص200] وكذلك قال الإمام الخميني(ره): «الإنسان المدمن على المخدرات لا يهتمّ بالبلد. الإنسان الذي أدمن دماغه على الموسيقى لا يستطيع أن يفكر بالبلد»[صحيفة الإمام، ج9، ص464]
طبعا كان الإمام الخميني(ره) يتخذ أحيانا مواقف أصلب وأشد تجاه الموسيقى، فعلى سبيل المثال قال: «إذا أردتم لبلدكم أن يكون سالما وبلدا حرّا وبلدا مستقلا، ينبغي أن تتعاملوا مع القضايا بجدّ وتبّدلوا الراديو والتلفزيون إلى أجهزة تعليميّة. احذفوا الموسيقى، ولا تخشوا من أن يرموكم بالرجعيّة لكوننا حذفنا الموسيقى. لا بأس أن نكون رجعيّين! فلا تخشوا. هذه الكلمات خطة لإرجاعكم عن العمل الجادّ. ما يقال من أنه إن حذفت الموسيقى من الراديو فسيحصل الناس على الموسيقى من أماكن أخرى، [فهو كلام غير صائب] دعوهم يأخذونها من مكان آخر، ولكن أنتم لا تلوّثوا أنفسكم، وبعد ذلك فسيرجع الآخرون إلى هنا شيئا فشيئا. ليس هذا بعذر صحيح أنه إن خلا الراديو من الموسيقى فسيذهب البعض إلى مكان آخر لتحصيلها. فإذا حصلوا على الموسيقى من مكان آخر، هل ينبغي لنا أن نقدم لهم الموسيقى؟! وهل يجوز لنا أن نخون؟! إن هذا السلوك لخيانة للبلد وخيانة لشبابنا. احذفوا الموسيقى بتاتا واستبدلوها بشيء تعليمي مفيد. وعوّدوا الناس وشبابنا شيئا فشيئا على التعلّم، وأرجعوهم من عادتهم الخبيثة تلك. عندما تلاحظون أن شبابنا يذهبون إلى نغمات أخرى إن فقدوها هنا، فإنما ذلك بسبب عادتهم! وهذا ما يدلّ على أنهم قد فسدوا. والآن فنحن مكلفون بإرجاع هذا الجيل الذي قد فسد إلى الصلاح، وأن لا نسمح لصغارنا أن يفسدوا ونقف أمام ذلك. لابدّ أن تحمل هذه المسائل على محمل الجدّ»[صحيفة الإمام،ج9، ص205]
وكذلك قال في كلمة أخرى: «كانت الإذاعة والتلفزيون في زمن الطاغوت تباشر بنشاطات طاغوتية. كانت قد صبت نصف نشاطها في تضعيف شبابنا بالموسيقى. الموسيقى تضعّف روح الإنسان وتسلب الإنسان استقلاله الفكري. كان نصف نشاط الراديو والتلفزيون بث الموسيقى. حاولوا أن تتركوا الموسيقى. لا تزعموا أن الموسيقى هو أمر لازم للبلد المتطوّر. الموسيقى تخرّب أدمغة أطفالنا وتفسدها. إذا كانت الموسيقى تقرع أسماع الشابّ بشكل مستمر، فإنه لا يقدر على مواصلة العمل ولا يقدر على التفكير الجادّ. وهذا هو السبب من تأكيدى على حذفها. ولعلّى عشر مرّات أو أكثر قد أكدت على السيد قطب زاده (مسؤول الإذاعة والتلفزيون يومذاك) وقلت له أن احذف الموسيقى من الإذاعة، ولكنه يقول: «لا یمکن». أنا لا أعلم ما معنى «لا يمكن»؟ ولماذا لا يمكن؟ اسمعوا كلامي. أنا أقول إن عملنا بشيء لصلاح شعبنا، ثم جاء الغربيون أو المتغرّبون وعابوا علينا واتهموا فعلنا بالرجعيّة، فهل ينبغي أن نترك عملنا ونذهب وراءهم، أو يجب أن نرى مصلحتنا؟ يجب علينا أن نتأمل في أن هذا الجهاز الذي يجب أن يكون معلّما ومربّيا وبنّاء للشعب، لا ينبغي أن يديره الإنسان بطريقة بحيث يغفل الناس عن مقدّراتهم ويصبح همّهم هو الجلوس أمام التلفاز وتلقّي هذه البرامج بسمعهم وأبصارهم، ثم يفسد باطنهم بعد أيّام قليلة ويفرغ من محتواه. لا تخافوا من أن يرموكم بالرجعيّة. لق نسبوا لنا ذلك خمسين سنة، وليقولوا ذلك بعد هذا فها نحن كذلك. تلقوا هذه المسائل بجدّ ولا توجّهوا آذانكم إلى أوروبّا لتروا ماذا تقول. وإذا أردتم أن تحسنوا في العمل فلابدّ أن تفرّغوا الإذاعة والتلفزيون من القضايا المضعّفة لقلب الإنسان ولدماغة والتي تبعد الإنسان من إنسانيّته وتسلبه استقلاله الفكري.»[صحيفة الإمام(الفارسية)، ج9، ص156ـ158]
كلما شاهد الإنسان أنه يعاني من ضعف غير معقول في حياته الدنيويّة، فليعرف بأنّه قد فرّ من جهاد النفس في أحد مواطنه.
الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 1.16
إليك ملخّص الجلسة السادسة عشر من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.
الأهداف الدنيوية والأخروية لجهاد النفس
لقد درسنا في الأبحاث السابقة لحد الآن ضرورة جهاد النفس وآثاره. وفي تكملة البحث نحن بصدد الحديث عن هدفين رئيسين لجهاد النفس؛ أحدهما الهدف الدنيوي والآخر الهدف الأخروي لجهاد النفس.
جهاد النفس من أجل الحصول على الأهداف الدنيوية أمر ضروري لجميع المجتمعات البشريّة
لقد ذكرنا في الجلسة السابقة أحد الأهداف الرئيسة والمهمّة لجهاد النفس وجرى الحديث حوله باختصار. وكان الهدف عبارة عن أننا إذا سيطرنا على هوى نفسنا واستطعنا أن نسيطر على بعض رغباتنا الدانية، سوف نحظى بشخصيّة أقوى تمكّننا من نيل أهدافنا الدنيوية بشكل أفضل. وإن جهاد النفس هذا من أجل الحصول على الأهداف الدنيوية أمر ضروري لمجتمعنا وجميع المجتمعات البشريّة.
إذا كان أهل العالم يمارسون المعاصي وينخدعون بمكائد إبليس، فذلك بسبب أن قد كُذِب عليهم بأن سوف يتمتعون بمزيد من اللذات في هذه الدنيا عبر المعاصي والذنوب، مع أن الواقع هو أن ترك جهاد النفس، يؤدي إلى قلة التذاذ الإنسان في هذه الدنيا فضلا عن الآخرة. إنّ استقبال المصاعب وإيجاد النظم والانضباط في الحياة وتكوين شخصية أقوى عبر جهاد النفس، هي من العوامل التي تقوّي الإنسان على الاستمتاع بلذائذ الحياة الدنيا.
اتباع الهوى مدعاة لذلّ الإنسان وهوانه، وبالتالي عجزه عن إعمار دنياه
إن ترك اللذة تمهّد الإنسان للالتذاذ، إذن أحد أهداف جهاد النّفس المهمّة هو إعمار حياة الدنيا، إذ أنها تزيد الإنسان قوّة وقدرة على التركيز، في حين أن اتباع الهوى مدعاة لذلّ الإنسان وضعفه وهوانه وبالتالي عجزه عن إعمار دنياه.
كما يمكن مشاهدة آثار جهاد النفس في مجال الصحة وسلامة النفس أيضا. فعلى سبيل المثال الإنسان الذي يجاهد نفسه ولا يكذب، يحظى باطمئنان ولا يتشوّش باله ولا شكّ في أن الحياة الأفضل بحاجة إلى هذا الاطمئنان.
الهدف الرئيس من جهاد النفس هو لقاء الله
وإن كان أحد أهداف جهاد النفس المؤكدة هو الحصول على حياة أفضل في الدنيا، ولكنّه هدف فرعي، إذ سرعان ما ينتهي أمد الحياة الدنيا. وأيّ إنسان سليم يقنع بعمران دنياه فقط، مع أنه سرعان ما تمرّ وينتهي شوطها؟ فمثل هذا الهدف ليس بهدف سام وقيّم بأن نهدف إلى حياة أفضل في هذه الدنيا عبر جهاد النفس، فلا ينبغي أن نعتبر الحياة الدنيوية الأفضل هدفا رئيسا لجهاد النفس، بل ينبغي أن نعتبرها هدفا فرعيا وأحد فوائد جهاد النفس.
بعض الأحيان عندما يشاهد الإنسان بعض هذه البرامج في القنوات والفضائيات والتي تستضيف شخصية موفقة وناجحة مثلا، يشعر بالمهانة من شدّة الأهداف النازلة التي تروج لها هذه البرامج. فتراهم يستضيفون الضيف الناجح والموفّق في الحياة ويصفق له الجمهور وهو يطرب لصوت التصفيق، وإذا به لم يصل إلّا إلى هدف بسيط جدا ومحدود بأيام قليلة من هذه الدنيا. وفي الواقع إنجازه هو أن يصفق له جمهور البرنامج ولا غير! ولا يسأل أحد عن مدى حفاظه على اطمئنانه وعقله وفطرته وصفا باطنه.
ويودّ بعض الناس أن يدّنسوا ساحة السياسة بهذا الانحطاط، بحيث يحدّدوا نطاق النجاح السياسي ونجاح الناشط السياسي بإنجاز الأهداف المحدودة بهذه الدنيا. فتعسا لمثل هذا الفكر العار على البشر. لقد اجتاز البشر من هذه المرحلة. متى صارت الأهداف السياسية محدودة بإعمار الدنيا؟! فإنّ هذا الفكر هو عين الوثنية وعين الحماقة والجهل والسفاهة، ولابدّ من إيجاد ثورة على مثل هذه الرؤى المنحطّة، وإلا فلا تخلو أوساطنا السياسية من أناس منحطّين بحيث يقلّلون أهداف الإنسان السامية في شعاراتهم السياسية إلى مستوى هذه الدنيا الدنيّة.
طبعا لا يقتصر هذا الكلام بموضوع السياسة، بل يجب أن تكون أهداف جميع النشاطات الاجتماعية والإنسانية أسمى من هذه الدنيا، وكذلك إن واجهنا أيّ مفهوم مرتبط بالنجاح والتوفيق، من قبيل مؤشرات الإنسان الموفّق، أو الأسرة الناجحة أو المجتمع السالم والمتطوّر، أو النظام السياسي الناجح، أو النظام الاقتصادي الناجح، لابدّ أن لا نحدّد التوفيق والنجاح في هذه الأصعدة المختلفة بالنجاح الدنيوي، وإلّا فيكون تعريفنا عن النجاح والتوفيق أقلّ من شأن الإنسان.
لماذا نريد أن نجاهد أنفسنا؟ قسم صغير من آثار جهاد النفس هو تحسين الحياة الدنيا، ولابد من تحسين الدنيا لتحلو حياة المؤمنين وتزداد صفاء ولذّة وقوّة وتكون أفضل من حياة غير المؤمنين ونحن لا نغضّ الطرف عن هذا الجانب، ولكننا لا ننظر إلى هذا الجانب كهدف أصلا، بل ننظر إليه كواحدة من فوائد جهاد النفس. كما أنك عندما تريد أن تذهب إلى مشهد، لابدّ لك أن تمرّ بمدينة نيشابور، ولكن ليست نيشابور بهدف في سفرك، بل هي إحدى فوائد الذهاب إلى مشهد. فليس من الصحيح أن تقول أنا بصدد الذهاب إلى مشهد وكذلك الذهاب إلى نيشابور! إذ عندما تلاحظ الهدف الأقصى، عند ذلك تتحقق الفائدة ويُنجز الهدف المتوسط والداني بطبيعة الحال.
لا ينبغي أن نحدّد الهدف من جهاد النفس باعتباره الطريق الوحيد، بتحسين الدنيا وإعمارها وتكوين حياة أيسر. فنحن بصدد جهاد النفس في سبيل تحقيق هدف مهمّ جدا. فما هو ذلك الهدف المهم الذي قدّر الله أن يكون الطريق إليه يمرّ من جهاد النفس؟ وما هو ذلك الحدث المهم الذي يجب أن نجاهد أنفسنا في سبيل تحقيقه، ونستمر بجهاد النفس حتى تعمّر آخرتنا فضلا عن دنيانا؟ لقد تمّ تحديد هذا الهدف السامي من قبل الله، ولكن يجب علينا معرفته فقط.
