في التقويم الإسلاميّ ـ أيّها الأصدقاء ـ يحمل اليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة الحرام عنوان: يوم دَحْو الأرض، لمشهد من مشاهد الخَلْق العظيمة، وواقعة جليلة في بديق الخلق الإلهيّ، وهي مذكورة في الكتاب العزيز في آيتين:
الاُولى: والأرضَ بعدَ ذلك دَحاها . (1)
الثانية: والأرضِ وما طَحاها . (2)
و الآن.. مع هذا العنوان القرآنيّ ( دَحْو الأرض ) من خلال أربع نوافذ:
النافذة الأولى: تُطلّ على حقل اللغة، نقرأ في هذا الحقل:
دَحَوتُ الشيءَ دحْواً: بَسَطتُه.
وقيل: دحاه بمعنى أزاله عن مقرّه، أو جرَفه، أو رمى به بقهر.
أمّا طحا فبمعنى: بسط فوسع، والطحا: المنبسط من الأرض، والطاحي الممتدّ، وقيل أيضاً: الطَّحْو كالدَّحْو، وهو بسط الشيء والذَّهاب به. (3)
النافذة الثانية: تُشرف على آفاق التفسير، يقول المفسّرون: «والأرض بعدَ ذلك دحاها أي بَسَطها ومَدَّها بعد ما بنى السماء ورفع سَمْكها وسوّاها، وأغطَشَ ليلَها وأخرَج ضُحاها. وقيل: المعنى يكون هكذا: والأرضَ ـ مع ذلك ـ دحاها، وذكرَ بعضهم أنّ الدحو بمعنى الدَّحرَجة.
أمّا الطَّحْو في قوله تعالى: والأرضِ وما طحاها فهو الدَّحو، وهو البَسط، و «ما» وصولة، فيكون المعنى والذي «طحاها». أي الذي طحا الأرض هو الله جلّت قدرته. وقد استخدمت الآيتان «ما» بدل «مَن» لإيثار الإبهام المفيد للتفخيم والتعجيب فيكون المعنى: واُقسم بالأرض والقويّ العجيب الذي بَسَطها.
النافذة الثالثة: نتعرّف من خلالها على ما ورد في روايات أهل البيت النبوّة، وهي جملة وافرة جاءت في ظلّ آية دَحو الأرض، منها:
• في خطبة للإمام عليّ عليه السلام قال فيها:
«كبَسَ الأرضَ على مَوْر أمواجٍ مُستَفحِلة، ولُججِ بحارٍ زاخرة، تَلتطمُ أواذِيُّ أمواجِها، وتَصطفِقُ مُتَقاذِفاتُ أثباجِها، وتَرغو زبَداً كالفُحول عند هِياجها، فخَضعَ جِماحُ الماء المتلاطم لثِقَل حملها، وسكنَ هَيْجُ ارتمائه إذا وطِئتْه بكَلْكَلِها، وذلّ مُسْتخذِياً إذ تمعّكت عليه بكواهلِها، فأصبح بعد اصطخاب أمواجه، ساجياً مقهوراً، وفي حَكَمة الذُّلّ منقاداً أسيراً، وسكنت الأرض مَدْحُوّةً في لُجّة تيارِه...» (4)
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: لمّا أراد الله تعالى أن يخلق الأرض، أمرَ الرياح فضرَبنَ وجهَ الماء حتّى صار موجاً، ثمّ أزبَد فصار زبداً واحداً، فجمعَه في موضعِ البيت ثمّ جعله جبلاً عن زبَد، ثمّ دحا الأرض مِن تحته، وهو قول الله تعالى: إنّ أوّل بيتٍ وُضِعَ للناسِ لَلّذي ببكّةَ مُباركاً .
وفي رواية أخرى ذكر البيت العتيق قائلاً: إنّ الله خلقه قبل الأرض، ثمّ خلق الأرضَ مِن بعده فدحاها مِن تحته. (5)
• وجاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قوله: إنّ الله تعالى دحا الأرض مِن تحت الكعبة إلى مِنى، ثمّ دحاها مِن مِنى إلى عَرَفات، ثمّ دحاها من عَرَفات إلى مِنى. فالأرض من عرفات، وعرفات من منى، ومنى من الكعبة. (6)
وضمن بيانه لعلل الأحكام والشرائع وبعض أسرار الحجّ وفضائله.. قال الإمام عليّ بن موسى الرضا صلوات الله عليه: وعلّة وضع البيت (أي الكعبة المشرّفة) وسطَ الأرض؛ أنّه الموضع الذي مِن تحته دُحيت الأرض... وهي أوّل بقعةٍ وُضعت في الأرض؛ لأنّها الوسط، ليكون الغرض لأهل الشرق والغرب في ذلك سواء. (7)
النافذة الرابعة: تُفتح على آفاق من العمل الصالح، نقرأ منها:
1. الليلة الخامسة والعشرون من ذي القعدة ليلة دَحو الأرض، وهي ليلة شريفة تنزل فيها رحمة الله تعالى. وللقيام بالعبادة فيها أجر جزيل. روي عن الأمام الرضا عليه السلام قوله: ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة وُلد فيها إبراهيم عليه السلام، وولد فيها عيسى بن مريم عليه السلام، وفيها دُحيت الارض من تحت الكعبة. فمَن صام ذلك اليوم كان كمن صام ستّين شهراً. (8)
2. اليوم الخامس والعشرون ـ يوم دحو الأرض، وهو أحد الأيّام الأربعة التي خُصّت بالصيام بين أيّام السنة. وفي بعض الروايات يُذكر أنّ صيامه يعدل صيام سبعين سنة، إذ هو كفّارة لذنوب سبعين سنة. عن الصَّيقل قال: خرج علينا الإمام أبو الحسن (الرضا) عليه السلام بـ «مَرُو» في يوم خمسٍ وعشرين من ذي القعدة فقال: صوموا، فإنّي أصبحت صائماً. قلنا: جُعِلنا فداك، أيّ يوم هو؟! قال: يوم نُشرت فيه الرحمة، ودُحيت فيه الأرض، ونُصبت فيه الكعبة، وهبط فيه آدم عليه السلام. (9)
3. وفي بعض الأخبار: من صام هذا اليوم وقام ليلته فله عبادة مئة سنة، ويستغفر لمن صامه كلُّ شيء بين السماء والأرض. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ أوّل رحمة نزلت من السماء إلى الأرض في خمس وعشرين من ذي القعدة، فمن صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة فله عبادة مئة سنة صام نهارها وقام ليلها. وأيّما جماعة اجتمعت في ذلك اليوم في ذِكر ربّهم عزّوجلّ لم يتفرّقوا حتّى يُعطَوا سُؤلهم، وينزل في ذلك اليوم ألف ألف رحمة، يوضع منها تسع وتسعون في حَلق الذاكرين والصائمين في ذلك اليوم والقائمين في تلك الليلة.
4. ويُستحبّ الغُسل في يوم دحو الأرض، فضلاً عن الصيام والعبادة وذِكر الله تبارك وتعالى.
5. وإلى ذلك هنالك عملان:
الأول: صلاة مرويّة، وهي ركعتان تُصلّى عند الضحى بـ «الحمد» مرّة و«الشمس» خمس مرّات، ويقول المصلّي بعد التسليم: لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
الثاني: دعاء يُستحبّ قراءته في هذا اليوم، وهو: