الإمامة والولاية
من أهم الفروق بيننا وبين غيرنا قولنا بإمامة أئمة منصوبين من قبل الله عزّ وجلّ وعدم قبول غيرنا بذلك، بل لعله الفارق الأساسي الذي منه تفرّعت بقية الاختلافات باعتبار أخذنا لأحكامنا عن طريق الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وأخذ الغير لأحكامه من طرق أخرى.
المسألة مفصلة ومبحوث عنها بتفصيل في كتب ضخمة، لكنا نقتصر هنا على شيء موجز نرجو أن ينتفع به من أراد الله نفعه.
يقول سبحانه مخاطباً الملائكة: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(1).
ويقول سبحانه مخاطباً داود (عليه السلام): (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ)(2).
ويقول سبحانه مخاطباً إبراهيم (عليه السلام): (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)(3).
ويقول سبحانه: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا)(4).
لاحظ كلمة الجعل المتكررة في الآيات الكريمة، فإنها نص في أن الخلافة منصب يجعله الله سبحانه لمن يشاء من خلقه وأن الإمامة منصب يعطيه الله تعالى من يراه أهلاً لذلك. فالإمامة والخلافة ليستا مجرد سيطرة شخص على مقاليد الأمور وجلوسه على الكرسي ثم إصدار الأمر والنهي.
إنهما رتبة مجعولة من الشرع، وتعني أن لصاحب هذه الرتبة ولاية على الناس باعتباره إمامهم ويجب على المأمورين اتباعه.
لو قال شخص للناس أنا أبوكم، هل يكون له منصب الأبوة ورتبتها، وهل يكون ولياً كالأب؟ قطعاً لا، فالأبوة واقع حقيقي لا مجرد ادعاء.
كذلك الإمامة والولاية واقع، وليستا مجرد سيطرة شخص، سواء أكانت سيطرته بالقوة أو بالانتخاب أو بأي شكل آخر.
ومعنى الواقع أنه حقاً ولي بجعل من له الجعل وهو الشارع المقدس فيمكنه أن يتصرف في نفوس الناس وأموالهم حسب ما يراه صالحاً، كل ذلك لأنه ولي أمرهم، أما غيره فليس ولياً ليتصرف.
يقول سبحانه: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (5).
الخطاب مع المؤمنين، وهل يصح أن يقول: أيها المؤمنون إن المؤمنين أولياؤكم؟ ثم هذه الولاية المجعولة للذين آمنوا مساوقة لولاية الله ورسوله لأنها في نفس السياق، وأي مؤمن له هذه الولاية؟ لابدّ أنه فرد مخصوص جاءت الآية معينة لهذا الفرد ألا وهو ذلك الشخص الذي أقام صلاته وأتى زكاته وهو راكع فمن هو؟
لم يدع هذا الأمر إلا لأمير المؤمنين صلوات الله عليه، وبذلك نطقت روايات الشيعة والسنة، لاحظ تفاسير الفريقين.
قد تجد في التفاسير الأخرى من يقول: قيل نزلت في فلان وقيل في فلان، لكنه مجرد قيل، عار عن الدليل، فما قيمته، إنما القيمة للرواية المسندة المعنعنة.
ثم أي شخص تدعى له الولاية ـ غير أمير المؤمنين ـ فالادعاء له مرفوض بالإجماع، إذ لم تقم له إلا حكومة وسيطرة أما بالقوة أو بالانتخاب من الناس، وهذا ليس ولاية شرعية، ألا ترى أنه لو انتخب الناس شخصاً ليكون ولي أمورهم فإنه لا يكون كذلك حقاً إلا بموافقة الشرع له؟ لذا يمكنهم ويحق لهم عزله ولو كان ولياً شرعياً لما صح لهم ذلك.
روت الصحاح حديث المنزلة وهو نص في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وإليك الحديث:
(...) حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا غندر عن شعبة، ح وحدّثنا محمد بن المثنّى وابن بشّار، قالا: حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم، سمعت إبراهيم بن سعد عن سعد، عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، أنّه قال لعلي: (أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى).
صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة
44- كتاب فضائل الصحابة، باب 4، حديث 30-31
30- (2404) حدّثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو جعفر، محمد بن الصباح وعبيد الله القواريري وسريج بن يونس، كلهم عن يوسف بن الماجشون (واللفظ لابن الصباح)، حدّثنا يوسف، أبو سلمة الماجشون، حدثنا محمد بن المنكدر عن سعيد بن المسيب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي).
قال سعيد: فأحببت أن أشافه بها سعداً، فلقيت سعداً، فحدّثته بما حدثني عامر، فقال: أنا سمعته فقلت: أأنت سمعته؟ فوضع إصبعيه على إذنيه فقال: نعم، وإلا فاستكّتا.
31- (...) وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا غندر عن شعبة، ح وحدّثنا محمد بن المثنّى وابن بشّار، قالا: حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة عن الحكم، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: خلّف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب، في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخلّفني في النساء والصبيان؟ فقال: (أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي).
32- (...) حدّثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد (وتقاربا في اللفظ) قالا: حدّثنا حاتم (وهو ابن إسماعيل) عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم. سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول له، خلّفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوّة بعدي) وسمعته يقول يوم خيبر: (لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله) قال فتطاولنا لها فقال: (ادعوا لي عليّاً) فأتي به أرمد، فبصق في عينه ودفع الرّاية إليه، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ)(6) دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: (اللهم هؤلاء أهلي).
ولننظر الآن منزلة هارون من موسى في القرآن الكريم:
يقول تعالى عن لسان موسى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) الخ...
يقول تعالى رداً عليه: (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى)(7).
إذن جعل الله تعالى هارون وزيراً لموسى، وشد به أزره، وأشركه في أمره، بالإضافة إلى نبوته وأخوته.
وقد أعطى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأمر الله عزّ وجلّ ـ لأنه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) ـ أعطى كل هذه المناصب لأمير المؤمنين واستثنى منها النبوة فعلي (عليه السلام) وزير رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأخوه، وشريكه في أمره أؤكد على كلمة (وشريكه في أمره) ومعنى الشراكة في الأمر أن تبليغ أمر الوحي راجع إليهما، فهما المبلغان للدين والوحي، بمنزلة الشخص الواحد. وهذا بالضبط ما يعطيه قوله تعالى: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) حيث دعا الرسول: (الزهراء والحسنين وأمير المؤمنين)، فالأبناء: الحسنان، والنساء، الزهراء، والأنفس: أمير المؤمنين ولو لم يكن هو المقصود لكان إخراجه معه بلا مبرر وبلا تطبيق للآية.
روى أحمد بن حنبل بالسند الصحيح في مسنده قوله (صلّى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فعلي مولاه) ومعلوم أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مولى كل الخلق، إذن فأمير المؤمنين مولى كل الخلق.
والمفهوم من المولى هنا الولاية والأولوية بهم منهم أنفسهم. وهل يحق لأحد أن يتقدم على مولاه، هل يجوز لأحد أن يتقدم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، طبعاً لا يجوز. فإذن لا يجوز ذلك بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السلام).
روى البخاري ومسلم أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: يكون اثنا عشر أميراً كلهم من قريش وهذا نص ما روياه:
بابٌ
حدّثني محمد بن المثنّى حدّثنا غندر حدّثنا شعبة عن عبد الملك سمعت جابر بن سمرة قال سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: يكون اثنا عشر أميراً فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي إنه قال: كلّهم من قريش.
هذا ما رواه البخاري كتاب الأحكام، ج1، ص101.
أما ما رواه مسلم فهو بعدة أسانيد هي:
33- كتاب الأمارة، باب1، حديث (4-6)
4- (1820) وحدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدّثنا عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه، قال: قال عبد الله: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي من الناس اثنان).
