صفحة 3 من 14 الأولىالأولى 12 34513 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 133
الموضوع:

الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني، للأستاذ بناهيان - الصفحة 3

الزوار من محركات البحث: 108 المشاهدات : 6152 الردود: 132
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #21
    صديق فعال
    تاريخ التسجيل: January-2013
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 609 المواضيع: 210
    التقييم: 146
    آخر نشاط: 22/June/2017
    شكرا جزيلا لكم أيها الإخوة الكرام والأخوات الفاضلات على مشاركاتكم وتعليقاتكم الجميلة وأعتذر عن التأخير والتقصير في رد جميلكم وشكركم. أعد المتابعين لهذه المحاضرات الرائعة أنهم سوف يحصلون على رؤية جميلة جدا تجاه الدين وسوف يحصلون على رؤية لطيفة جدا تجاه الحياة وقوانين الحياة إن شاء الله. فتابعونا وسوف أتابع أنا أيضا في الترجمة ونشر الجديد.

  2. #22
    صديق فعال

    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 4-2

    أحد آثار هذه الرؤية، اتضاح تكليف الإنسان

    ما فائدة هذه الرؤية؟ أرجو أن تسمعوا هذه العبارة بتمعّن. من أهم فوائد هذه الرؤية الشمولية والصائبة هي أنها تشخص تكليف الإنسان بشكل دقيق. إنه لإدعاء كبير جدا، وهو أنه ليس لنا في كل الحياة سوى تكليف واحد. فلابدّ أن نراقب شيئا واحدا فقط. وسوف نعي هذه الحقيقة إن شاء الله. فليس المطلوب هو أن نقوم بمئة عمل ولأن أن نزيل مئة عيب ونحصل على مئة حسنة، فكلها أمر واحد.
    فلابدّ أن نعرف ذاك الأمر الواحد الذي تشتمل عليه كل الأعمال الصالحة، إذ إن جميع الحسنات والصالحات بدءً من الحد الأدنى من القضايا الأخلاقية إلى أقصى مراتب عشق الله وعشق أوليائه، هي صور لهذا الأمر الواحد الذي لا آخر له. فإن عرفت هذا النظام وصحّت رؤيتُك واتجاهُك، عندئذ ترسم خطا مستقيما من موقعك الذي أنت فيه إلى نقطة الهدف، وسوف تعلم ماذا عليك وما الذي يجب أن تقوم به.
    أما إن لم يقدر الإنسان على رسم هذا الخط المستقيم، يبقى في حيرة بين مختلف الفضائل والرذائل فلا يدري أيصلح حسده أم يراقب بخله أم يقضي على حب المقام أم يزيل حب الراحة؟! أفهل هي عيب واحد أم عيبان؟ بل هي آلاف، فما يصنع هذا الإنسان المسكين الضائع بين عيوبه ورذائله؟!
    إن هذه الحيرة ليست بحالة جيدة، فليس من الصحيح أن يكون الإنسان في حيرة من أمره لا يعرف حاجته الأولى من بين مختلف الصفات الجيدة، من قبيل الصدق والصبر والتواضع والكرم وغيرها. إن هذه الحالة هي حالة الحيرة المذمومة. قد يقول البعض أن الجميع مبتلون بهذه الحيرة. أقول: فهل تصبح حالة جيدة إن ابتلى بها الجميع؟! فأين موقع معرفة النفس إذن، وكيف نتمكن من محاسبة النفس؟ فإن لم تكن رؤيتي صائبة تجاه الطريق الذي أريد أن أسلكه وإن لم أعرف تكليفي الرئيس ولا أميّز بين التكليف الأصلي والفرعي، لن أستطيع أن أحاسب نفسي أبدا.

    من آثار هذه الرؤية، تبلور الحكمة في قلب الإنسان

    إن دور النبي(صلی الله علیه وآله) هو أن يعلّم الناس الكتاب والحكمة؛ (هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَة)[الجمعة:2] فما معنى الحكمة؟ إن الكتاب هو علم يدخل في قلب الإنسان من الخارج، أما الحكمة فهي علم تفور من داخل القلب. فالحكمة هي إنتاج العلم لا تعلّمه. فكأن الله أراد من النبي الأعظم(صلی الله علیه وآله) أن يربّي أفراد أمّته لكي يصيروا حكماء.
    من خصائص الإنسان الحكيم هي أنك عندما تقرأ عليه الروايات، يتقبلها بكل رحابة صدر ويؤيدها بقلبه. فهو يدرك صحتها ويعرف موقعها من الدين. فتجده يتحدث بمضمون الروايات قبل أن يسمعها أو يعثر عليها في كتب الحديث. فتأتي الآيات والروايات مؤيدة لما كان يشعر به في قلبه.
    متى يصل الإنسان إلى هذه الحكمة؟ عندما يشاهد الفيل كلّه بنظرة واحدة. أما إن لم ير الإنسان هذا الفيل وكانت معرفته به عبر بعض اللمسات المتفرقة وحسب، لا يستطيع أن يصدّق أو يستوعب كثيرا من كلمات المتحدّث عندما يتحدث عن الفيل. فإذا تحدّث عن ذنبه أو تحدّث عن خرطومه يتلقّى هذه المعلومات كمعلومات جديدة غريبة على قلبه وقد لا يستطيع الاستيناس بها.
    أما الحكيم فهو الذي قد رآى الفيل كلّه. فعن أي عضو من أعضاء الفيل تتحدث معه، يتفاعل معك ويكمل كلامك وحتى قد يزيدك ببعض المعلومات. فالحكيم هو ذاك الإنسان الذي تلصق الروايات بفؤاده لشدّة انسجامها مع ما طُبِع عليه قلبُه، ثم يعرف موقع الروايات من الدين وما هو دورها في حركة الإنسان الدينية. هذا هو أحد أبعاد الحكمة.
    من خصائص الحكيم هي أنّه يكون على بصيرة من نفسه. فهو يعرف داءه وعيوبه. ذات يوم قال لي رجل من أولي البصائر والألباب: إن بيني وبين الإمام الخميني(ره) بونا شاسعا. فاستغربت من قوله وقلت في نفسي: أمن الفنّ أن يعرف الإنسان أن بينه وبين الإمام الخميني(ره) بعد المشرقين؟! ولكني ما كنت أستطيع أن أبدي استغرابي له إذ كنت أحترمه كثيرا. ثم زال استغرابي في جملته التالية حيث قال: ولكني أعلم السبب والداء الذي جعلني أتأخّر عن مقام الإمام(رض). فعرفت أنه يتحدث بحكمة ووعي. وإلا فأنا أيضا أدعي أن هناك بون شاسع بيني وبين الإمام(رض)، ولكني لا أعرف الأمراض التي أخّرتني عن ذاك المقام، ولكنه قال إني أعرف العلة والداء الذي سبّب هذا البون الشاسع.
    هذه هي الحكمة. فإنها تجعلك تفهم وتعلم أكثر ممّا سمعت. وهذا هو أثر الرؤية والمشاهدة، حيث إنك تشاهد مشهدا عبر لحظة واحدة، ولكنك تقدر على كتابة ما شاهدت في مئة صفحة. وكلما رأيت المشهد من زاوية جديدة، تستطيع أن تكتب حقائق جديدة عن المشهد. فينبغي أن نرى الدين بطريقة نتمكن من شرح مختلف أبعاده للناس وأن نعطيهم صورة صحيحة عن الدين. لابد أن ندرك ماهية علاقتنا بالدين جيّدا ولا نخدع أنفسنا.

