وقبل أن يكون الاعتراض حقاً طبيعياً للإنسان، فهو طبيعة سرت بحقٍّ في فطرة الإنسان. وإنّ الحزن الجميل الناتج عن الاعتراض المقدّس الذي أعطى الله حقه للإنسان، منشأ لعروج الروح إلى المبدأ الأعلى.
إنّ الاعتراض وليد روح الإنسان الطالبة للكمال في هذه الدنيا. فلا يمكن أن تودع أمنية القرب في فطرة الإنسان، وفي الوقت ذاته لا يشعر هذا الإنسان في قرارة نفسه بالجزع والرغبة عن النقائص والعيوب أو حتى الفرار والنفور منها. فإنّ الانتظار علامة العقلانية. وفي هذا الخضم تُطرح الأبعاد العرفانية للانتظار شيئاً فشيئاً وسنخوض هذا البحث في فصل مستقل.
وبإمكان الاعتراض أن يشمل حقاً مسلوباً، أو محبوباً مستوراً. فحيثما يُسلب حقٌ من الإنسان، يستطيع أن يصرخ وينحب؛ وحيثما يُحجب محبوب عنه، يستطيع أن يُجري دموعه ويحترق بهدوء كالشمع حتى الزوال والاضمحلال. فالاعتراض النابع عن عشق على الهجران، سيرة عرفانية لجميع المنتظرين للوصال.

خصائص الاعتراض في انتظار الموعود

إذا ما أمعنّا النظر حول عنصر الاعتراض فيما يخصّ انتظار فرج المهدي الموعود (عج)، لوصلنا إلى نقاط جديدة. والنقطة المهمة في ذلك هو جواز هذا الاعتراض. أي على الرغم من أنّ الغيبة تقدير إلهي، ولكن يمكننا الاعتراض عليها. ولهذا الدليل علّمونا في دعاء الافتتاح وكذا في الدعاء الوارد في زمن الغيبة أن نشكو إلى الله غيبة وليّنا ونعترض على ذلك: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْکُو إِلَیْكَ فَقْدَ نَبِیِّنَا وَغَیْبَةَ وَلِیِّنَا»، وقرنوا هذا الاعتراض باعتراض آخر: «وَکَثْرَةَ عَدُوِّنَا وَقِلَّةَ عَدَدِنَا»[1] للتصعيد من شدّته.
وقد تكون واحدة من حِكَم هذه الغيبة، هي تبلور هذا الاعتراض المقدّس ليتأهلّ الناس ولاسيما المسلمون والشيعة لإدراك حضوره وظهوره. كما أنّ من حقّنا الحياة في ظلّ نور إمام معصوم؛ الحقّ الذي سُلب عنّا بسبب ظلم الظالمين عبر التاريخ. ومن الفضل أن نرغب في الحضور إلى جانبه والاعتراض على غيبته. وتارة ما نجد أئمتنا، رغم أنهم كانوا أئمة ولم يكونوا مضطرّين كما هو حالنا، يندبون ويبكون على غيبة الوصيّ الخاتم بحزن وحرقة قلب، مما يثير دهشة الحاضرين وحيرتهم.
فعلى سبيل المثال، يقول الإمام الصادق (ع) في مناجاة له مع الإمام المهدي (عج) وهو لم يولد بعد، بحزن واكتئاب: «سَیِّدِي غَیْبَتُكَ‏ نَفَتْ‏ رُقَادِي»[2].
وهذا أخو رسول الله (ص) وأمير المؤمنين، علي بن أبي طالب (ع) يتأوّه شوقاً لرؤية المهدي (عج)، وذلك عندما سأله رجل عنه، فبيّن له صفاته، ثم أومأ بيده إلى صدره الشريف قائلاً: «هَاهْ، شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِ»[3].
والاعتراض على الغيبة، يتبعه انتظار الظهور؛ وكلّما كان هذا الاعتراض أكثر عمقاً، كان ذلك الانتظار أكثر دقّة، وقلب المنتظر أكثر رقّة. ودعاء الندبة زاخر بالاعتراض على الأوضاع السيئة التي نعيشها. حتى أنه يشير إلى قتل الأنبياء وأولاد الأنبياء ويصرّح بقتل أبي عبد الله الحسين (ع) في كربلاء. وفي اعتراضه على شهادة الإمام الحسين (ع) أيضاً لم يستخدم كلمة «الشهادة» التي تشير إلى الجانب الإيجابي من واقعة كربلاء، وإنما استخدم كلمة «المقتول» منادياً الطالب بدمه: «أَیْنَ الطَّالِبُ بِدَمِ الْمَقْتُولِ بِکَرْبَلاءَ؟»[4]
ولابد من الرجوع إلى فهرس اعتراضات دعاء الندبة وزرعها في القلب بأسرها. ولابد من غرس مغرس من الاعتراض على أنواع آثار غيبة الإمام في القلوب وسقيها بدموع العين، ليتأتى جني ثمار الانتظار قدر المستطاع. وإذا ما نظرنا إلى اعتراضات فاطمة الزهراء (س) بين بكائها على فراق النبي الأعظم (ص)، لتساءلنا بحيرة مِمَّ شكواها؟ من انقطاع الوحي قائلة بلسان حالها «أبتاه! لقد انقطع برحيلك الوحي وامتنعت الآيات القرآنية عن النزول» أو من فقدان معلّم الوحي الكبير «أين معلّم كتاب الله ومبيّن وحيه؟»[5]
وكم له من الأهمية والقيمة أن يصل الإنسان إلى هذا المقام بأن يعترض حالياً على غيبة مفسّر القرآن ومحيي معالم الدين، ليكون لانتظاره معنى ويدخل في زمرة المنتظرين الحقيقيين. فعندما نقول في دعاء الندبة: «أَیْنَ مُحْیِي مَعَالِمِ الدِّینِ وَأَهْلِه؟»[6] لابد من القول: «أين من هو أهل لمثل هذا التمني؟» ولا نقول: كيف يمكننا أن نكون «منتظرين» حقيقيين؟ بل لنقل: كيف يمكننا أن نكون «معترضين» حقيقيين؟
فلابد من إحياء الاعتراض في القلب من أجل إيجاد انتظار الفرج؛ ولابد أيضاً من البحث عن مزيد من الأدلة لتعزيز هذا الاعتراض. فالراضين بالوضع الموجود الذي يعيشونه من دون حضور الإمام أو الذين لم يتجاوز اعتراضهم عن متطلباتهم الشخصية الضئيلة، لا يُعتَبرون من المنتظرين للموعود بلا ريب. ولا يقتصر عدم اعتراض هؤلاء على أنّ الناس لا يعرفون الله أو أنهم رازحون تحت وطأة الطواغيت، بل إنهم لا يعترضون حتى على حرمانهم من مواهب العالم اللامتناهية.
ولو فُقِد الاعتراض، لا يتبلور انتظار الفرج أيضاً؛ وعلى أساس أنّ للخلائق ما هو لائق، وكذا بالاستناد إلى بعض القوانين المسنونة والمستورة في العالم، لابد أن نقلق على تدهور الأوضاع أيضاً؛ لأن الرضا بالداني والقليل، يوجب سقوط الإنسان إلى أدنى مراتب عالم الوجود. فإن حركة الإنسان في هذه الدنيا إما صعودية أو سقوطية، وهذه من الخصائص الذاتية لحياة الإنسان في هذا العالم. إما حيّ متكامل، أو ميّت متسافل، ولا سبيل بينهما.

