مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام )
مع اصحاب الأديان قال الحسن بن محمّد النوفلي : لمّا قدم علي بن موسى الرضا (عليهما السلام ) إلىالمأمون ، أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات ، مثل الجاثليق ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر ، وأصحاب زردهشت ، وقسطاس الرومي والمتكلّمينليسمع كلامه وكلامهم ، فجمعهم الفضل بن سهل ، ثمّ أعلم المأمون باجتماعهم ، فقال : أدخلهم عليّ ، ففعل .
فرحّب بهم المأمون ، ثمّ قال لهم : إنّي إنّما جمعتكملخير ،وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ ، فإذا كان بكرة فاغدواعليَّ ، ولا يتخلّف منكم أحد ، فقالوا : السمع والطاعة يا أمير المؤمنين ، نحنمبكّرون إن شاء الله .
قال الحسن بن محمّد النوفلي : فبينا نحن في حديث لناعند أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) إذ دخل علينا ياسر الخادم ، وكان يتولّى أمرأبي الحسن ( عليه السلام ) فقال : يا سيّدي إنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام ، فيقول : فداك أخوك إنّه اجتمع إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلّمون من جميعالملل ، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم ، وإن كرهت كلامهم فلا تتجشّم ، وإنأحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا .
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( أبلغه السلام وقل له : قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله ) .
قال الحسن بن محمّد النوفلي : فلمّا مضى ياسر التفت إلينا ، ثمّ قال لي : ( يا نوفليّ أنت عراقي ورقّة العراقي غير غليظ فما عندك في جمع ابن عمّك علينا أهلالشرك وأصحاب المقالات ؟ ) ، فقلت : جعلت فداك يريد الامتحان ، ويحبّ أن يعرف ماعندك ، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس ـ والله ـ ما بنى .
فقال لي : ( وما بناؤه في هذا الباب ؟ ) ، قلت : إنّ أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء ،وذلك أنّ العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلّمون وأهل الشركأصحاب إنكار ومباهته ، وإن احتججت عليهم بأنّ الله واحد قالوا : صحّح وحدانيّته ،وإن قلت : إنّ محمّد ( صلى الله عليه وآله ) رسول الله ، قالوا : أثبت رسالته ، ثمّيباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجّته ، ويغالطونه حتّى يترك قوله ، فأحذرهم جعلتفداك .
قال : فتبسّم ( عليه السلام ) ، ثمّ قال : ( يا نوفلي أتخاف أنيقطعوا عليّ حجّتي ؟ ) .
قلت : لا والله ما خفت عليك قطّ ، وإنّي لأرجو أنيظفرك الله لهم إن شاء الله .
فقال لي : ( يا نوفلي تحبّ أن تعلم متى يندمالمأمون ؟ ) قلت : نعم .
قال : ( إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أصحاب المقالاتبلغاتهم ، فإذا قطعت كلّ صنف ، ودحضت حجّته ، وترك مقالته ، ورجع إليّ قولي ، علمالمأمون أنّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له ، فعند ذلك تكون الندامة منه ،ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم ) .
فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بنسهل ، فقال له : جعلت فداك ابن عمّك ينتظرك ، وقد اجتمع القوم ، فما رأيك في إتيانه؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( تقدمني فإنّي صائر إلى ناحيتكم إن شاءالله ) ، ثمّ توضأ ( عليه السلام ) وضوء الصلاة ، وشرب شربة سويق وسقانا منه ، ثمّخرج وخرجنا معه حتّى دخلنا على المأمون ، فإذا المجلس غاص بأهله ، ومحمّد بن جعفرفي جماعة الطالبيين والهاشميين والقوّاد حضور .
فلمّا دخل الرضا ( عليهالسلام ) قام المأمون ، وقام محمّد بن جعفر ، وقام جميع بني هاشم ، فما زالواوقوفاً والرضا ( عليه السلام ) جالس مع المأمون ، حتّى أمرهم بالجلوس فجلسوا ، فلميزل المأمون مقبلاً عليه يحدّثه ساعة ، ثمّ التفت إلى الجاثليق ، فقال : يا جاثليقهذا ابن عمّي علي بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا ، وابن علي بن أبيطالب ( عليهم السلام ) ، فأحب أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه .
فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين كيف أُحاجُّ رجلاً يحتجّ عليّ بكتاب أنا منكره ، ونبيّ لا أؤمن به؟
فقال له الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( يا نصرانيّ فإن احتججت عليكبإنجيلك أتقرّ به ؟! ) .
قال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله أقرّ به على رغم أنفي .
فقال له الرضا ( عليه السلام ) : ( سلعمّا بدا لك وافهم الجواب ) .
