جارية
الجارية...و لسع السياط
قال لها سيدها – النطافي- : غنّي يا عنان و لكنها كانت تحس برغبة حارة في البكاء... و كان ضيوف سيدها سكارى أكثر مما ينبغي...فاعتذرت...ونظر النطافي إلى ضيوفه محرجا ثم امسك السوط و هوى به على ظهرها... و لحظتها أحست أن كل هذا الألم لا يكفيه البكاء...و في آخر الليل جاء إلى غرفتها معتذرا...يحمل في يده قارورة من العطر... فلم تعرف... أهي للتطيب...أم بلسما لجراح ظهرها... قال لها النطافي : ... لا تبالغي في الأمر... فكل الجواري يجلدن...
تعودت عنان على الرق... و لكنها لم تتعود على النطافي ...أدمنت الغناء و الشعر و أحلام اليقظة و ظل السوط مؤلما رغم تكرار مرات الجلد... لماذا تلتئم الجراح القديمة إذن مادامت هناك جراح جديدة قادمة...اشتراها النطافي بثمن بخس...كانت مثل درة مخفية وسط لحم الأجساد المعروضة للبيع... و عندما جلاها اكتشف أنها لا تقدر بثمن... و هكذا بدأت رحلتها في بغداد... قطرة من العطر و ضربة من السوط.
في سوق بغداد...
عندما دخلت عنان سوق بغداد سرت فيه حالة من النشوة...أخفض البائعون أثمان البضائع...و كف المشترون عن المساومة و جلس –النخاس- بجانب جارية وحيدة لم يشترها أحد و بكى...وفرد تجار فارس الأبسطة و السجاد فتألقت تحت الشمس مثل حقول من الحنطة و الزهور الصغيرة... و انفضت المزادات...و اشترت عنان عصفورا صغيرا فأخذ يغرد على الفور و هو الذي كف عن التغريد منذ أن وضع في القفص... و قال لها البائع... لم ار في بغداد يوما مثل هذا يا سيدتي...كانت الشمس رائقة و أحست عنان أن ظهرها قد تخلص فجأة من آثار السياط... كانت هناك فواكه غريبة جاءت في غير موسمها... و قال لها غلام صغير يبيع البرتقال ... ما أجملك... ضحكت عنان و هي تقول : و لكنك لم تر وجهي... قال الغلام : عيناك يا سيدتي... تتألقان فوق النقاب كأنهما شمسان صغيرتان... و فتح واحدة من برتقالاته فتألقت فصوصها الذهبية... و انتفض العصير في داخلها من النشوة... و أشار لها بائع عجوز إلى كرسي قديم ضخم و هو يقول:... هذا عرش كسرى يباع الآن... ماذا لو أخذتيه و جعلتيه مقعدا لزينتك...قالت عنان : لا أحب العروش... و جاءها صوت امرأة عجوز من الخلف و هي تقول : و لكنك يوما ما سوف تجلسين على عرش حقيقي... إلتفتت عنان فوجدت العجوز... في فمها سنا واحدة... تلبس ثوبا مصنوعا من بقايا الأقمشة ... مدت يدها المعروقة و تناولت كف عنان فإنساقت إليها... كان وجهها مليئا بتجاعيد غريبة ... كم سنة تمر لكي تحفر كل هذه التجاعيد... قالت : هذا كف بكر لم يقرؤها عراف من قبل... ثم هزت رأسها في تأكيد كأنها وجدت ما كانت تبحث عنه...ألم أقل لك... العرش في انتظارك فاحذري الوقوع في الحب... ضحكت عنان في مرارة و هي تقول : ... الحب... أو تسخرين مني ... إنني جارية... قالت العجوز :... أنت فقط تحملين جسد جارية... أما غير ذلك فات ... و تركت العجوز كفها و مضت ... دون أن توضح شيئا... و دون أن تتقاضى ثمنا.
توقفت أمام دكان النخاس... رأت المنصة التي بيعت عليها من قبل... كان النخاس ما زال يبكي... وحين رآها فرك عينيه بسرعة و هو يقول :... أنت الآن سيدة حقيقية... لا ينقصك إلا صك صغير من الورق لتصيري حرة ... كان يكذب ... كان ينقصها الكثير ... سألته عنان : أنت الذي أوصيت النطافي بضربي... قال : يا سيدتي كل الجواري يضربن... فكرت عنان في نفسها... هذه العرافة لا تدري مدى الهوان الذي وصلت إليه... أخرجت دينارا ذهبيا من كيسها و ألقته على المنصة... أسرع النخاس ليلتقطه و لكنها هتفت به ... ليس لك... إنه لهذه الجارية المسكينة... قال النخاس و هو يجز عليه بأسنانه ليتأكد من صحته... سوف يفسد الذهب أخلاقها... سوف تهرب مع أول عبد تقابله ... و وضع الدينار في جيبه بسرعة وهو يبتسم إبتسامة سعيدة.
