02/10/2013 12:00 صباحا
جميل الشبيبي
تعرض رواية “يا مريم” للروائي العراقي سنان أنطون الصادرة مؤخرا عن “دار الجمل” في بغداد، محنة الأقليات الدينية في عراق ما بعد التغيير، وتعرضهم إلى التصفيات الجسدية والإرهاب، وتسرد الرواية أيضا، تفاصيل الاعتداء الذي وقع على كنيسة النجاة في بغداد ، وما سببه من دمار مادي وبشري كان دافعا لمجموعة كبيرة من المسيحيين العراقيين إلى مغادرة العراق والنجاة بجلودهم.
استثمر الروائي سنان أنطون ما بثته الفضائيات عن الهجوم على الكنيسة من شهادات الناجين من الحادث، وأوردها بلهجة إحدى الطوائف المسيحية الدارجة وبلسان إحدى شخصيات الرواية (مها جورج): «وكانوا يضربون عشوائي وبكل الاتجاهات وما خلَو شي، ولما شافو الصليب عبالك انجنو، قاموا يصيحون علينا (انتو كفرة، انتو تعبدون الصليب) ضربو على الصور اللي فوق المذبح واللي عالجوانب والثريات المعلقة ووقَعوا قسم منها (…) كنت أسمع صوت الطلقات لمن يرمي، فكنت أتوقع بأي لحظة أنه يقتلني…» .
وتطرح الرواية سؤالا هو احدى الإشكاليات في عراق ما بعد التغيير في العلاقة الملتبسة بين السلطة والإرهاب الذي يجد له دائما موقعا ملائما يستطيع به تدمير ما يريد تدميره، ويأتي ذلك متزامنا دائما بالخلافات بين الفصائل السياسية في العراق.
لقد ولّدت الأحداث الدامية جرحا عميقا في أعماق (مها جورج) بعداء الآخر (المسلم) لها ولطائفتها ما أوجد نقمة ضدّ هذا «الآخر» في دواخلها وانتقل هذا العداء إلى العلاقة بينها وبين «يوسف»، المؤمن بأن أبناء العراق كلهم ضحايا مصالح الدول والسياسات.
الكولاج
تسرد أحداث الرواية الأساسية في يوم واحد، هو اليوم الذي تم فيه الهجوم على كنيسة النجاة وقد اعتمد الروائي تقنية اللصق (الكولاج) في إدارة الحكايات بالطريقة التي يأتلف فيها الماضي والحاضر من خلال شخصيتي يوسف ومها ومن خلال السرد بضمير الأنا، مُستخدماً بعض التقنيات السردية، كالاسترجاع الزمني والاستقدام والتكرار كتقنيات مكملة… فجاءت الأحداث على لسان اثنين من الساردين بضمير الأنا يستثمران السيرة الذاتية بالعلاقة مع الخارج المعادي، في حين يسرد التاريخ الشخصي ليوسف وعائلته عبر تقنية الصور، وهي تقنية معروفة في السرد العراقي القصير (قصة سيرة للقاص محمود عبد الوهاب مثلا، وفي الرواية العراقية أيضا (رواية مدينة الصور للروائي لؤي حمزة عباس الذي استثمر دفتر الصور بكفاءة عالية وغيرها من الروايات…) ومن خلال هذه التقنية يسرد الراوي العليم ذكريات يوسف القديمة من خلال «صور» شخصيات وأماكن وحقبات زمنية مختلفة تُضيء «عراق الأمس». ثمّ تأخذ مها مهمة السرد لتروي حقيقة الحياة التي تعيشها كغريبة ومُهددة في «عراق اليوم».
تسرد الصور العائلية التي يستعرضها يوسف، محطات متعاقبة من التاريخ العراقي. الصورة الأولى تعود إلى زمن "حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941"، حينما كان الراوي في الثامنة عشرة من عمره، يظهر فيها كوركيس، أبو يوسف، بملابسه التقليدية التي كان يرتديها في القرية رافضا تبديل لباسه التقليدي بثياب “أفندي”،أما الصور الأخرى فتختص بمصائر إخوته وأخواته :غازي الذي يصغره بعام واحد العابس دون سبب والذي ( لم يكن يزور العائلة إلا في الأعياد) وقد هاجر إلى أميركا ليلتحق باخوة زوجته سميرة.
إلياس الأخ الثالث الذي انتمى للحزب الشيوعي ثم أدخل السجن بوشاية (استلام رشوة) وبعد ثلاث سنوات سجن خرج بجسد قوي ولكن (عقله تعب في هذه الحياة ، خصوصا في سنوات الحصار ص52) وكانت نهايته الجنون ثم الموت أما ميخائيل المدلل الذي ( انصرف إلى ملذات الحياة وكأنه أخذ على عاتقه أن يدلل نفسه بنفسه ص58) بعد وفاة والده.ويلاحظ في سرد هذه الصور اعتمادها على حكايات مألوفة تتوفر في معظم الأسر العراقية، ولا يكتسب الاسم (المسيحي) تمييزا خاصا بهم، إذ يمكن استبداله باسم آخر (علي، محسن…) وتقنية سرد تفاصيل الصور الخاصة بعائلة يوسف، تشكل هنا حكايات ملصقة (كولاج) بحياة يوسف وهي تحاول إضفاء عمق وبعد تاريخي على وجوده في العراق، وكان الأجدى بالروائي أن يتوقف عند صورة الأب كوركيس الذي يمثل رمزيا (جذرا) غائرا في عمق الهوية وكذلك ذكريات يوسف عن أخته حنا ليشبع هذا الجانب.
تمزيق الهوية
من الإشكاليات الكبرى التي سببها عنف الواقع التسجيلي في روايات ما بعد التغيير، اختيار فضاء بديل يجنب شخوص هذه الروايات القتل والخوف، وانعدام الأمان، ومن الملاحظات المهمة التي تبدو واضحة في اختيار الفضاء البديل لشخصيات روايات ما بعد التغيير العراقية أن الروايات التي كتبت في الداخل، يطمح شخوصها الرئيسون إلى المغادرة إلى خارج حدود الفضاء التسجيلي الذي أصبح معاديا باتجاه الخارج الذي سيصبح فردوسا يتطلع إلى فضائه شخوص هذه الروايات، أما الروايات التي كتبت في المنفى، فان أبطالها الرئيسين، يتطلعون إلى العودة إلى فضائهم الأول الذي غادروه لأنهم يعانون الوحدة والتهميش والعزلة القاتلة.
في رواية (يا مريم) تطرح إشكالية الفضاء البديل، من خلال شخصية (مها) التي تعاني إشكاليات الهوية في عراق ما بعد التغيير ابتداء من الاسم عندما يعلق أحد الموظفين على اسمها: (اسم جورج أجنبي مو؟ فأجابته بحزم: لا مو أجنبي عراقي) (شلون مو أجنبي؟ مثل جورج بوش.) (لا مثل جورج وسوف، وجورج قرداحي) وانتهاء بمشكلتها مع الحجاب، حين تتعرض كل يوم إلى نظرات الاستنكار والاستهزاء حتى عند النساء اللائي (يشعرنني كأنني عاهرة لأنني لا أرتدي الحجاب) وهي تريد أن تعيش في مكان تكون فيه كالآخرين (أمشي وأخرج وأدخل ولا يشار إليّ أو يتم تذكيري بأني مختلفة…) ويظهر عناد وإصرار مها على الرحيل حين ترفض بشكل قاطع أفكار يوسف الذي حذرها من الهجرة إلى الخارج التي وردت على لسانها: (بأن الهجرة والسكن في بلاد أغلبها من المسيحيين لن يكون بلا مشاكل أو صعوبات ولا يعني بأنني لن أشعر بأنني أقلية هناك.
ومن خلال شخصية (مها جورج) وقناعاتها التي تؤكدها تفاصيل الحياة الواقعية في عراق ما بعد التغيير، تتضح وجهة نظر الروائي سنان أنطوان بتفضيل الهجرة على البقاء في مكان كان قد عاش فيه هؤلاء الناس منذ آلاف السنين ويجسد المشهد الأخير في الرواية ذلك بشكل واضح.
وتبقى تأكيداته على عمق هويته وقومه محض ترديدات لا أصداء لها ليبقى (البلد بس الهم) كما تقول (مها جورج) وبالضد مما رأى يوسف في مثل هذه الأحداث (عيني أكو بلدان وشعوب مرت بأوضاع أسوا وبعدين هم استقرت الأمور هاي حركة التاريخ..) وكان ذلك في حديث ساخن مع قريبته مها التي كانت تؤكد “هذا كله بالماضي عمو، إحنا مشكلتنا هسه، بالوقت الحاضر. الإسلام ميرودنا بكل بساطة علمود البلد يظل بس الهم”.
موت الماضي
وعندما يموت (يوسف) المدافع عن فكرة البلد الواحد للجميع في أحداث كنيسة النجاة، فإن موته يرمز إلى موت ذلك الماضي الجميل، الذي دافع عنه ضد أفكار الهجرة إلى الخارج حين كان يؤكد لأخته التي حثته يوما على الرحيل (شنو خوما هي حفلة ؟ أنا أريد أموت ببيتي)، وليفتح موته المأساوي بابا واسعا للهجرة إلى الخارج، كان يريده الجيل الجديد من الشباب المسيحيين ممثلا بشخصية مها جورج، إن رواية (يا مريم) إحدى الروايات التي كتبت في الخارج ولكنها بدأت من الماضي في الفضاء الوطني وانتهت فيه مسوغة الهجرة إلى الخارج من خلال الأسئلة التي أثارها الواقع التسجيلي الشرس في نفوس أبطال الرواية (مها وزوجها نموذجا) ومن خلال رؤية عاطفية آنية كان الروائي يراكم أحداثها وتضخيم وقعها في شخصية مها للتركيز على العسف الواقع على الأقليات المسيحية في العراق (وهو عسف وإرهاب أصاب جميع العراقيين وما يزال) التي كانت أقواما أصيلة في تاريخ العراق، ولم تأت إليه من خلال غزوات أو تهجير بل إنها كانت أقواما أصلية الانتماء.
وقد أفرز عمق هذا الانتماء إلى الوطن مرارة مضاعفة أساسها الإحساس العميق بالهوية والانتماء في مقابل التهميش والإلغاء الذي يصل إلى حد القتل في التنازع على ملكية المكان وطرد ساكنيه الأصليين منه.
وفي فضاء الرواية استثمر الروائي سنان أنطوان فضاء علاقة الصداقة استثمارا مؤثرا حين جسدها بين يوسف المسيحي وصديقه سعدون الذي يمثل نقاء الشخصية العراقية وعفويتها وصراحتها.
كما أن استثمار اللغة الدارجة للعوائل المسيحية في العراق يمثل إنجازا في هذه الرواية القصيرة المؤثرة،التي تشير في العديد من مشاهدها وفصولها إلى محنة العراقي وهو يعيش أحداثا خارج نطاق التحمل والعقل.
جريدة الصباح