    يتبع إن شاء الله...

  3. #23
    صديق فعال

    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 4-3

    مرور على ما انتهينا إليه في الجلسات السابقة

    كل هذا ا لكلام الذي مرّ الآن واستغرق ربع ساعة، كان مقدمة البحث. فلنرى هل نستطيع أن نتقدم في البحث في نصف الساعة الباقية. فلنستعرض بإيجاز ما انتهينا إليه في الجلسات السابقة.
    لقد خلق الإنسان بصفته قادرا على إيجاد التغيير في وجوده، وقد عبّرنا عن هذا المعنى في الليلة البارحة بإنتاج القيمة المضافة. فتمّ القرار على أن يكون الإنسان قادرا على ترقية نفسه وتحسينها. ثم قلنا لا يتمّ هذا الإرتقاء عبر ازدياد المعلومات وحسب، إذ إن مجرّد ازدياد المعلومات لا يحسّن شيئا في العالم. وسوف تتضح أحقية هذا الإدعاء من خلال الأبحاث التالية.
    إن الارتقاء والتطوّر منوط بأن تشتملَ أنت على رغبة أو رغبات، ثم تتخلّص من بعض رغباتك عبر صراع شديد بين الرغبات، إلى رغبات أخرى. أو أن تغيّر هواك في خضمّ تضارب الأهواء. فهذا الارتقاء منوط بتغيير ثمين.
    فإن كنت تحبّ شيئا ما ثم تعمد إلى أكله أو لبسه أو اتخاذه تلبية لهواك، فإنك لم تتغيّر. وسوف يكون شأنك كشأن الملائكة الذين يحبّون الله ويسبحون بحمده بمقتضى طبيعتهم، فإنهم لا يقدرون على إيجاد تغيير في داخلهم. فإنهم صالحون ويبقون صالحين. ولكنك لست مثلهم إذ المفترض منك أن توجد تغييرا وأن تتكامل وتكسب الصلاح عبر عمليّة التغيير. هنا قد يتبادر في ذهنكم سؤالا وهو لماذا وجب ذلك وما السبب من اختصاص الإنسان بهذا التغيير، وسوف نجيب عن هذا السؤال لاحقا إن شاء الله.
    لقد قُدّر للإنسان أن يكون قادرا على تغيير نفسه ويكسب الصلاح عبر هذا التغيير، لا أن يكون موجودا صالحا من الأول كما هو الحال في الملائكة. بل لابد أن يترقّى ويصلح من خلال صيرورة وتغيّر. فإن نجح إنسان في هذه العمليّة واستطاع على إنجاز ذلك فقد سبق الملائكة وتفوّق عليهم. ولا سبيل لنيل هذا الهدف سوى أن تكون مشتملا على رغبات متعددة، وتُعطى حقّ الاختيار من بين أهواء ورغبات شتّى وكذلك تُعطى قدرةَ الاختيار، ثم تصرع رغبةً وتختار أخرى.
    هذا هو الحدث الرئيس الذي خُلقتَ إنسانا من أجله. وقد بدأت حياتك الإنسانية من هذا المنطلق. وصار الإنسان إنسانا لما يشتمل عليه من أهواء متضاربة لابدّ أن يختار بعضها دون الأخرى وهذا هو شأنه إلى آخر عمره. أما ما هي الرغائب التي لابدّ أن يصرعها الإنسان وما التي يجب أن يختارها وكيف يكون مسار هذا الصراع، فلابدّ أن نتحدث حول هذه المواضيع في المستقبل.