5- (1821) حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا جرير عن حصين، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: ح وحدّثنا رفاعة بن الهيثم الواسطي (واللفظ له) حدّثنا خالد (يعني ابن عبد الله الطحّان) عن حصين، عن جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي على النبي (صلّى الله عليه وآله) فسمعته يقول: (إنما هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فهيم اثنا عشر خليفة) قال: ثم تكلّم بكلام خفي عليّ، قال فقلت لأبي: ما قال؟ قال: (كلّهم من قريش).
6- (...) حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن جبار بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً) ثمّ تكلّم النبي (صلّى الله عليه وآله) بكلمة خفيت عليّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فقال: كلّهم من قريش.
33- كتاب الأمارة، باب1، حديث (6-10) حديث
(...) وحدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة، عن النبي (صلّى الله عليه وآله). بهذا الحديث. ولم يذكر (لا يزال أمر الناس ماضياً).
7- (...) حدثنا هدّاب بن خالد الأزدي. حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثنى عشر خليفة ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: (كلّهم من قريش).
8- (...) حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا أبو معاوية عن داود، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة.
قال: قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى أثنى عشر خليفة). قال: ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه. فقلت لأبي: ما قال؟ (كلّهم من قريش).
9- (...) حدّثنا نصر بن علي الجهضمي، حدّثنا يزيد بن زريع حدّثنا ابن عون، ح وحدّثنا أحمد بن عثمان النوفلي (واللفظ له) حدّثنا أزهر، حدّثنا ابن عون عن الشعبي، عن جابر بن سمرة. قلا: انطلقت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعي أبي. فسمعته يقول: (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثنى عشر خليفة) فقال كلمة صمّنيها(8) الناس. فقلت لأبي: ما قال؟ قال: (كلّهم من قريش).
10- (1822) حدّثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة. قالا: حدّثنا حاتم (وهو ابن إسماعيل) عن المهاجر بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال: كتبت إلى جابر بن سمرة، مع غلامي نافع:
أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: فكتب إليّ: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يوم جمعة، عشيّة رجم الأسلمي، يقول: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش) وسمعته يقول: (عصيبة(9) من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض).
وهذا الحديث المعتبر السند نص في إمامة اثنى عشر شخصاً بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمن هم؟ وهل ذكرت أسماء معينة بهذا الصدد لأشخاص؟ نعم، ذكرت الأسماء المباركة للائمة الاثني عشر وهم :
1- أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .
2- الحسن بن علي .
3- الحسين بن علي .
4- علي بن الحسين .
5- محمد بن علي .
6- جعفر بن محمد .
7- موسى بن جعفر .
8- علي بن موسى .
9- محمد بن علي .
10- علي بن محمد .
11- الحسن بن علي .
12 الحجة المهدي المنتظر بن الحسن. عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
هؤلاء هم الأئمة الذين اعتقدنا بهم وبإمامتهم ولم يدع أحد إمامة شرعية منصوصة من قبل الله عزّ وجلّ ـ لغيرهم، فتعينت فيهم (عليهم السلام). روت كتب الصحاح عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قوله: إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. لاحظ أنه (صلّى الله عليه وآله) جعل أهل بيته عدلاً للكتاب، ولم يجعل غيرهم. يكفي هذا والتفصيل في الكتب المطولة.
ــــــــــــــــــ
* مقتبس من کتاب ( بعض المسائل الخلافية المعروفة ) للسيد عبدالله العلوي .
1- سورة البقرة: الآية 30.
2- سورة ص: الآية 26.
3- سورة البقرة: الآية 124.
4- سورة السجدة: الآية 24.
5- سورة المائدة: الآية 55.
6- سورة النساء: الآية 61.
7- سورة طه: الآية 36.
8- صمّنيها: أي أصمّوني عنها فلم أسمعها لكثرة الكلام. قال في المصباح: لا يستعمل الثلاثي متعدياً. ونقل ابن الأثير، في النهاية، الحديث هكذا: أصمّنيها الناس أي شغلوني عن سماعها، فكأنهم جعلوني أصم.
9- عصيبة: تصغير عصبة، وهي الجماعة، أي جماعة قليلة من المسلمين.