(هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ(15) ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أن يَخْسِفَ بِكُمُ الاَْرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيَفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) الملك
بعد استعراض الآيات السابقة بالنسبة لأصحاب النار وأصحاب الجنّة، والكافرين والمؤمنين، يشير تعالى في الآيات مورد البحث إلى بعض النعم الإلهية، ثمّ إلى أنواع من عذابه، وذلك للترغيب والتشويق بالجنّة لأهل الطاعة، والإنذار بالنار لأهل المعصية، يقول تعالى: ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا).
«ذلول» بمعنى (مطيع) وهو أجمل تعبير يمكن أن يطلق على الأرض، لأنّ هذا المركب السريع السير جدّاً، مع حركته المتعدّدة، يلاحظ هادئاً إلى حدّ يبدو وكأنّه ساكناً بصورة مطلقة. وتكون سهلة مسخرة تعملون فيها ما تشتهون. والذلول من المراكب ما يسهل ركوبه من غير أن يضطرب اي مذللة ميسرة لكم كالحصان المستراض او البقرة المستالفة ، حيث جعل نظامها و ما فيها لصالح الانسان طعما و شرابا و هواء و زينه و ما اشبه مما يحتاجه و ينفعه كالليل و النهار و الشمس و القمر .. الخ .و تذليل الله للارض انعكاس لاسم " تبارك " حيث ان ذلك من بركته و رحمته .
يقول بعض العلماء: إنّ للأرض أربع عشرة حركة مختلفة(تفسيرالأمثل)، ثلاث منها هي:
الاُولى: حركتها حول نفسها.
والثانية: حول الشمس.
والثالثة: مع مجموعة المنظومة الشمسية في وسط المجرّة.
هذه الحركات التي تكون سرعتها عظيمة، هي من التناسب والإنسجام إلى حدّ لم يكن ليصدق أحد أنّ للأرض حركة لولا إقامة البراهين القطعية على حركتها.
هذا من جهة، ومن جهة اُخرى. فإنّ قشرة الأرض ليست قويّة وقاسية إلى حدّ لا يمكن معه العيش فوقها، ولا ضعيفة ليّنة لا قرار لها ولا هدوء، وبذلك فإنّها مناسبة لحياة البشر تماماً، فلو كان معظم سطح الكرة الأرضية مغموراً بالوحل، والمستنقعات ـ مثلا ـ فعندئذ تتعذّر الإستفادة منها، وكذلك لو كانت الرمال الناعمة تغمرها فإن قدم الإنسان تغور فيها حتّى الركب، وكذا لو كانت مكوّناتها من الصخور الحادّة القاسية فعندئذ يتعذّر المشي عليها، ومن هنا يتّضح معنى إستقرار الأرض وهدوئها.
ومن جهة ثالثة فإنّ بعدها عن الشمس ليس هو بالقريب منها إلى حدّ يؤدّي بحرارة الشمس إلى أن تحرق كلّ شيء على وجهها، ولا هو ببعيد عنها بحيث يتجمّد كلّ شيء على سطحها.
وكذلك بالنسبة لضغط الهواء على الكرة الأرضية، فإنّه متناسب بما يؤدّي إلى هدوء الإنسان وراحته، فهو ليس بالشديد بالصورة التي يسبّب له الإختناق، ولا بالمنخفض بالشكل الذي يتلاشى فيه معه.
والأمر نفسه يقال في الجاذبية الأرضية، هي ليست شديدة إلى حدّ تتهشّم فيها عظام الإنسان، ولا بالضعيفة التي يكون فيها معلّقاً لا يستطيع الإستقرار في مكان.
والخلاصة: إنّ الأرض (ذلول) ومطيعة ومسخّرة لخدمة الإنسان في جميع المجالات، والظريف هنا بعد وصفه تعالى للأرض بأنّها (ذلول) أمره لعباده بأن يسيروا في (مناكبها).