    فلسفة خلق الإنسان/ هوية الإنسان الرئيسة/ حقيقة الدين

    السؤال الذي لابدّ أن نجيب عنه بادئ ذي بدء ونهضمه جيدا هو أن لماذا جئنا إلى هذه الدنيا أساسا؟ لقد جئنا إلى الدنيا لنرغب ونشتهي بعض الأشياء ثم لا نمدّ أيدينا إليها. جئنا لنحبّ بعض الأشياء ثم نعاني من حرمانها. جئنا إلى الدنيا لنجاهد شهواتنا. ثم ما قيمة العلم في هذه الظروف؟ العلم خادم لهذا الحدث وهذه الملحمة. العلم خادم لهذا الجهاد. هذه هي قيمة العلم. فلا قيمة للعلم بالأصالة بل هو خادم لهذا الجهاد ويسهّل عملية الجهاد على الإنسان. إنه يهدي الإنسان ويخدمه في هذا المسار. فإن استخدمته في هذا السبيل يكون علما نافعا قيّما، وإلّا فيصبح مدعاة لهبوط مستواك وقلة قيمتك.
    وكذلك الحال في العمل، فالعمل القيّم هو ما كان ناتجا من هذا الجهاد. أما إذا كان من قبيل عمل النحل في عمليّة إنتاج العسل فلا فائدة له. إذ يطير النحل ويجلس على الأزهار ويمتصّ شهدها ثم ينتج العسل بمقتضى غريزته وطبيعته. فهل يستحق الأجر والثواب والجنان بهذا الإنتاج؟! كلا، إذ لا قيمة لهذا العمل ولأن الله لم يعلّمها عملا آخر، ولم تتردّد النحلة بين خيارين قطّ حين طيرانها في البساتين والحدائق، ولم تهشّ نفسها إلى الميتة مثلا لتبقى مترددة بين امتصاص دم الميتة أو شهد الزهور! فبسبب هذا الفارق الأساسي، صار الزنبور زنبورا وصرتَ أنت آدميّا. فمنذ أن عزم الله على أن يجعلك إنسانا، شاء لك أن تجاهد أهواءك فقد اُخِذ عنوان «مخالفة الأهواء» كعنصر محوري في تعريف هويّتك الإنسانيّة.
    لعلّك تسأل: أيّ الرغائب أحاربها؟ ولكن قبل أن تطرح هذا السؤال حاول أن تثبّت هذه الحقيقة في ضميرك، وهي أن قد خلقت من أجل مخالفة أهوائك. فحاول أن ترسّخ هذه الرؤية وتثبتها جيّدا، ثم يأتي الله ويعطيك البرنامج، إذ إن الدين هو برنامج جهاد النفس. فإن لم تكتبوا العبارة مئة مرة هذه الليلة، فعلى الأقل اكتبوها بخط كبير مرة واحدة وانصبوها أمامكم.
    إن الدين عبارة عن برنامج لجهاد النفس ومخالفة بعض الأهواء. هذا هو برنامج الدين، ولكن قبل أن يكون جهادُ النفس برنامج الدين، كان جزءً من هوية الإنسان وكان يمثل فلسفة خلق الإنسان. وقد سبق أن قرأت لكم كلام أمير المؤمنين(ع) حيث قال: «فِی‏ خِلَافِ‏ النَّفْسِ‏ رُشْدُهَا»(تحف العقول/ص91). فإنّ هويّة الإنسان وصلاحه، في هذا الجهاد بغض النظر عن أحكام الله ويوم القيامة، بل قد صُبّت تركيبة الإنسان على هذا الأساس. فمن لم يجاهد نفسه يخرج عن تعادله ويترنّح يمينا وشمالا.

    يتبع إن شاء الله...


  4. #24
    صديق فعال

    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 4-4

    لم يفهم الكثير معنى الدين ومعنى الحياة

    أتذكر في أيام الصبى حيث كنا نذهب إلى المدرسة في طهران، كان المعلمون يمارسون الضرب ويؤدبون الطلاب بهذا الأسلوب. ذات يوم أحضر الأستاذ الطالب وقال له: ارفع يدك وبدأ يضربه. فكان الطالب يصرخ ويقول: «أوجعتني العودة، لا تضرب يا أستاذ»! فردّ عليه المعلّم متعجبا وقال: أنا أضربك لتتألم وتشعر بالوجع. يبدو أنك لا تعرف معنى هذا الضرب ولا تعرف سببه، إذ إن الغاية من الضرب هو الألم! فكلما كان الطالب يتأوّه ويصرخ ويقول: أوجعتني وألمتني...، كان يقول المعلم: إنني جئت أضربك من أجل هذا الوجع والألم. فإن كنت غير راض، حاول أن لا أضربك أبدا، لا أن تعترض على وجع الضرب. فكانت نظرة هذا الطالب تجاه ضرب المعلم وتأديبه نظرة خاطئة.
    وكذلك الحال في من يستدلّ على عمل ما لكونه يُعجبه، ففي الواقع إن رؤيته للحياة غير صحيحة. فقد زعم أن الحياة هي مثابرة للحصول على الأهواء والمشتهيات. في حين أن الحياة على عكس ما يزعم تماما.
    فقد جئنا في هذه الدنيا لنخالف أهواءنا ومشتهياتنا المتنوعة والمتضادة والمتعارضة ولابدّ لنا من أن نضحّي ببعضها في سبيل بعض أخر وتعسا لي إذ دائما أضحّي برغباتي الفطرية والإلهية في سبيل الشكلاتة والحلويات وأمثال هذه التوافه وطوبى لكم إذ تضحون بمشتهياتكم الدنيوية في سبيل رغائب أسمى وأعلى.
    لعلك تسألني ألا يمكن أن يكون الدين بالنحو الذي يوفّر لنا ما نرغب وما نشتهي ولا يعارضها؟ لعلك لم تعِ القضية جيدا، ولم تفهم السبب من خلقك إنسانا. فإن أدرك الناس هذه الحقيقة، بعد ذلك لا يمكن لأحد أن يغضب في الشارع أو البيت. فهذا الذي يغضب وينفعل بمجرد أن يزعجه أحد، لم يفهم معنى الحياة. فهو يتصور أن المفترض والقاعدة هي أن لا ينزعج ولا يتألم في حياته. فلا يعلم المسكين أن فلسفة الحياة هي أن يتألم ويلاقي مختلف الإزعاجات.
    أكتبوا هذه الآية المباركة؛ (لَقَد خَلَقنَا الإنسانَ فِی کَبَد)[البلد:4] فقد خلق الله الإنسان في كبد، لا أنه مجرد قد اقترح عليه أن يكابد. فما معنى الكبد؟ يعني الشدّة والأحداث التي لا تلائم هواي. هذه هي فلسفة الحياة، وليست أحداث جاءت بها الصدفة. فقد خلقتَ لهذا العناء وتجرّع هذه الآلام.