وفجأة ارتج السوق ... و اندفع الحراس إلى كل مكان ... أصبحوا فجأة أكثر من كل الناس الموجودين في السوق ... و دقت طبول مجهولة فوقف الحرس في صفين متقابلين و همس لها أحد البائعين .... انه موكب الخليفة هارون الرشيد... قالت عنان ... أخيرا... كانت تحلم بأن تراه... أن يأتي إلى بيت النطافي ليستمع إليها... أو تذهب هي لتغني له... تحلم أن تقطع الأغنية و تمزق ثوبها و تريه آثار السوط... و لكنه الآن... وسط السوق و الحراس و الناس...لا تملك أن تغني أو تمزق ثوبها.
ظهر الرشيد فوق جواده... فخما ... رائعا... كما يليق بخليفة... على يساره وزيره البرمكي يبرم شاربه في توتر... و على يمينه مسرور السياف. و خلفهما الأعيان و بقية القواد...هزت عنان القفص فعاد العصفور يغرد فرفعت القفص عاليا و هي تهتف : هذا العصفور يغرد من أجلك يا مولاي... توقف الخليفة مدهوشا و التفت إليها ... قال : من أنت؟... رفعت عنان النقاب عن وجهها :أنا عنان جارية النطافي... كان البرمكي متوترا حتى كاد أن يخلع شاربه... و قال الخليفة مبهورا بجمال وجهها... : لم أكن أعرف أن النطافي يمتلك تلك الدرة... قالت عنان : انه يمتلكني و يجلدني أيضا يا مولاي... واربد وجه الخليفة... : وغد ... يجرؤ على جلدك...
و رأى الناس قد تكاثروا... و أدرك أن الأمر سوف يتحول إلى حكاية تتحدث بغداد عنها... فلوى عنان جواده و سار...و سار الموكب كله...و استندت عنان إلى حائط قريب و هي تلهث... و أسرع بائع عجوز يحضر لها الماء... من أين أتتك كل هذه الجرأة يا عنان؟... سألت نفسها...احضر البائع الماء... و لم الحراس حرابهم و انصرفوا ... وكان العصفور الصغير ما زال يغرد ففتحت باب القفص و أطلقته في الفضاء و هي تهتف... : أنت الآن تستحق الحرية أيها العصفور الصغير... فمن يمنح الحرية لعنان الصغيرة ؟...
ثم يأتي الحب... دون توقع...
هشم النطافي قفص العصفور الخالي... وكان بيته مليئا بالضيوف فلم يرفع السوط... و رغم ذلك عندما نظرت في المرآة وجدت وجهها مازال سعيدا... كان حلم الخلاص ما زال متوهجا بداخلها... لم تضع النقاب على وجهها و خرجت إليهم و غنت دون أن يطلب أحد منها ذلك... كانوا كثيرين... متشابهي الأوجه... تفوح منهم نفس الرائحة... أبو نواس يجلس بجانب النطافي يحدق فيها بنظراته الشرهة التي لا تقنع و لا ترعوى... لن تبالي به و لو قال الليلة كل أشعاره البذيئة... بعيدا عنها يجلس شاب آخر رقيق له عينان متألقتان... كانت سعيدة... سعادة لم تتسلل إليها جلبة الضيوف السكارى... و غنت أشعارها :
بكيت عليها ان قلبي يحبها
و ان فؤادي كالجناحين ذو رعش...
لا تدري كيف – من خلال سعادتها الخاصة جدا – أحست بهذا الشاب... و هو ينظر في عينها مباشرة... كيف يغير وضعه ليزداد اقترابا منها... و كيف لم يفطن النطافي إليه... كان يبتسم في رقة... و لا ينزل عينيه أبدا... هتف أبو نواس : نازليني يا عنان ثم انخرط في قصيدة فاحشة... و كانت مستعدة للرد عليه دون كلمة فحش واحدة فألزمته حده... و للمرة الأولى تراجع أبو نواس أمامها... وهتف بقية الضيوف بالشاب المتألق العينين... هلم يا ابن حفصة هلم يا مروان نازل عنان و التفتت تراه من جديد... أهو أنت...؟...
كانت تسمع عنه... و عن شاعريته... و لكنها لم تكن تحسب أنه شاب إلى هذا الحد... ابتسم لها و لهم هز رأسه رافضا... يكفي لم يكن يريد كل شيء في هذه الليلة الواحدة... يكفي أنه رآها و استمع إليها...
نهضت جارية حبشية و أخذت ترقص و مزق أكبر تاجر –بهار- في بغداد ثيابه طربا...و نهض أبو نواس منصرفا فأحست بعبئه ينزاح من فوق صدرها... ثم تبعه الآخرون و هو يترنحون... و لكن مروان بقى... قالت لنفسها... يا له من يوم غريب أقابل هارون الرشيد في الصباح ثم أقابل هاتين العينين المتألقتين في المساء...
دخل رجل غريب و أخذ يهمس في أذن النطافي... و نظر النطافي نحوها فأحست أن الهمس يدور حولها... نهض و اصطحب الغريب إلى الخارج... ثم عاد و هو يحمل السوط في يده و صرخ فيها: أنت... تجرئين على شكوتي إلى أمير المؤمنين... و رفع السوط فإنزوى بقية المدعوين كالجرذان... كانوا يعرفون أنه في ثورة غضبه يتحول إلى حيوان حقيقي... و ظل مروان ينظر في دهشة لا يدري ماذا يحدث بالضبط حتى هوى النطافي بالضربة الأولى على ظهر عنان فنهض مفزوعا... حمل النطافي بجرمه الضخم و أطاح به في الهواء ليصطدم بالحائط... بدأت عنان تبكي و سقط النطافي مغشيا عليه... و هرع الضيوف إلى الخارج... كانت تبكي لا لأن لسعة السوط كانت قوية... و لكن لأنها أهينت أمامه... و لم تكن تريد أن تهان الليلة... قال و هو يتطلع إليها :
بكت عنان فجرى دمعها
كالدر اذ يسبق من خيطه...
قالت و هي تكفكف دموعها :
فليث من يضربها ظالما
تيبس عيناه على سوطه...
و نهضا معا ... خرجا من بيت النطافي إلى بغداد النائمة... لم يفكرا في النظر إلى النطافي... كانا يحسان أنه من الصعب أن يموت... فالكوابيس لا تموت بسهولة... و ما هذه الإغماءة إلا حلم قصير... كان النهر ساكنا... سكون المتأهب للحظة حب لم تولد بعد... و ضوء النجوم كان شحيحا و لكنه كان كاف لعاشقين يتلمسان خطوات العشق الأولى... و حتى – المراكبى- العجوز الذي كان نائما في قاربه لم يطلب منهما أجرة و لكنه أفسح مكانا و أعطاهما بقية من تمر النهار ثم أخذ يجدف بهدوء...
سكن الألم قليلا... و ظلت عنان تحس بالحرقة فأخذت تبكي... ورف طائر فوق النهر- يبدو أنه قد ضل الطريق إلى عشه- ثم لاح قصر ضخم متألق الأنوار... قصر هارون الرشيد... كانت تحلم بالخلاص على يديه... و لكن عليها الآن أن تقنع بنصيبها من صدر ابن حفصة...
إلى متى استمر المراكبى العجوز في التجديف قبل أن يغفو... و كيف ازداد تألق النجوم... و لماذا جاء الفجر سريعا هكذا... قالت في خوف : إنه الفجر... سوف يقلب النطافي شرطة بغداد كلها بحثا عني... أمسك يدها و هبطا إلى الشاطئ... و أعطى مروان للمراكبى العجوز كل ما في جيبه من دنانير... و لكن الرجل أعادها إليه... من الذي يشتري ليلة بهذا الصفاء... و سارا إلى قصر النطافي... كان مستيقظا... جمع أمامه كل الفتات التي تركها الضيوف و أخذ يأكل بشراهة و حنق ... و حين رآهما تأملهما قليلا ثم هتف بسخرية: أين كنتما... هل وقعتما في الحب...
قال مروان:أريد أن أشتريها...
قال النطافي : أتعرف الرجل الغريب الذي جاء في منتصف ليلة أمس... إنه رسول الخليفة... أتعرف ماذا كان يريد... كان يريد شراءها و لقد طلبت ثمنها مائة ألف دينار و ليس أقل من ذلك... سوف أواصل جلدها حتى يرتفع ثمنها...
و صمت قليلا ليلتهم ما أمامه ثم هتف في ابن حفصة: هل تملك مائة ألف دينار...
الذهب لا يكفي لشراء روح ضائعة...
في الصباح توجه –مسرور- بنفسه إلى بيت النطافي و هو يحمل صندوقا... و هتف بالنطافي : ها هي المائة ألف دينار بعثها إليك أمير المؤمنين... أين الجارية ؟ ... و لكن النطافي رد في برود: دعني أحصى النقود أولا...
كان مشهد –مسرور- وحده يثير الرعب... و لكن النطافي ظل يتأمله في نفس البرود و هو يجاهد لكظم غيظه... و انزل العبد الصندوق... و جلس النطافي على الأرض و كوم النقود ثم بدأ يحصيها في بطء و تمعن... و بعد ساعتين كان –مسرور- قد أوشك أن يجن و أن يخرج السيف و يهوى به على تلك الرأس المنكبة على النقود... و هتف النطافي : المبلغ ناقص... و صرخ –مسرور- : ماذا يا حشرة ناقص...؟... و لم يظهر الرعب الذي كان في قلب النطافي على وجهه... فقد واصل القول في برود... : إن أمير المؤمنين يريد أن يعطيني الدينار بسبعة دراهم و هذا غير عدل فالدينار في السوق لا يقل عن ثمانية دراهم... و أمسك أحد الدنانير و جز عليه بأسنانه ثم واصل القول : و هذا ذهب خفيف لا يغنى الدينار يجب أن لا يقل عن تسعة دراهم و صرخ –مسرور- مغتاظا... و أمسكه من عنقه و للمرة الثانية يرتطم جسد النطافي بالحائط و يسقط مغشيا عليه... و تناثرت نقود الخليفة تحت الأقدام... و جاءت عنان مسرعة على صوت الصياح الغاضب فهتف بها –مسرور-... : هيا معي إلى القصر...
فأطاعته... سارت دون أن تلقي نظرة على النطافي... كانت واثقة أيضا هذه المرة أنه ما زال على قيد الحياة... و كان –مسرور- ينتفض من الغيظ طوال الطريق... و ظل كذلك حتى و قف أمام الخليفة و هو يقص عليه قصة المساومة الخسيسة مع النطافي.
وقال الخليفة : رفض البيع إذن... فكيف أحضرت الجارية ؟...
و فوجئت عنان... و أخذ مسرور يلعن النطافي و لكن هارون الرشيد قال : سوف يشكوني إلى قاضي بغداد... و لا أريد أن يقال في مجلس القاضي أني سلبت من واحد من رعيتي شيئا يملكه...
قال –مسرور- في دهشة : مولاي ...إننا لسنا خائفين منه...
لسنا خائفين... و لكننا لسنا ظالمين...
قالت عنان: و ما يمنعك يا مولاي من أن تعطيه ما يطلب...
قال هارون : لن يفرط فيك مهما أعطيته من ثمن... عودي إليه و سوف نبحث عن سبيل آخر...
أعود... قالت في نفسها في مرارة... هذا هو هارون الرشيد... فماذا يمكن أن تفعله يا بن حفصة ؟...
و لكن نجوم الحب خادعة...
كان ابن حفصة محموما... تلاحقه طيور غريبة أينما سار... كانت شمس بغداد صريحة لذلك أشعرته بالعجز عن مواجهتها... لم يكف عن الركض و اللهاث... مدح الأمير و الوزير و الوالي و القاضي و المحتسب... و عاد بفتات من دراهم الفضة... باع دار أمه القديمة... و الهدايا و بعض المخطوطات ... و سيفا يعلوه الصدأ... و عمامة أبيه... و توسل حتى وصل مجلس الخليفة هارون الرشيد و مدحه بقصيدة حارة... و طلب منه الخليفة أن يتمنى... فتمنى مائة ألف دينار... فضحك الخليفة و أعطاه دينارا بكل بيت...
قامر فخسر... تآسى فلم ينس ... و ظلت عنان كنجمة السماء البعيدة المنال... كان الأصحاب صعاليك و مفلسين... و المرابون أوغاد... و بغداد مدينة قاسية على الشعراء و العشاق... و عندما تسلل إلى حجرتها في المساء جلسا سويا مثل طفلين ضائعين... أخبرته ماذا حدث مع الخليفة... و كيف رفض النطافي المال... كانت تحس باليأس و بضياع فرصة خلاصها... لم يفكرا في الخروج إلى النهر... حيث يوجد الحب يجب ألا توجد المرارة...
