يزأر الأسد لكنه لا يلتهم صغاره، ولا يغفو قلب الأب إلا بعد أن تغفو عيون صغاره، فبسبب قيمة الأب الكبيرة عند أبنائه، قيل في بلاد الهند: «لا نعرف قيمة الملح إلا عندما نفقده، ولا قيمة الأب إلا عندما يموت».
لكن الأب في هذه الحكاية ليس له قيمة ولا وزن في بورصة الآباء، وعار علينا أن نصفه بأنه أب لطفلة جميلة يتمناها الكثير في دنيانا، ويستحق بجدارة أن ينزع اسمه من سجل ابنته، الطفلة لم تبلغ شهرها السادس بعد. فما حدث من هذا الأب لا يتصوّره عقل، الى درجة أن صرخات هذه الطفلة أدمت قلوب أهالي حي المقطم، خرجوا في الشوارع وقلوبهم مليئة بالغيظ من هذا الأب، يتمنون أن تلمحه أعينهم لينتقموا لهذه الرضيعة، لكن حتى كتابة هذه السطور لم يظهر هذا الرجل الذي خرجت من قلبه كل مشاعر الرحمة والإنسانية، وحل مكانهما القسوة والأنانية.
سطور المحضر التي دوّنها رجال المباحث كانت ترصد حكاية طفلة ضحية أب بلا قلب، وتوالت مشاهد القضية.
المشهد الأول كان أمام محل هاني المكوجي في أحد أحياء المقطم، يقف أمام لوح الكيّ يتابع عمله، يدخل عليه رجل في الثلاثين من عمره، يحمل رضيعة على كتفه وفي يده قميص، يطلب من هاني المكوجي أن يكوي له قميصه، وبعد أن يتفق معه على السعر وموعد تسلّم القميص. يبدأ الرجل خطوات خطته الخبيثة، وبدأ التحدّث مع المكوجي الذي لا ناقة له ولا جمل في هذه الحكاية، إلا أن حظه العاثر أوقعه في طريق هذا الأب الأناني الذي يطلب الرجل من المكوجي أن يترك ابنته معه خمس دقائق فقط إلى حين ذهابه إلى الصيدلية لشراء حفاضة أطفال لابنته.
ولم يدع الأب فرصة للمكوجي هاني أن يوافق على هذا الطلب أو يعترض، فترك الرجل ابنته على أقرب كرسي وذهب وهو يقول: «سأعود بسرعة، سأعود بسرعة»... نظر المكوجي بذهول إلى ما يحدث حوله وأفاق من ذهوله بعد أن اختفى الأب عن الأنظار، وأكمل عمله بعدما ألقى نظرة على الصغيرة ليجدها نائمة مثل ملاك صغير.
ساعة كاملة
مسح هاني المكوجي عرقه المتصبب والناتج عن حرارة بخار مكواته، ثم نظر في ساعته ليجد أن ساعة كاملة مرت على غياب الأب، فخرج من مكانه واتجه إلى الشارع ونظر يميناً ويساراً، لكن الشارع كان خالياً تماماً من المارة، فخفق قلبه بقوة وأدرك أن في الأمر شيئاً، شك في أن الطفلة الموجودة داخل محلة متوفاة، وأن هذا الرجل تخلص منها بهذه الطريقة.
عندها، هرع إلى الكرسي الموجودة عليه الطفلة، حرك يديها، أمسكها من خدها، لتتحرك الصغيرة، ويهدأ قلبه ويتنفس الصعداء، ثم يحمر وجهه من الغيظ ويطلب من مساعده في المحل الخروج للبحث عن هذا الأب الغريب الأطوار. وهنا تصحو الصغيرة وتطلق أصواتاً جميلة، قبل أن تبدأ فجأة البكاء.
التف السكان حول محل هاني يناقشون معه قصة الرضيعة التي تمزق قلوب كل من عرف حكايتها، وينتهي بكاء الصغيرة بقدوم إحدى سيدات المنطقة لإرضاعها.
المشهد التالي كان في قسم شرطة المقطم، وبالتحديد داخل مكتب الرائد أحمد هدية رئيس مباحث القسم. هاني المكوجي يحكي ما حدث معه، وبعد أن أخذ رئيس المباحث التفاصيل يطلب من المكوجي تدوين كل شيء في محضر رسمي. وهنا يطلب أحد سكان المنطقة إبقاء الرضيعة معه ووسط أولاده لرعايتها حتى يظهر أهلها.
في المشهد الثالث، هاني يحمل الرضيعة وحوله سكان المنطقة في انتظار إنهاء الإجراءات، فجأة تبكي الصغيرة بعدما كانت تلعب وتضحك لمن حولها، وراحت تنظر في اتجاه أحد المكاتب في قسم الشرطة، وكأن هناك شخصاً مهماً لها تشتم رائحته في هذا الاتجاه. فجأة يسمع الجميع صوت صراخ، وظهرت سيدة في نهاية العقد الثاني من عمرها الرعب يكسو ملامحها، صرخت: «ابنتي وعد!»، وانطلقت ناحية الصغيرة تلتقطها من يد هاني وتبكي بحرقة، فيما علامات السعادة ظاهرة بوضوح على وجه الصغيرة...
«زوجي مدمن»
الجميع ذهبوا إلى رئيس المباحث لتحكي الأم له تفاصيل ما حدث، فقالت إن زوجها مدمن مخدرات ولا ينفق على ابنته، بل إنه يفعل أي شيء للحصول على المال لتوفير المخدرات. وفجرت الأم مفاجأة من العيار الثقيل بكشفها أن زوجها أخذ ابنته وانتزع منها قرطيها الذهبيين وترك الصغيرة وهرب، لتواجه مصيراً سيئاً من أجل حفنة قليلة من المال، دون أن يبالي بمصيرها، ولم يتخيل أن الرجل الذي ترك الطفلة عنده ربما ألقاها في الشارع أو أودعها أحد الملاجئ!
أكدت الأم أنها جاءت إلى القسم لتسأل عن زوجها، فربما تم القبض عليه ومعه ابنتها، لكنها لم تكن تتخيل أن تجد الطفلة مع غرباء التقطوها من الشارع، بعد أن تركها والدها وجرّدها من حليها الذهبية من أجل شراء المخدرات. وتنتهي المأساة بخروج الأم من القسم وهي تحتضن صغيرتها، تاركةً حي المقطم كله لتبتعد عن هذا الأب الأناني الذي لا يستحق نظرة واحدة في عين ابنته.
في هذه الأثناء قرر رئيس المباحث إرسال المحضر إلى النيابة لتوجيه الاتهام إلى الأب من واقع شهادة الشهود وأقوال الزوجة التي اتهمته بالإدمان وسرقة مجوهرات ابنته، بالإضافة إلى تهمة الإهمال الجسيم التي يُنتظر أن توجه إليه.
وأرسلت الشرطة مأمورية إلى منزل الأب، لكنه لم يكن هناك، وأكدت زوجته أنه دائم الاختفاء بسبب غرقه في بحور المخدرات، ولا ينفق على منزله ولا يشعر بالمسؤولية. وأرسل رئيس مباحث المقطم مأموريات إلى الأماكن التي يمكن أن يكون فيها الأب، وذلك حتى يتم تقديمه للعدالة لحماية المجتمع من أب لا يعرف الرحمة ولا يهتم بمصير ابنته، كما نشرت الشرطة مواصفات الذهب المسروق من الابنة تمهيداً للقبض على الأب في حالة بيعه المجوهرات.
كتابة: أسامة كمال (القاهرة)