    لابدّ من تربية الأولاد على هذا الأساس

    متى يبدأ الوالدان بتعليم الكَبَد والعناء لأولادهم؟ لا أن يفرضوا عليهم العناء ويصعّبوا عليهم الحياة حتى يتعقدوا ويفرّوا من العناء. إن تربية الولد بمعنى أن ترحّب صدره لاستقبال الكبد والعناء. فلابدّ أن يصبح الولد أهلا لتحمل الآلام والمشاكل. لابدّ أن تتحدث أمّه معه بكل سهولة عن المشاكل والآلام والمحن التي سوف تنهال عليه في حياته. فكلما شعر الولد أنه تخلص من مشاكل الدنيا وآلامها لابدّ أن تنبهه على اشتباهه وتقول له: لا تنخدع عزيزي فسوف تأتيك سهامها وآلامها ومحنها، فلا تخف إذ هذه هي قاعدة الحياة. يروي يونس بن يعقوب يقول سمعت الإمام الصادق(ع) يقول: « مَلْعُونٌ كُلُّ بَدَنٍ لَا يُصَابُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ‏ يَوْماً قُلْتُ مَلْعُونٌ قَالَ مَلْعُونٌ قُلْتُ مَلْعُونٌ قَالَ مَلْعُونٌ فَلَمَّا رَآنِي قَدْ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ قَالَ يَا يُونُسُ إِنَّ مِنَ الْبَلِيَّةِ الْخَدْشَةَ وَ اللَّطْمَةَ وَ الْعَثْرَةَ وَ النَّكْبَةَ وَ الْهَفْوَةَ وَ انْقِطَاعَ الشِّسْعِ وَ اخْتِلَاجَ الْعَيْنِ وَ أَشْبَاهَ ذَلِكَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ‏ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ يَوْماً لَا يُمَحِّصُهُ فِيهَا مِنْ ذُنُوبِهِ وَ لَوْ بِغَمٍّ يُصِيبُهُ لَا يَدْرِي مَا وَجْهُهُ وَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَضَعُ الدَّرَاهِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَزِنُهَا فَيَجِدُهَا نَاقِصَةً فَيَغْتَمُّ بِذَلِكَ ثُمَّ يُعِيدُ وَزْنَهَا فَيَجِدُهَا سَوَاءً فَيَكُونُ ذَلِكَ حَطّاً لِبَعْضِ ذُنُوبِهِ».[التمحيص/ص31]
    فإن صببت كلّ نشاطك في الحياة الدنيا من أجل إزالة الآلام والمتاعب عن حياتك فإنك مشتبه تماما وتهدف إلى غاية لا تنالها أبدا. وإن دلّت مساعيك العقيمة على شيء فإنها تدل على أنك لم تفهم معنى الحياة.

    ما الذي نستطيع أن نغيره في خضمّ الآلام والمحن؟

    الشيء الوحيد الذي تقدر عليه في خضمّ هذه الحياة المليئة بالمحن هو أن تختار نوعية محنتك وترفع مدى انتفاعك بمحنتك. بمستطاعك أن تحسن الاستفادة من ألمك كما بإمكانك أن تستقبل وتتلقى وتحتضن المحن التي اخترتها. فاستقبل المحن إذ قال أمير المؤمنين(ع) في دعاء كميل: «لا یمکن الفرار من حکومتک». ما معنى عدم إمكان الفرار من حكومة الله؟ أحد أوجه حكومة الله هي هذه السنن التي تتحكم في حياة الإنسان ومن أصول هذه السنن هو المحنة وكوني عاجزا عن محو المحن والآلام في الحياة.
    فإني باق في المحن وسأعيش في خضم الآلام، ولكن إلهي! أعنّي على تحمّل أفضل الآلام وأرقاها، لا أن أعاني وأتألم بسبب الحسد. لماذا نعاني من الحسد؟ فلنختر المعاناة والآلام الراقية والسامية إن كان لابدّ لنا منها.
    أحد خيارات الألم والعناء التي أمامكم هو ألم الحسد، فإن ألم الحسد وحزنه شديد جدا وحتى قد يصيب الإنسان بأمراض غريبة. والخيار الآخر هو ألم الحسرة، وذلك أن تتحسر على ما فقدته وضاع منك، فهو حزن يحكي عن خلل عقائدي، إذ قال الله سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا في‏ أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ في‏ كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسير * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُور)[الحديد:22ـ 23]. هذه نماذج من الآلام والأحزان التعيسة والسلبية.
    وهناك آلام جيدة، مثل ما لو تفضلت على أحد ورأفت به، ثم ينكر فضلَك ولا يقدّرك. أو أن تقوم بعمل أو إنجاز ما فيأتي آخرون ويُشْهرونه باسمهم. كيف تريد أن تحترق ويتألم قلبك، بالحسد أو بسرقة جهدك ونشاطك؟! أما أن تقول لي: لا أريد أن يحترق قلبي مهما كان السبب، فهذا ما لا يمكن. فلا تفرّ واختر أحدهما فلا يمكن أن يصلح الإنسان إلا أن يغصبوا حقّه. إذ إن راقب الإنسان جميع الناس وجميع الشؤون حتى لا يظلمه أحد ولا يغصبه أحد ولا يأكل حقّه أحد، فهو أشبه شيء بالذئب من الإنسان. فقد روي عن الإمام الصادق(ع): «لَيْسَ مِنَ الْإِنْصَافِ مُطَالَبَةُ الْإِخْوَانِ‏ بِالْإِنْصَافِ‏»[أمالي الطوسي: 280]
    هل تظن أن الله يسمح لك بالفرار من هذا القانون وأن تعيش حياة هادئة بلا أن يظلمك أحد. فما إن تسلك سبيل الصلاح وتحاول أن تحسّن نفسيتك وروحيّتك، وإذا يبتليك الله بأشخاص لا يقدّرون فضلك وإحسانك فتندم من كلّ فضل وإحسان!
    لا يمكن الفرار من الحزن والعناء فاختر ما شئت من أنواعها. أيهما أفضل التحسر على ما فاتك من الدنيا، أو حزن الخجل والندم بين يدي الله؟ فإذا كنت ممن يتحسر على الدنيا، لن تتمكن من البكاء والتحسر على فرص التقرب إلى الله، ولن تقدر على بكاء التوبة أبدا، إذ قد انشغل لبّك بالأحزان الأولية الدنيوية.