رحل ابن حفصة إلى خراسان و قص على واليها ابن عبد الله مأساته فضحك و أهداه خمس جوار لعله يتآسى في أجسادهن و لكنه رفض... رحل إلى الكوفة و البصرة ... و رفع ولاتها إلى سماء الشعر... و بقي هو في حضيض الدراهم... عاد إلى بغداد و تسلل إلى غرفتها... فقالت له أن النطافي مريض و أنه لم يعد يضربها بالسوط... و لم يستمع إليها... إنها حيلة أخرى من حيل النطافي للاستئثار بها... كان مشغولا بكل الأشياء التي تفور في داخله و هتف بها : سوف أسرق خزائن هارون الرشيد...
أصيبت بالفزع ... و توسلت إليه أن يعدل عن فكرته... و لكنه كان تعبا من كثرة اليأس... برما من الإلحاح في السؤال...و بدت الفكرة براقة... فالشعراء يجب عليهم أحيانا أن يسلكوا طريق اللصوص... ترك غرفتها... كانت تبكي ... و كان يرتعد و لم يتصور أحد منهما أن ليلة من ليالي الحب يمكن أن تقودهما إلى هذا الجنون... و لم ينم أحد في هذه الليلة... و أطلت على بغداد نجوم ضائعة... و في اللحظة التي غافل فيها ابن حفصة الحرس و تسلل إلى داخل القصر... أرسل النطافي يستدعي عنان لكي تجلس بجانبه... كانت هناك شمعة وحيدة بجانب فراشه... و كان وجهه شاحبا تطلع إليها قليلا ... ثم قال في صوت واهن...: إنني أحتضر...
ما أطول طرقات القصر و ما أشد وحشتها... أين توجد الخزائن...؟... كان ابن حفصة قد ذهب إليها ذات يوم في وضح النهار ليأخذ أعطياته... و لكن هل يمكن الإهتداء إليها في هذا الظلام... أين يختبئ الحراس... و أين يكمن الموت...؟... و هل يولد الحب من جديد خلال السرقة و المخاطرة...؟...
طلب النطافي رشفة من الماء... ثم همس و هو يكاد يبكي : هل آلمتك كثيرا ؟... و لم ترد عليه... شعرت بالمهانة من سؤاله... و بالاحتقار له... عاد يقول : اكشفي عن ظهرك...
هتفت في حدة ك... كلا...
قال في توسل : إنني أحتضر ... و لعل هذا هو مطلبي الأخير... لست أكثر من شيخ يحتضر... توسل طويلا... حتى أنها استدارت و كشفت عن ظهرها... أحست بأصابعه و هي تتلمس آثار القروح... و فجأة سمعته ينخرط في بكاء حار... التفتت إليه في دهشة... لم تتوقع أن تراه أبدا بهذا الضعف... مدت أصابعها في تردد ... ثم لمست جبهته.
وقف ابن حفصة مذهولا أمام باب الخزائن... هنا كل خراج الأرض... و نتاج كل الغيم السابح في السموات... إنه لا يحتاج كل ما فيها من أموال... يكفيه ما يكفي طمع النطافي و استنقاذ روح عنان الأسيرة...
أخرج سكينا كان يحمله معه و أخذ يشق في الباب الخشبي ليحصل إلى طرف المزلاج... أيهما أسهل السرقة ... أم قرض الشعر...؟... لم يصمد المزلاج طويلا... و لعل صاحب بيت المال لم يكن يتصور أن يجرؤ أي لص على إقتحام قصر هارون الرشيد...
انفتح الباب... يا رب السموات... ما كل هذه الأموال المكدسة ... حتى وسط الظلام يبدو ضوء الذهب وهاجا... كيف يحصي أمواله... كيف يعرف ماذا يريد و أمامه أكثر مما حلم به... كان يسمع من حوله عشرات الأصوات... ثم اكتشف أنها كلها أصواته... صوت قلبه... و تنفسه... و تدفق الدم في عروقه...
أخذ يجمع كل ما يجده أمامه... يضع في جيوبه... و في عمامته... و في كل مكان... سوف ينالها ... سوف يفرغ الذهب كله أمام النطافي و يحررها منه ... و لكنه عليه الآن ألا يتوقف لحظة واحدة... و فجأة سمع صوتا آخر غير صوته يهتف به في خشونة... : قف مكانك و لا تتحرك... إلتفت في فزع فوجد عشرة من الحراس حرابهم موجهة إلى صدره... تحاصره... و رئيس الحرس يتساءل في دهشة : أي لص أنت ... كيف تجرأت على خزائن أمير المؤمنين ؟... و وقف صامتا تعيسا ... و قد أدرك فجأة ... أن الشعراء لا يصلحون للعشق ... و لا للصوصية...