صحيح أن بعض الناس قد لا يرتاح عندما يرى أنه لا دور له في تحديد الهدف الرئيس من حياته، ولكن لا مفرّ من ذلك، إذ يجب أن نسأل خالق الإنسان أن لأيّ غاية خلقنا؟ فإنك إن عرفت هذا الهدف جيّدا، تستطيع أن تعشقه. أمّا من كان باردا لا حافز له ولم يحمل القوّة والطاقة اللازمة لسلوك هذا الطريق الوحيد، فهو لم يتعلق بهذا الهدف بعد. إن جاذبية هذا الهدف أقوى من جاذبيّة الأرض التي تسحب الأشياء إليها وكذلك أقوى من جاذبية القمر الذي يسبب مدّ البحر. فهل لله جاذبية أيضا؟!
نعم ومن المؤكد أن الله جذّاب. وقد خلقنا لنصل إلى الله ونلتذّ بالقرب منه. (إنّا لله وإنا إليه راجعون) و (و إليه المصير). إن يوم القيامة بمثابة الشارع الذي يجب أن نجتازه في سبيل الوصول إلى حيّنا وهي الجنة، وهناك يحدث الحدث الرائع الذي لا يوصف وهو لقاء الله سبحانه. لقد خُلِقت في سبيل لقاء الله وقد صنعت من أجله. إن خالقك هو الذي حدّد هدفك ولم يسمح لك بتحديد هدفك الرئيس.
إلهي! لماذا خلقتني؟! فإن سألته يجبك: لقد جئت إلى هذه الدنيا لتستمتع بالراحة واللذة. لقد خُلِقت من أجل اللذة ولكنك تطلب اللذة الحقيقية، وأمّا اللذّات الفانية فتؤذيك وتضرّك. لقد صنعتك من أجل لذّة عظيمة جدا، وهي لذّة لقائي. فقد خلق الإنسان في سبيل لقاء الله. كلّ لذة تفنى وتنفد ما عدا لذة لقاء الله فإنها غير متناهية.
الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 2.16
جميع الناس ـ شاءوا أم أبوا ـ سائرون في سبيل لقاء الله
يقول الله سبحانه في القرآن: (یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ کادِحٌ إِلى رَبِّكَ کَدْحاً فَمُلاقیه)[الانشقاق/7] وكما تلاحظون لم يأت خطاب الآية بصيغة «یا أيها الذين آمنوا»، بل قد خاطب جميع الناس، يعني جميع الناس ـ شاءوا أم أبوا ـ سائرون في سبيل لقاء الله، ولكن بإمكان الإنسان أن يدير محنه ومصاعبه بحيث يحظى بلقاء أمتع وأجمل مع الله، وكذلك يستطيع أن يتجرّع المصاعب والمتاعب بلا هدف وبرمجة، وبلا أن تترك أثرا إيجابيا على لقائه مع الله.
هيجان لقاء الله هيجان غير متناهٍ
إن لقاء الله ممتع جدّا، وإنما أصحاب القلوب السوداء فقط لا يستطيعون أن يفكّرون بهذا اللقاء. فمن كان يحظى بشيء قليل من صفاء القلب قادر على إحساس حلاوة لقاء الله. طبعا إن حلاوة لقاء الله تختلف عن باقي اللذّات كلها، إذ أن الله هو الخلّاق. قد يصدف أن نرى إنسانا غير جميل يرسم لوحة جميلة جدّا، ولكن الله سبحانه ليس هكذا، إنه خالق الجمال ولا شك في أنه أجمل من كل جمالٍ خلقه. إن هيجان لقاء الله هيجان غير متناهٍ، بحيث يواجه المؤمن لذّة جديدة في أيّ لقاء، فينسى بها اللذّات السابقة. إن الله موجود غير محدود، وكذلك لا حدّ للذّة لقائه. قد يسأل سائل: ألا نضجر من الجنّة؟! كلا! لأننا سوف نتمتع في الجنة بلقاء الله ولن يصبح هذا اللقاء أمرا مكرّرا رتيبا، و نحن قد خلقنا من أجل الاستمتاع بلقاء الله نفسه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يذيقك ـ أخي العزيز ـ شيئا قليلا من لذّة لقائه في الصلاة، فبعد ذلك تقطّع نفسك وترضى بكلّ شيء في سبيل أن تزداد حظّا من هذه اللذّة اللا نهائية. وبعد ذلك تبقى خجلا من الله سبحانه لشدّة منّه عليك ولا تزال تشعر بالبهجة والسرور بذلك اللقاء، وتقضي باقي أيام حياتك باشتياق هذا اللقاء وانتظار تجربة أخرى من ذلك اللقاء، وتبكي شوقا لساعة اللقاء وما أجملها من ساعة. ثم تُكرَه على البقاء في هذه الدنيا ولو كان الأمر بيدك لغادرتها شوقا إلى لقاء الله. وأساسا تتغير ماهية حياتك في هذه الدنيا بعد تجربة لقاء الله في الصلاة.