و«مناكب»جمع (منكب) على وزن (مغرب) وهو مجتمع رأس الكتف و العضد ، و ناحية كل شيء و جانبه ، يقال : سرنا في منكب من الارض او الجبل اي في ناحيته ، و المنكب من الارض الطريق
وبذلك تسخر الأرض للإنسان ويضع قدميه عليها سائراً على كتفها وهي هادئة ومتوازية ومحتفظة بتعادلها.
كما تحمل في نفس الوقت إشارة إلى ضرورة السعي في الأرض في طلب الرزق والحصول عليه، وإلاّ فسيكون الحرمان نصيب القاعدين والمتخلّفين عن السعي. وتسمية الأرض ذلولاً وجعل ظهورها مناكب لها يستقر عليها ويمشي فيها باعتبار انقيادها له
و قوله تعالى : " فامشوا "ليس مجرد امر تشريعي يوجب السعي ، بل هو أمر تكويني ، إذ لو لم يقدر الله المشي لما كان أحد يستطيع المشي حتى في مناكب الارض . وكان القرآن حينما امر بالمشي في مناكب الارض شبهها
بالانسان ، رأسها الجبال و مناكبها السفوح و السهول و ما دون القمم العالية الوعرة التي يصعب المشي فيها . و حينما نمشي فاننا ليس فقط نحصل على الرزق بل و نزداد معرفة ايضا . و هناك علاقة بين فعلي الأمر " امشوا "و " كلوا "ذلك ان رزقنالا يمكن ان يمشي الينا بل لابد ان نسعى اليه بانفسنا ، و هذه هي القاعدة السليمة التي يجب علينا ان نتبعها في الحياة لنمارس مسؤوليتنا فيها و نصل الى اللقمة الحلال و المرضية عند الله ، إذن فليس في الدين دعوة للخمول و الكسل و التطفل على الاخرين ، كما يصورهالبعض ، انما هو صورة لسنن الحياة الواقعية التي لا يمكن لاحد الوصول الى اهدافه و اغراضه إلا من خلالها ومن أهمها سنة السعي و الكدح .
إنّ التعبير بـ (الرزق) ـ هنا ـ تعبير جامع وشامل، حيث يعني كافّة الموارد الأرضية، وهو أعمّ من النعم الحيوانية والنباتية والمعدنية التي فيها.
ويجب الإلتفات إلى أنّ هذا ليس هو الهدف الأساس لخلقكم، إذ أنّ كلّ ذلك وسائل في طريق (نشوركم) وبعثكم وحياتكموالنشر إحياء الميت بعد موته وأصله من نشر الصحيفة والثوب إذا بسطهما بعد طيّهما
وفي عدّ الأرض ذلولاً والبشر على مناكبها تلويح ظاهر إلى ما أدَّت إليه الأبحاث العلمية أخيراً من كون الأرض كرة سيَّارة.
و كمــا ينبغــي للانسان ان ينتفع من تذليل الارض له و يتحسس اسم " تبارك " مــن هذه الرحمة الإلهية عليه ، كذلك يجب عليه ان يستشعر قدرة الله على كل شيء ، و انه لو شاء لسلب تلك البركة منه فاذا بتلك الارض المذللة تصبح كالفرس الجامح تمور مورا ، او يحدث تغييرا في النظام الكوني فاذا بالسماء التي تحميها تستحيل منطلقا لعذاب مصوب لا طاقة للارض و سكانها به . و تذكر هذه الحقيقة مهم لأمرين :
الأول: انها الى جانب تنعم الانسان ببركات الله و رحماته التي في الطبيعة تعطيه توازنا نفسيا و عقليا و عمليا يسوقه نحو المسيرة الصحيحة في الحياة ، فلا تبطر به النعم و تضلله عن أهدافه . فانه متى وصل الانسان الى اليقين بقدرة الله عليه سلم له أمره و اتصل به و خضع له ، و هذه من أعظم أبعاد الخشية منه تعالى .
الثاني : انها تجتث من نفس الانسان جذور الشرك ، لكي لا يأمن مكر الله ثم يعصيه اعتمادا على الشركاء المزعومين ( كالشياطين و الاصنام و الملائكة بانهم قادرون على مقاومة قدرة الله و منع مشيئته ) او استرسالا مع رحمته تعالى .