و كان في النطافي بقية من القدرة على الكلام ... فقال لها بصوت متهدج : لو تعلمين كم كنت أحبك ... و أغار عليك ... كنت أعلم أنهم يحسدونني فأردت أن أقبحك في نظرهم...
قالت له : لا تتكلم ... و لكنه واصل الكلام : إذا أقبل الصباح و أنا ما أزال على قيد الحياة ... سوف أصحبك إلى قاضي بغداد و أعتقك...
من السوق ... و إلى السوق تعود ...
و لكن الصباح لم يأت عليه إلا و هو جثة هامدة تنتظر الدفن و المغفرة ... و انتشر خبر موت النطافي في بغداد كلها... و لكن خبر اللص المجهول حبيس السجن المظلم ظل متكتما عليه ... و عندما ثوى في القبر إكتشفت عنان مفاجأة مذهلة ... فالرجل الذي رفض مائة ألف دينار من الخليفة مات مديونا... بيته مرهون ... و أمواله نهب للمرابين و مزيفي الصكوك ... كلهم أحاطوا بالبيت كالغربان ... و انتظرت عنان أن يأتي ابن حفصة فلم يأت... و بدلا منه جاء الحرس و متكفل الرهون و القاضي و نظر إلى الأثاث و الجواري ثم قال : هذه كبد رطبة ... و على الرجل دين فليبع كل ما يملك في سوق بغداد حتى يوفي بدينه...
أهان الله من أهانني ... قادوها إلى السوق... أهان الله من أهانني ... صفوها على منصة النخاس العالية ... أهان الله من أهانني ... كانت الجارية السوداء لم تبع بعد و لا زال الدينار الذهبي في جيب النخاس... و عندما صرخ عاليا... : من يزيد ؟... بكت عنان... و حسبوا أنها تبكي النطافي... و لكن ... من كانت ستبكيه سوى نفسها... أهان الله من أهانني ... لم يعد أحد يرثى لها ... صرخ النخاس : من يزيد ... فقال رجل : خمسون ألف درهم...
أباع بالدراهم و كنت أقدر بالدنانير... فوجئت بـ - مسرور- يقف أمامها : مائة ألف درهم... لم يرض النطافي بسبعة أضعاف هذا المبلغ... هتف رجل خرساني ربما لم يكن يعرف – مسرور- : أزيد خمسة و عشرين ألف درهم... و لكزه – مسرور- و هو يقول : أتزيد على أمير المؤمنين ... مائتين و خمسين ألف درهم...
و لم يكن فيها شيء يعاب ... اللهم إلا بضعة آثار من السياط في ظهرها ... سوف تزول إذا نامت على حرير أربعين يوما و إذا دلكها خصى تركي... و رغم غضب الرشيد لأن لصا حقيرا تجرأ على خزانته فقد ابتسم حين رآها ... و قال لها : جئت أخيرا إلى المكان اللائق بك ... كان العرش يليق بالنبوءة ... صحبتها الجواري بعيدا إلى جناحها... حيث يمكنها أن تطل على النهر ... في النهر يبدو النهر بلا نجوم سابحة... خال من الحب... و لكن من الذي يقف في وجه الريح عندما تندفع ... أيتها العجوز ... إلى أي مدى أنت صادقة... احذري الحب... و احذري الذكرى... و احذري أية لحظة من الضعف أو الشفقة أو الحنين... احذري تقلب السادة و لسع السياط و البيع في السوق من جديد...
التفتت إلى الناحية الأخرى ... كانت حديقة القصر ممتدة أمامها وفيرة الخضرة ... رأت جمعا من الحرس يقودون شخصا ما ... خيل إليها أنها تعرفه... و على بعد كان –مسرور السياف- واقفا يشحذ سيفه في استمتاع... كانوا يذهبون بالشخص المقيد إلى أقصى أطراف الحديقة ... سألت احدى الجواري : من هذا...؟...
قالت الجارية و هي تقترب من النافذة و تشاركها في النظر : إنه اللص الذي تجرأ على سرقة خزائن أمير المؤمنين... سوف يقطعون يده.