يتبع إن شاء الله...


[1]. الدعاء الوارد في زمن الغيبة عن الإمام الحجة (ع) نقلاً عن سفيره الأول؛ کمال الدین وتمام النعمة، ج2، ص514. وكذلك مقطع من دعاء الافتتاح: مفاتیح الجنان، أعمال شهر رمضان المبارك، وتهذیب الاحکام، ج3، ص110. وأيضاً في الدعاء الوارد في قنوت الركعة الأخيرة من صلاة الليل (صلاة الوتر): الأمالي للشیخ الطوسي، ص432.
[2]. کمال الدین وتمام النعمة، ج‏2، ص353: «عَنْ سَدِیرٍ الصَّیْرَفِيِّ قَالَ:‏ دَخَلْتُ أَنَا وَالْمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَصِیرٍ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ عَلَی مَوْلَانَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (ع). فَرَأَیْنَاهُ جَالِساً عَلَی التُّرَابِ وَعَلَیْهِ مِسْحٌ خَیْبَرِیٌّ مُطَوَّقٌ بِلَا جَیْبٍ، مُقَصَّرُ الْکُمَّیْنِ، وَهُوَ یَبْکِي بُکَاءَ الْوَالِهِ الثَّکْلَی، ذَاتَ الْکَبِدِ الْحَرَّی، قَدْ نَالَ الْحُزْنُ مِنْ وَجْنَتَیْهِ،
وَشَاعَ التَّغَیُّرُ فِي عَارِضَیْهِ وَأَبْلَی الدُّمُوعُ مَحْجِرَیْهِ وَهُوَ یَقُولُ: «سَیِّدِي غَیْبَتُكَ نَفَتْ رُقَادِي وَضَیَّقَتْ عَلَيَّ مِهَادِي وَأَسَرَتْ مِنِّي رَاحَةَ فُؤَادِي، سَیِّدِي غَیْبَتُكَ أَوْصَلَتْ مُصَابِي بِفَجَائِعِ الْأَبَدِ وَفَقْدُ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ یُفْنِي الْجَمْعَ وَالْعَدَدَ....»
[3]. «...ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صِفَةِ الْمَهْدِيِّ (ع) فَقَالَ: أَوْسَعُكُمْ كَهْفاً وَأَكْثَرُكُمْ عِلْماً وَأَوْصَلُكُمْ رَحِماً ... هَاهْ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ - شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِ.» الغیبة للنعماني، ص212.
[4]. مفاتیح الجنان، دعاء الندبة. وأيضاً: إقبال الأعمال للسید ابن طاووس، ص297.
[5]. قال النبي (ص) في ابنته فاطمة (س): «فَلَا تَزَالُ بَعْدِي مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً بَاكِيَةً؛ تَتَذَكَّرُ انْقِطَاعَ الْوَحْيِ عَنْ بَيْتِهَا مَرَّةً، وَتَتَذَكَّرُ فِرَاقِي أُخْرَى» الأمالي للصدوق، ص112.
[6]. مفاتیح الجنان، دعاء الندبة. وكذلك إقبال الأعمال للسید بن طاووس، ص297.