    يتبع إن شاء الله...

  5. #25
    صديق فعال

    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 4-5


    كيف كانت مراقبة أولياء الله

    لقد آمن أولياء الله بقوله تعالى (لَقَد خَلَقنَا الإنسانَ فِي کَبَد) فأخذوا يراقبون قلوبهم، لكي لا يعتريها حزن سيّئ للحظة واحدة، وفي المقابل لا تخلو قلوبهم من حزن جيد. لقد جعلوا حياتهم على أساس أن لا تخلو من الأحزان الجيّدة. وأنا أعرف بعض أولياء الله الذين كانوا يؤذَون وحتى يضربون من قبل زوجاتهم. هذا هو قانون الحياة، إذ قد أعدّ الله المرارة والعناء والحزن والبلاء للجميع.
    إن استطعت أن تجعل أحزانك أحزانا راقية جيّدة، تزدهر وتنمو. سلام الله على الحسين(ع) إذ كل ما اشتدّت عليه المصائب والأحزان يوم عاشوراء ازداد وجهه إشراقا. كما قال الإمام زين العابدين(ع): «وَ كَانَ الْحُسَيْنُ(ع) وَ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ خَصَائِصِهِ تُشْرِقُ‏ أَلْوَانُهُمْ‏ وَ تَهْدَأُ جَوَارِحُهُمْ وَ تَسْكُنُ نُفُوسُهُم»[معاني الأخبار/288]
    لمّا عفا الله النبي إبراهيم(ع) عن ذبح ابنه إسماعيل، حزن إبراهيم وتمنّى أن لم يؤمر بذبح الكبش. إنه كان يحبّ إسماعيل(ع) ولكنّه حزن بعد هذا الإعفاء، إذ فاتت منه فرصة التضحية وتقديم القربان. ما معنى القربان وتقديم الأضحية أيها الإخوة؟ هو أن تذبح شيئا تحبّه في سبيل الله وبأمر الله. فحزن إبراهيم لأنه لم يوفّق لتقديم الأضحية في سبيل الله، إذ لم يقدّم ابنه إسماعيل. وكان إبراهيم صادقا في حزنه واكتئابه.
    أسألكم سؤالا؛ هل أن الله قد خفّف الحزن والبلاء على إبراهيم بإعفائه عن ذبح إسماعيل؟ هل تتصورون ذلك؟! كلا، إذ لم يخفّف الله على إبراهيم أبدا. إنه قد عفاه عن ذبح ابنه إسماعيل ولكن كشف له عن حدث مفجع آخر لا تساويه فجيعة ذبح مئة إسماعيل. لقد قال الله سبحانه له: «يَا إِبْرَاهِيمُ‏ مَنْ أَحَبُّ خَلْقِي إِلَيْكَ فَقَالَ يَا رَبِّ مَا خَلَقْتَ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَبِيبِكَ مُحَمَّدٍ ص فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ نَفْسُكَ قَالَ بَلْ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ فَوُلْدُهُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ وُلْدُكَ قَالَ بَلْ وُلْدُهُ قَالَ فَذَبْحُ وُلْدِهِ ظُلْماً عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِ أَوْجَعُ لِقَلْبِكَ أَوْ ذَبْحُ‏ وُلْدِكَ بِيَدِكَ فِي طَاعَتِي قَالَ يَا رَبِّ بَلْ ذَبْحُ وُلْدِهِ ظُلْماً عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِ أَوْجَعُ لِقَلْبِي» وکان إبراهيم صادقا في هذه الأجوبة. ثم نقل الله قلب إبراهيم إلى كربلاء وإلى جانب حفرة مقتل الحسين(ع)، فكأن كل هذه القصّة كانت مقدمة لمجلس عزاء الحسين(ع). ثم قال له: «يَا إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ طَائِفَةً تَزْعُمُ أَنَّهَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ سَتَقْتُلُ الْحُسَيْنَ‏ ابْنَهُ مِنْ بَعْدِهِ ظُلْماً وَ عُدْوَاناً كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ وَ يَسْتَوْجِبُونَ بِذَلِكَ سَخَطِي»[الخصال، ج1، ص58]. فهل قد خفف الله على إبراهيم؟ كلا بل أوجع قلبه بألم وحزن أشدّ. فلو كان قد ذبح إسماعيل لما انفجع قلبه بهذه الشدّة، إذ لم يأخذ إسماعيل موقع الحسين(ع) من قلب إبراهيم(ع).

    توبوا إلى الله من أحزانكم الرخيصة

    لابدّ أن نبحث عن الآلام والأحزان الراقية والبناءة. ولنتب إلى الله سبحانه في هذه الليلة من الآلام السيئة التي تحمّلناها وبذّرنا بها طاقاتنا وأتلفنا بها قوانا فقضينا بها على إنسانيتنا وسوّدنا بها قلوبنا ولم نحصّل بذلك غير الألم والعناء. فلنتب من هذه الآلام التعيسة، ونتقرب بهذه التوبة إلى درجة الاستغفار.
    كيف كان أولياء الله، وكيف عاشوا وما كانت آلامهم وأحزانهم؟ فكل أحزانهم كانت في خدمة الله وفي سبيل الله وبسبب ما كانوا يشعرون به من البعد عن الله والبطؤ الذي كانوا يشعرون به في مسيرتهم نحو الله. فهذا كان حزنهم وألمهم وكانوا يزدادون حزنا وألما يوما بعد يوم.
    كان يتجلّى لهم الله سبحانه بشيء من جماله وآلائه، فكانوا يحزنون من بعدهم عن الله وطول المسافة بينهم وبين الله، مع قربهم واتصالهم بالله. وكلما يتجلى لهم الله سبحانه يأخذهم الخجل والحياء والحزن والحسرة، إذ يرون أنفسهم عاجزين عن أداء شيء من حق الله عليهم. ولهذا يبكون ويضجون ويسكبون الدموع ويطيلون الوقوف بين يدي الله.
    لماذا لا نقدر على تجرّع هذه الآلام والأحزان؟ لأننا غرقنا في مستنقع الحياة الدنيوية وانشغلنا بآلامها وأحزانها وعنائها عن تلك الأحزان الراقية. ينقل السيد أحمد ابن الإمام الخميني(رض) أن الإمام كان يمسح دموعه في آخر سنة من عمره بالنمنشفة وما كان يكفيه المنديل! وهذا حزن لا علاج له، إذ مهما أجابه الله ولطف به وتجلى في قلبه، يبقى يشعر بمدى بعده عن الله وتبقى دموعه تنهمر من شدة هذا الحزن الجميل والرائع.
    أما نحن التعساء فلا نشعر بهذا الحزن. إذ أردنا أن نفرّ من الأحزان والغموم ولم نخضع لقاعدة الحياة وفلسفتها. فما زلنا نعترض على خلقنا وفلسفة خلقنا، ونفرّ من الآلام والمتاعب كالأطفال.