وبعد هذا الترغيب والتشويق يستعرض تعالى اُسلوب التهديد والإنذار فيقول سبحانه:
( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور).
نعم، إنّ الباريء تعالى إذا أمر أو أراد فإنّ هذه الأرض الذلول الهادئة تكون في حالة هيجان وطغيان كدابة جموح، تبدأ بالزلازل، وتتشقّق وتدفنكم وبيوتكم ومدنكم تحت ترابها وحجرها، وتبقى راجفة مضطربة مزمجرة بعد أن تقضي عليكم وعلى مساكنكم التي متّعتم فيها برهة من الزمن.
جملة (فإذا هي تمور) يمكن أن تكون إشارة إلى قدرة الله سبحانه على أن يأمر الأرض أن تبتلعكم، وتنقلكم باستمرار ـ وأنتم في داخلها ـ من مكان إلى آخر بحيث أنّ الهدوء لا يشملكم حتّى وأنتم في قبوركم.
وهكذا تفقد الأرض إستقرارها وهدوءها إلى الأبد، وتسيطر الزلازل عليها، وهذا الأمر سهل الإدراك والتصوّر للذين عاشوا في المناطق الزلزالية، وشاهدوا كيف أنّ الزلازل تستمر عدّة أيّام أحياناً وتبقى الأرض غير مستقرّة وتسلب من سكّان تلك المناطق لذّة النوم والأكل والراحة، غير أنّ تصوّر هذا الأمر بالنسبة إلى عامّة الناس الذين ألّفوا هدوء الأرض أمر صعب.
التعبير بـ (من في السماء)إشارة إلى ذات الله المقدّسة، ولمّا كانت حاكميته على أبدية. جميع السماوات ومن فيها من الاُمور المسلّمة، فما بالك بحاكميته على الأرض، إنّها من الاُمور التي لا شكّ فيها ـ أيضاً ـ بل هي من باب الاُولى.
قال البعض: إنّ العبارة السابقة إشارة إلى ملائكة الله سبحانه في السماء المكلّفين بتنفيذ أوامره تعالى.
ثمّ يضيف سبحانه: ( أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً) فلا يلزم حتماً حدوث زلزلة لتدميركم، بل يكفي أن نأمر عاصفة رملية لتدفنكم تحت رمالها .. وحينئذ ستعلمون حقيقة إنذاري وتهديدي: ( فستعلمون كيف نذير).
إنّ إدراك طبيعة هذا التساؤل سهل بالنسبة إلى الأشخاص الذين عاشوا في المناطق الرملية المتحرّكة والرياح(الحاصبة)
(وهي الرياح التي تحرّك كميّات الحصى المتراكمة وتنقلها من مكان إلى آخر)
فهؤلاء يدركون إمكانية دفن البيوت أو القرى في لحظات تحت تلال من الحصى والرمال المتحرّكة، وكذلك القوافل السائرة في وسط الصحراء.
وفي الحقيقة فإنّ الآيات أعلاه تؤكّد أنّ عذاب العاصين والمجرمين لا ينحصر في يوم القيامة فقط، حيث يستطيع الباريء عزّوجلّ أن يقضي على حياتهم في هذه الدنيا بحركة بسيطة للأرض، أو بحركة الرياح، وإن أفضل دليل على هذه الإمكانية الإلهية هو وقوع مثل هذه الاُمور في الاُمم السابقة.
لذا فإنّ الله تعالى يقول في آخر آية من هذه الآيات:
( ولقد كذّب الذين من قبلهم فكيف كان نكير)
نعم فلقد عاقبنا قسماً من هؤلاء بالزلازل المدمّرة، وأقواماً آخرين بالصواعق، وبالطوفان، وبالرياح .. وبقيت مدنهم المدمّرة موضع درس وإعتبار لمن كان له قلب واع.
************************************************** ***********************************
تفسير الأمثل
تفسير الميزان
تفسير مجمع البيان
تفسير من هدي القرآن
منقول