أنا لا أدري ما الذي تريدون أن تفعلوه في سبيل نيل شيء من لقاء الله في هذه الدنيا، هل تريدون أن تذكروا الله كثيرا، أو تدمنون على دعاء جوشن الكبير مثلا، أو تريدون أن تصلّوا بكل أدب وخضوع، أو عزمتم على ترك بعض اللذات في سبيل إدراك تلك اللذة العظيمة، أو تريدون أن تقطّعوا أنفسكم إربا إربا... لا أدري ماذا سوف تفعلون، ولكن اسألوا الله أن يذيقكم طعم لقائه، وادعوا لي أنا المسكين الذي أكثر منكم حرمانا وخيبة.
طبعا كل الناس جميعا يلاقون الله سبحانه، ولكن بعضهم سوف يلاقونه في أحسن الحال، وبعضهم يلاقونها في أسوأ الحال. ولقاء كل فرد بالله يختلف عن لقاء الفرد الآخر، فإذا أردنا أن نجسّد تلك الحقيقة الرائعة بألفاظنا الصغيرة نقول: إن البعض لا يجد في لقاء الله سوى ابتسامة ربّه في وجهه، وبعض يضمّه الله إليه، وبعض يباهي به الله وهذه هي ألذّ لذّات العالم. فيا أيها الإنسان الذي تطرب وتنتعش بتصفيق قاعة مليئة بالناس لك، فما تفعل إن صفّق الله لك؟ عند ذلك سوف لا تشتري أهل العالم بفلس أحمر، لشدّة غناك عنهم وشدّة لذّة لقاء الله.
سوف يأتي اليوم الذي ندرك فيه كل هذه الحقائق وذلك يوم القيامة. في ذلك اليوم إذا امتنع الله من أن يكلّم أحدا، يكون أشدّ عليه من عذاب جهنّم. سوف ندرك في ذلك اليوم مدى لذة لقاء الله، فإذا امتنع الله من النظر إلى أحد سيكون أشدّ عليه من عذاب نار جهنّم.
من أجل الوصول إلى لقاء الله لابدّ أن نزداد سعة والطريق إلى ذلك هو جهاد النفس
ليس لنا سوى طريق واحد للوصول إلى لقاء الله وهو جهاد النفس. فبعد أن التفتنا إلى هذا الهدف لابد أن نغض الطرف عن بعض الملذّات والرغائب.
من أجل الوصول إلى لقاء الله لابدّ أن نزيد سعتنا، ولكن كيف يتمّ ذلك؟ طريق ذلك هو أن نتطهّر من الأنانيّات ونترك الرغائب حسب البرنامج الإلهي. فإذا أراد أحد أن ينظم برنامجا لجهاد النفس على أساس رأيه وقراراته الشخصيّة، يخاطبه عقله قائلا: «هل تريد أن تبرمج لنفسك بنفسك؟ فعندئذ تبقى أنانيتك على حالها. فإذا أردت «أنت» أن تترك بعض مشتهياتك، تبقى «إنيتك» على حالها وهذا نقض للغرض.
طريق زوال «الأنا» هو استلام الأوامر من الله
لا ينبغي أن يبقى أثر لإنيتك في مقابل الله سبحانه، ولا يسمح الله لأحد أن يتشرّف بلقاء الله إلا بعد أن زالت أنانيته ورغباته أمام الله ومشيئته. لقد خطّط الله برنامجه بحيث تسيطر على شهواتك بأمره وتغض النظر عن بعض لذائذك ولابدّ أن يكون ذلك بأمر الله لا بأمرك، إذ أن طريق زوال «الأنا» هو استلام الأوامر من الله سبحانه. «الحافز» الرئيس في هذا الطريق الوحيد هو «لقاء الله»، ولا يحقّ لك أن تضع برنامجا في هذا الطريق، فإنك لو فعلت ذلك تتكبّر نفسك مرّة أخرى. ليس تكبّر النفس بشيء جيّد، إذ أن الله هو المتكبر ولا غير، فإنّك إن تكبّرت بمقدار ذرّة، لن تجد رائحة الجنة كما في الرواية. فقد قال رسول الله (ص): «یَا أَبَاذَرٍّ، مَنْ مَاتَ وَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ کِبْرٍ، لَمْ یَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ یَتُوبَ قَبْلَ ذَلِك» [أمالي الطوسي/538] وكذلك قال الإمام الصادق(ع): «لَا یَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِی قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ کِبْر» الكافي/2/310]
لابدّ أن يطاع الله بنفس برنامجه الذي حدّده؛ لا البرنامج الذي نحدّده نحن. فقد روي عن الإمام الصادق(ع) أن الله قد قال لإبليس: «إِنَّمَا أُرِیدُ أَنْ أُعْبَدَ مِنْ حَیْثُ أُرِیدُ لَا مِنْ حَیْثُ تُرِیدُ» [تفسیر القمي/1/42] فقد برمج الله المقرّرات والمقدّرات وأعلن عن الضوابط المتمثلة بالأحكام الإلهية في الدين.
الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 3.16
يقضي الله على أنانية الإنسان عبر التقادير والتكاليف
علينا أن نجاهد هوى نفسنا لأن لا يبقى أثر من «الأنا» وهذا هو معنى العشق الذي ما أجمله وما أمتعه وما أكثر الذين طبّلوا وزمّروا باسمه ولم يدركوا شيئا من حقيقته. لا ينبغي أن يبقى أثر من «الأنا» في مقابل المعشوق، وهذا هو الله الذي يسلب أنانية الإنسان عبر تقديراته وتكاليفه. إعطاء البرنامج من شؤون الله والأمر والنهي هما من صميم جهاد النفس. ومن شؤون العبد أن يكون منتظرا لاستلام الأمر متأهّبا لتنفيذه.
«جهاد النفس» يعني الالتزام بالأوامر الإلهيّة
إذن «جهاد النفس» هو عبارة أخرى للالتزام بالأوامر الإلهية والذي يعبّر عنه القرآن بـ «التقوى». تأكيد القرآن على التقوى هو في الواقع تأكيد على الالتزام بالأوامر الإلهية. وركن التقوى هو جهاد النفس عبر الالتزام بأوامر الله لا العمل على أساس أميال النفس. فإنك إن جاهدت نفسك على أساس الأوامر الإلهية فقد عملت بالتقوى. كما قال أمير المؤمنين(ع): «إنَّما هي نَفسي أروضُها بِالتّقوی»[نهج البلاغة/ الكتاب45] فإذا جاءك الأمر من المقام الأعلى فإنّه ذو أثر آخر، ولا يموت هوى نفس الإنسان إلا باستلام الأمر من المقام الأعلى.
يبدو من وجوهكم وأعماركم أنكم لم تكونوا حاضرين في الجبهة. فكم كان لهذا الحديث من طلّاب وشرّاء في جبهات الجهاد. كان بعض المجاهدين عشّاقا للشهادة ومتحمّسين للذهاب إلى الخطّ الأمامي، أما إذا أمرهم القائد أن لا يذهبون إلى الأمام ويبقون في مكانهم، يطيعون ويمتثلون. كنّا نرى هذه الظاهرة في كتيبتنا. وأحيانا كنا نجد بعض المجاهدين الذين كلّ ما يأمره قائد الكتيبة بالبقاء في الخلف، لا يمتثل ولا يطيع. وأكثر هؤلاء المتمرّدين لم ينالوا الشهادة بل قد انحرف بعضهم.
كان أحد المجاهدين فنّانا يخطّ ويرسم لوحات ثقافية وشارات. فکان القسم الثقافي في الفيلق يطلب منه أن يبقى في الخلف ليخطّ اللوحات والشارات المطلوبة. فكان يبقى في الخلف دون أن يصرّ على الذهاب إلى الأمام، وكان يضحك ويقول: «متى ما حان الوقت يأتي صاحب البيت ويأخذنا إليه، ولا علينا سوى أن نعمل بالتكليف». في إحدى الحملات جاءوا إليه من الأمام وقالوا له: قد اشتبكت الطرق في الخط الأمامي، فأسرع إلى هناك لكتابة الشارات. فضحك وقال: ألم أقل لكم متى ما حان الوقت يأتون ويأخذوننا. وفعلا ذهب واستشهد في المرّة الأولى.
أحد العلماء الكبار والمجتهدين، كان قد ذهب إلى الجبهة، فاغتبط به المجاهدون وطلبوا منه أن يأمّهم في الصلاة. ولكنّه امتنع وقال: أنا لا أتقدم على المجاهدين. فكل ما أصرّوا عليه وقالوا له: أنت شيخ كبير وعالم فقيه وفي هذا العمر قد جئت إلى الجبهة فمن أفضل منك الآن، رفض أن يتقدّم في الصلاة. إلى أن قال: في حال واحد أقبل وهو أن يأمرني قائد الكتيبة بإقامة الصلاة، فعند ذلك يجب عليّ امتثال أمره، إذ أن أمره في امتداد أمر قائد الفيلق وقائد القوّات المسلّحة وبالتالي الإمام الحجة(عج)، فإذا أمرني، يجب عليّ الامتثال شرعا.
علاقة التقوى مع جهاد النفس في الروايات
يقول أمير المؤمنين: «رأسُ التُّقی مخالِفَة الهَوى»[عيون الحكم/263] وكذلك قال(ع): «من جاهد نَفسه أکملَ التّقی»[غرر الحكم/ الحديث4940] وقال(ع) في حديث آخر: «لَا یُفْسِدُ التَّقْوَى إِلَّا غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ»[غرر الحكم/ الحديث6003] وكذلك قال(ع): «طُوبَى لِمَنْ عَصَى فِرْعَوْنَ هَوَاهُ وَ أَطَاعَ مُوسَى تَقْوَاه»[عيون الحكم/5493].
لقد كتب أمير المؤمنين(ع) كتابا إلى معاوية فجاء فيه: «تذْکُرُ التَّقْوَى وَ أَنْتَ عَلَى ضِدِّهَا؛ قَدِ اتَّبَعْتَ هَوَاكَ»[كنز الفوائد/ج2/ص43] وهذا ما يدلّ على تضادّ هوى النفس مع التقوى.
وكذلك جاء في حديث طويل عن الإمام الرضا(ع): «لکنَّ الرَّجُل کلُّ الرَّجل، نِعمَ الرَّجل هو الذّی جَعَلَ هَواه تبعاً لِأمر الله» [مجموعة ورّام/ ج2/ص100]. فمن خلال هذه الروايات يمكن فهم الترابط الموجود بين الأمر الإلهي وبين التقوى وجهاد النفس.
صلى الله عليك يا أبا عبد الله
أحيانا تقتضي التقوى أن تضحّي بأعزّ أعزّائك، وليس شأنك سوى أن تترقّب الأوامر فقط. فلا يكن هدفك أن تصبح إنسانا صالحا، فتفسد بهذا الطريق، بل يجب أن تنفّذ الأوامر. وأحيانا يقتضي امتثال الأمر الإلهي أن تغضّ الطرف عن كثير من القيم والأعمال الصالحة في سبيل أمر أهمّ وأسمى.
أنتم تعلمون أيّها الإخوة أن أهل الإنسان وزوجته وأطفاله من أعزّ الناس عليه، كما أن لهم احترامهم وشأنهم ويجب على الإنسان أن يحافظ عليهم ويحميهم من الأخطار. ولذلك أشاروا على الحسين(ع) أن سلّمنا بأنك عازم على الجهاد ومواجهة الظالمين، ولكن لماذا تذهب بأهلك ونسائك وأخواتك وأطفالك وبناتك إلى الحرب. ولم يكن جواب الحسين(ع) إلا أن قال: لقد أمرني رسول الله(ص) بأمر أنا ماض له.
نحن لو كنّا في زمن الإمام الحسين(ع) لعلّنا كنّا نقول له: إذهب جعلنا الله فداك وامض إلى امتثال أمر الله عسى أن تختم هذه القصّة بخير كما ختمت قصّة إبراهيم الخليل بخير ولم يسمح له الله بذبح ابنه. اذهب فلعلّ الملائكة تهبط وسط الطريق وتقول: لقد تقبّل الله جهادك وقد نجحت في هذا الامتحان فأرجع زينب، ولكن جاء يوم العاشر ومرّت الساعات ولم يأت خبر من السماء...