قال الجاثليق : ما تقول في نبوّة عيسى ( عليهالسلام ) وكتابه ؟ هل تنكر منهما شيئاً ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( أنامقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أُمته ، وأقرّ به الحواريون ، وكافر بنبوّة كلعيسي لم يقرَّ بنبوة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) وبكتابه ، ولم يبشّر به أُمّته ) .
قال الجاثليق : أليس إنّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل ؟ قال : ( بلى ) .
قال : فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد ، ممّن لا تنكرهالنصرانية ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( الآن جئت بالنصفة يا نصراني ، ألا تقبل منّي العدل المقدّم عند المسيح عيسى بنمريم ؟ ) .
قال الجاثليق : ومن هذا العدل ؟ سمه لي ؟ قال ( عليه السلام ) : ( ما تقول في يوحنا الديلمي ؟ ) .
قال : بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح .
قال ( عليه السلام ) : ( فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنا قال : إنّالمسيح أخبرني بدين محمّد العربي ، وبشّرني به إنّه يكون من بعده ، فبشّرت بهالحواريين فآمنوا به ؟! ) .
قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيحوبشّر بنبوّة رجل وبأهل بيته ووصيّه ، ولم يلخّص متى يكون ذلك ، ولم يسمّ لنا القومفنعرفهم .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلاعليك ذكر محمّد وأهل بيته وأُمّته أتؤمن به ؟ ) .
قال : شديداً ، قال الرضا ( عليه السلام ) لقسطاس الرومي : ( كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل ) ؟
قال : ما احفظني له ، ثمّ التفت إلى رأس الجالوت فقال له : ( ألست تقرأالإنجيل ؟! ) ، قال : بلى لعمري .
قال ( عليه السلام ) : ( فخذ على السفرالثالث ، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأُمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي ، وإنلم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي ) .
ثمّ قرأ ( عليه السلام ) السفر الثالثحتّى إذا بلغ ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقف ، ثمّ قال : ( يا نصراني إنّيأسألك بحق المسيح وأُمّه أتعلم أنّي عالم بالإنجيل ؟ ) قال : نعم ، ثمّ تلا عليناذكر محمّد وأهل بيته وأُمته ، ثمّ قال : ( ما تقول يا نصراني ؟ هذا قول عيسى بنمريم ، فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى وموسى ( عليهما السلام ) ، ومتىأنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل ، لأنّك تكون قد كفرت بربّك وبنبيّك وبكتابك ) .
قال الجاثليق : لا أُنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإنّي لمقرّ به .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( اشهدوا على إقراره ) ، ثمّ قال : ( ياجاثليق ، سل عمّا بدا لك ) .
قال الجاثليق : اخبرني عن حواري عيسى بن مريمكم كان عدّتهم ، وعن علماء الإنجيل كم كانوا ؟
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( على الخبير سقطت ، أمّا الحواريون فكانوا أثنى عشر رجلاً ، وكان أفضلهم وأعلمهملوقا .
وأمّا علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنّا الأكبر بأج ،ويوحنّا بقرقيسيا ، ويوحنّا الديلمي بزجان ، وعنده كان ذكر النبي ( صلى الله عليهوآله ) ، وذكر أهل بيته وأُمّته ، وهو الذي بشّر أُمّة عيسى وبني إسرائيل به ) .
ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمنبمحمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، وما ننقم على عيساكم شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامهوصلاته ) .
قال الجاثليق : أفسدت والله علمك وضعّفت أمرك ، وما كنت ظننتإلاّ أنّك أعلم أهل الإسلام ، قال الرضا ( عليه السلام ) : ( وكيف ذلك ؟ ) .
قال الجاثليق : من قولك : إنّ عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قطّ ، ولا نام بليل قطّ ، وما زال صائم الدهر ، قائم الليل .
قال الرضا ( عليه السلام ) : ( فلمن كان يصوم ويصلّي ؟ ) ، قال : فخرسالجاثليق وانقطع .
ثمّ أنّ الإمام الرضا ( عليه السلام ) بدأ يسأل النصرانيمسائل ، ولم يكن للنصراني جواباً ، فيجيبه الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، إلى أنقال الجاثليق : أمّا هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن ، وقد بان لي من فضل علمكبالإنجيل ، وسمعت أشياء ممّا علمته ، شهد قلبي أنّها حقّ ، فاستزدت كثيراً من الفهم .
وهكذا أخذ الإمام الرضا ( عليه السلام ) يسأل من رأس الجالوت والهربذالأكبر وغيرهما ، ولم يكن عندهم جواباً مقنعاً .