    صلى الله عليك يا أبا عبد الله

    يا أبا عبد الله! إن ما شاهده إبراهيم الخليل من مسافة آلاف السنين وفجع به طيلة حياته، قد شاهدته العقيلة زينب من مسافة أمتار. ساعد الله قلب زينب، فيا لها من امرأة عظيمة. الهي في هذا الشهر المبارك وفي هذه الجلسات عرفنا على عظمة مقام العقيلة زينب.
    لا أدري، فلعلّ قد خطر لإبراهيم هذا السؤال أن من الذي رأى الحسين(ع) في آخر لحظات حياته، ومن الذي ودّعه آخر مرة. ألا يا إبراهيم! العقيلة زينب هي آخر من ودعت الحسين(ع)، هي التي حيرت عقول الرجال بصبرها وطاقتها على تحمل هذا المصاب العظيم. وأنا لا أدري أين كانت زينب حينما رفع رأس الحسين(ع) على الرماح؟

    ألا لعنة الله على القوم الظالمين.

  6. #26
    صديق نشيط
    تاريخ التسجيل: April-2014
    الدولة: العراق .البصرة
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 329 المواضيع: 13
    التقييم: 67
    المهنة: طالبة
    أكلتي المفضلة: شاورما
    آخر نشاط: 6/October/2015
    مقالات المدونة: 6
    وربي يسلمو شكرا وبارك الله فيك

  7. #27
    صديق فعال
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة @اينوشه@ مشاهدة المشاركة
    وربي يسلمو شكرا وبارك الله فيك
    أسعدني مرورك العطر أختي الكريمة

  8. #28
    صديق فعال

    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 5-1

    إليك ملخص الجلسة الخامسة من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.

    مرور على ما سبق

    لقد بدأنا الأبحاث ـ أيها الإخوة الأعزّاء ـ بطرح موضوع بدلا من طرح مسألة. فقد كان موضوعنا بالتحديد هو الجهاد الأكبر، أو جهاد النفس أو مخالفة الهوى على أساس مختلف التعابير التي جاءت في الروايات وآيات القرآن. ثم طرحنا في أجواء هذا الموضوع سؤالا مهمّا ثم تحوّل السؤال بالتدريج إلى مسألة وقضية.
    سألنا لماذا اعتبر النبي الجهاد جهادا أصغر مع كونه من أفضل الأعمال الصالحة وقد ينتهي إلى الذروة والقمة المتمثلة بالشهادة، وبالرغم من اشتماله على الصعاب والمتاعب، ثم دعا إلى جهاد من نمط آخر وسمّاه الجهاد الأكبر.
    هل أن مخالفة النفس ومحاربة الأهواء النفسية جهاد واقعا؟ وهل أنها أكبر من ذلك الجهاد؟ وهل أن ظاهرة الحرب وأيام الدفاع المقدس التي عشناها في بداية الثورة، هي ظاهرة أصغر من الجهاد الأكبر؟ فقد انطلقنا بالبحث من هذا الموضوع.
    ثم أردفنا إلى هذا الموضوع بعض المعلومات وأجّلنا إثباتها إلى إشعار آخر. فكانت هذه المعلومات هي أن هناك عبادة سيئة وأساسية في مقابل عبادة الله، وهي عبادة الهوى. وهي النقطة المقابلة لجهاد النفس. فقرأت عليكم بعض الروايات في هذا المجال من قبيل ما روي عن رسول الله(ص) حيث قال: «ما تَحَت ظِلِّ السَّماءِ مِن إلهٍ يُعبَدُ مِن دُونِ الله ِ أعظَمَ عِندَ الله ِ مِن هَوىً مُتَّبَعٍ» [ميزان الحكمة، ج13، ص61]
    ثم ذكرنا أن الروايات قد اعتبرت مخالفة الهوى نظامَ الدين، فقد روي عن أمير المؤمنين(ع): «نِظَامُ‏ الدِّينِ‏ مُخَالَفَةُ الْهَوَى‏ وَ التَّنَزُّهُ عَنِ الدُّنْيَا»[تصنيف غرر الحكم، ص241]. ما معنى نظام الدين؟ يعني خيط السبحة. فعلمنا أن الجهاد الأكبر ليس أكبر من الحرب والجهاد المسلح وحسب، بل إنه نظام الدين والنقطة المقابلة له هو اتباع الهوى. ثم ذكرنا أن العمل الرئيس والأساسي الذي يجب أن نقوم به طيلة حياتنا من أوّلها إلى آخرها ليس سوى جهاد النفس.

    لا يكفي العلم بأهمية جهاد النفس

    ولكن لا تنحل المشكلة بمجرّد أن قلنا أنّ أهمّ جهادٍ هو جهاد النفس، إذ من أجل أن ندرك هذا الكلام ونقتنع به، لابدّ أن نعي بعمقٍ أنّ جهاد النفس محور عبادتنا وحياتنا.
    أنا أعتقد أن تسعة وتسعين في المئة من الناس الذين سمعوا بالجهاد الأكبر ومخالفة النفس لم يفهموا معناه جيدا. كما أني أسوأ حالا من جميعهم ولا سيما على مستوى العمل. ولكني أرى أن هذا الموضوع لم يأخذ موقعه المحوري في أذهان الناس ورؤاهم، فليست هناك رؤية صحيحة تجاه هذا الموضوع. وقد قلت في مقدمة المحاضرة السابقة إننا نهدف عبر هذه السلسلة إلى تغيير الرؤى تجاه هذا الموضوع. فمن أجل إدراك هذه الحقيقة بعمق، ووجدان محورية جهاد النفس في الحياة والدين، ومن أجل أن يصبح هذا الجهاد همّنا الرئيس في الحياة، لابدّ من كلام ونقاش وبحث مفصل، إذ لا تنحل المشكلة بكلمتين.
    ثم بعد ما اتضحت لنا هذه الحقيقة واستوعبناها بكل وجودنا، حينئذ ننتقل إلى كيفية هذا الجهاد، وما هي الرغبات التي لابد من محاربتها وكم يجب أن نخالف أهواءنا. فهذه أبحاث تأتي في المرحلة الثانية. أما الآن فلابدّ أن نسعى لاتضاح أصل هذه الحقيقة. فإن اتضحت سوف تسخّر ذهننا وإدراكنا بشكل كامل. وسوف تكون حاضرة في ذهننا دائما، وتبشّر بمراقبة مستمرة مؤثرة وموفقة. إنكم لستم أشخاصا سيئين، فلماذا تفرّطون بطاقاتكم؟ ولماذا تسمحون لقواكم أن تضعف وتتضاءل فتعجزون عن المراقبة؟ لأنكم تزعمون أن يجب عليكم أن تراقبوا أنفسكم في مئة قضية. ولكن القضية ليست كذلك. فلابدّ لكم من مراقبة قضية واحدة. أما دمج مئة موضوع في موضوع واحد بحاجة إلى فهم عمیق جدا.
    لابدّ أن تدرك هذه الحقيقة بكل وجودك يا أخي العزيز! وهي أنّك لا تحتاج إلى مواجهة الحرص والحسرة الباطلة، ولا تحتاج إلى الاحتكاك بموضوع الصدق والصبر وكثير من المواضيع الأخرى. كما لست بحاجة إلى الاحتكاك بالتكبّر والتواضع. فأنت بغنى عن الاحتكاك بكثير من المواضيع، إذ قضيتك قضية واحدة فصبّ همّتك كلّها في معالجة هذه القضيّة. وسوف نخوض في هذا الموضوع إن شاء الله.

    لا مفرّ للمؤمن وغير المؤمن من جهاد النفس


    لماذا جهاد النفس؟ لا أريد أن أكرّر ما ذكرته في الليالي السابقة، بل أحاول أن أجيب عن هذا السؤال بإشارة وبطريقة أخرى؟ أولا، لا يخفى عليكم أيها الإخوة أن جهاد النفس عمل عسير. ومن جانب آخر لستم وحيدين في مخالفة هواكم، بل قد اجتمع الله ووجودكم والكون بأجمعه على مخالفة هواكم، سواء أكنتم مؤمنين أم كافرين. هذا معنى كونكم غير وحيدين.
    يقول الله سبحانه وتعالى: (لَقَد خَلَقْنا الإنسانَ في كَبَد) لا «لقد خلقنا المؤمن في كبد». فلا سبيل لأحد إلى حذف الكبد والعناء من حياته. وقد سبق أن ذكرنا معنى الكبد والعناء وهو تلك الأحداث التي تقع بما لا تشتهي أنفسنا.
    بالرغم من سلوك بعض المساكين الجهلة الذين يفسقون بهدف تخفيف الألم والعناء عن حياتهم وأولئك الذين يفرّون من الدين طلبا للمزيد من الراحة وفرارا من العناء، لا يستطيع أحد أن يخفف من عنائه بترك واجب أو ارتكاب محرّم. ولا يشدّد الالتزام بالدين من عناء الإنسان.

    يتبع إن شاء الله...

  9. #29
    صديق مشارك
    تاريخ التسجيل: February-2014
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 95 المواضيع: 1
    التقييم: 5
    مزاجي: معى مسيرة الحيات
    أكلتي المفضلة: بورك
    موبايلي: كالكسي دوز
    آخر نشاط: 7/September/2014
    الاتصال: إرسال رسالة عبر AIM إلى جزرالاحزان
    مقالات المدونة: 1
    شكرا
    اخر مواضيعيترحبون لو اطلع

  10. #30
    صديق فعال

    الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني 5-2

    إن مخالفتك الهوى ليس من وظائفك فقط، بل هي من شؤون دنياك وشؤون ربّك أيضا. فلن يسمح الله سبحانه لك بحياة بلا عناء ومنغّصات. هذا هو الواقع شئت أم أبيت. لماذا؟ سنتحدث عن العلة لاحقا كما تحدثنا قليلا عن سبب هذا الشيء سابقا. أما الآن فلنشاهد الواقع ونرى هذه الحقيقة في العالم وهي أن لا مفرّ من العناء والكبد لإي إنسان مهما كان دينه وعمله.
    هل تتصورون أن تحمّل العناء مختصّ بمن يريد أن يسلك الطريق إلى الله؟ كلا! فقد قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى من القرآن الكريم: (يا أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى رَبِّكَ كدْحاً فَمُلاقيهِ)[الانشقاق:6]. أنا قد طرحت هذا الموضوع في مكان آخر بلا أن تكون لي الفرصة الكافية للخوض فيه بالتفصيل. فجاءني بعض المستمعين الكرام وقال لي: إن كلامك مرّ جدا! فأرجو من الإخوة أن يمعنوا النظر في مضامين الأبحاث ليروا هل الكلام مرّ واقعا؟! أليس هذه الخطاب الصريح مستوحى من أسلوب القرآن إذ يقول: (يا أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى رَبِّكَ كدْحاً فَمُلاقيهِ)؟ فماذا يريد أن يفهّمنا القرآن؟ ولماذا يتحدث بهذا القدر من التأكيد؟ إنه يخاطب الإنسان مهما كان دينه ومذهبه ومهما كان التزامه وتديّنه. يقول له إنك في طريق ومسار ينتهي إلى لقاء الله، فهذا هو مصيرك المحتوم الذي لابدّ منه. ثم لا يخلو سيرك إلى الله مهما كان مضمونه ونوعيته، من السعي والكدّ والكدح الشديد.
    يقول: (كادِحٌ إلى رَبِّكَ كدْحاً) فهل أنا الذي أبالغ في التأكيد؟! لماذا يعطي الله سبحانه للناس هذه المعرفة بكل صراحة؟ لأن من شأن هذه المعرفة أن تسهّل على الناس مصاعب الدين. فإنها تحكي عن حقيقة راقية جدا وتقول لك عش كيف شئت، فهل تزعم أنك تستطيع أن تعيش بلا أن تجاهد نفسك؟ بل إنك سوف تجاهد نفسك بلا شكّ. وتلذّذْ في الدنيا وتهرّبْ مهما شئت من مخالفة الهوى، فهل تتصور أنك سوف تنجح في هذا الهروب؟ كلا! فإنك سوف تخالف هواك بلا ريب.
    وأنا أتصور أن ليس هناك بشارة تدفع الإنسان إلى مخالفة هواه أكثر من هذه الحقيقة الرائعة التي تعبّر عنها هذه الآية المباركة: (يا أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى رَبِّكَ كدْحاً فَمُلاقيهِ). هل تنزعج من السيطرة على نفسك وتريد أن تطلق عنانها؟ لا بأس، كن كيف شئت ولكنك سوف تضطر إلى السيطرة على نفسك بلا شك.
    في الأمس كنّا نقول لا مفرّ ولا مخلص من الألم والعناء، وليس لك إلا أن تختار أحد أنواع المعاناة والآلام. أما في هذه الليلة أقول شيئا آخر ـ أيها الأحبّة ـ وهو أنه هل تريد أن لا تجاهد نفسك مضافا إلى العناء الذي تفرضه عليك الحياة؟ فلا سبيل إلى ذلك إذ سوف تجاهد نفسك أكيدا. إذ في حركتك إلى الله تعالى سوف تسعى سعيا مصحوبا بالعناء والألم وهذا هو الكدح، أي سوف تجاهد نفسك، وإن كان بلا ثمر وطائل ونتيجة.
    إن رؤية الله سبحانه وتعالى في القرآن رؤية دقيقة وخاصة جدا تختلف عن رؤانا بكثير. فقد قال سبحانه: (أُولئِكَ الَّذينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُم‏)[الكهف/105] فلعلك تقول: أفهل كانوا يعملون شيئا حتى تحبط أعمالهم؟ نعم! إذ كل الناس يعملون ولكن الله يقبل أعمال الصالحين فقط وإلّا فالكفار والفاسقون يعملون ويكدّون ويكابدون ويجاهدون أنفسهم ويتحملون العناء والتعب والسَهَر وكلّ شيء.
    أنظروا إلى من حولكم بتمعّن. من الذي لا يجاهد هوى نفسه؟ أي إنسان وفي أي بلد وفي أي ثقافة؟! إن جميع الناس يجاهدون أهواءهم ويكفون عن الكثير من مشتهياتهم وكلّهم مؤدّبون بمجموعة من الآداب والأصول وكلهم يتحملون العناء والألم في حياتهم، ولكن ما أكثر الناس الذين يجاهدون أنفسهم ويتحملون المشقّات والصعاب والآلام والمحن والأحزان من أجل غايات تافهة لا قيمة لها فلا ينضجون ولا يرشدون ولا يترقّون، أما أنت فاجعل جهادك الذي لا مناص منه جهادا صحيحا قيّما.
    كلّما فررت من جهاد النفس وركنت إلى أهوائك سجّل الموقف، لترى أنك سوف تضطر إلى مجاهدة نفسك في نفس الموضوع ولكن بلا نتيجة وبغير صواب. إنها قاعدة لا يسمح الله لأحد بالفرار منها.

    إن فهم هذه القاعدة يقضي على حالة العجب

    لا أريد أن أخوّفك بذكر هذه الحقائق أبدا. ولكن أريد أن تخرج بهذه النتيجة من خلال هذا الكلام، وهو أن تناجي ربك وتقول له: إلهي أنا لم أفعل أيّ شيء بمجيئي إليك ومناجاتك في جوف الليل وتحمل العناء في سبيلك. أنا لم أفعل أي شيء ولم أضحّ بشيء. ماذا فعلتَ في جنب الله؟ هل عانيت وسهرت مثلا؟ كان لابدّ لك من المعاناة والسهر، فلو كنت لم تعان ولم تسهر مع الله، لعانيت وسهرت في محل آخر بلا نفع ولا رشد، بيد أنك عانيت وسهرت هنا فأجرت ورشدت. إذن العناء مشترك والسهر مشترك فلا تمنّ على الله ولا تحسب أنك شيء ولا تتوهم أنك قد ضحيت بشيء.
    هل تعلمون يتحسّرون أهل النار؟ إنهم يتحسرون لأنهم قد عانوا وقاسوا بقدر المؤمنين، ولم تكن حياتهم الفاسقة في الدنيا حياة بلا عناء وألم وحزن. فيشعرون أنهم عاشوا في الحياة الدنيا بتعب وألم وعناء ثم صار مأواهم النار، أما أنت فعشت في الحياة الدنيا بنفس المقدار من العناء والكدح إن لم يكن أقل منهم، ولكن ذهبت إلى الجنان! ولعلّ هذه الحقيقة هي التي جعلت الأنبياء يبكون ويصرخون حسرة على أممهم، إذ يرون مدى الخسران العظيم الذي يلحق بالإنسان إن لم يلتزم بدين ربّه.

    يتبع إن شاء الله...


صفحة 3 من 14 الأولىالأولى 12 34513 ... الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال