جابر حبيب جابر
عندما احتلت بريطانيا مصر عام 1882، وكان ذلك جزءا من استراتيجيتها الكونية لتأمين ممرها البحري إلى الهند وشرق آسيا، سرى جدل حول سعي بريطانيا إلى الاستحواذ على مصر بشكل كامل، وقد رد رئيس الوزراء البريطاني آنذاك اللورد بالمرسترون على ذلك بالقول: «نحن لا نريد مصر، أو لا نريدها لأنفسنا، مثلما لا يريد أي رجل عاقل له ضيعة في شمال إنجلترا وقصر في جنوبها أن يمتلك النزل والحانات الواقعة على الطريق بينهما. كل ما بوسعه أن يرغب به هو أن تظل تلك الحانات بحالة جيدة متاحة دائما وتمده، كلما أتاها، بوجبة من شرائح اللحم الضأن والجياد المجهزة».وفي الحقيقة أن هذه المقولة تبدو مهمة اليوم لنفهم بشكل أعمق استراتيجية القوى الكبرى وسياساتها ومفهومها الجيوسياسي في الحفاظ على تفوقها، والأهمية تنبع من انفتاح الوضع العربي على أكثر من تدخل غربي يصل، كما في الحال مع القضية الليبية، إلى حد استخدام القوة العسكرية، في وقت تبدو معه مفاهيمنا المبسطة حول سعي الغرب إلى السيطرة على النفط غير قادرة على مجاراة ما يحصل، أولا: لأنه يبدو، في حالات كثيرة، أن هنالك سعيا نحو الغرب من قبل الكثيرين أكثر من سعي الغرب إلينا، وثانيا: لأن مقولة الهيمنة الغربية على النفط لا تصمد أمام حقيقة أن هذا النفط متاح للقوى الغربية، سواء بقي القذافي أو رحل، بل إن الأخير في وضعه الضعيف الراهن مستعد لأن يقدم للدول الغربية شروطا غير مسبوقة على صعيد السياسة النفطية إن تم تركه في سدة الحكم. الشيء نفسه ينسحب على وضع النظام العراقي قبل سقوطه عام 2003، وفي الحقيقة أن التبسيطيين من الذين روجوا إلى هدف السيطرة المباشرة على النفط يواجهون اليوم مشكلة حقيقية في فهم ما يحصل، خصوصا أن التغيرات الأخيرة وضعت حدا للقاموس القديم القائم على ثنائية الغرب الشرير والشعوب الطامحة إلى الاستقلال؛ فالأوراق اختلطت كثيرا وباتت بعض هذه الشعوب تستنجد بالغرب الشرير وباتت ثنائية الأمس عاجزة عن أن تصمد أمام وقائع اليوم.مع ذلك لا بد من القول: إنه على الجانب الآخر كان هنالك تبسيطيون من نوع مختلف، مسكونون بعقدة التفوق الغربي ويعتقدون أن الغرب يتدخل في منطقتنا بوحي من مُثل راقية وأهداف نبيلة، وهم بدورهم يواجهون اليوم بإشكالية الازدواجية الغربية تجاه الاحتجاجات والانتفاضات في منطقتنا بين مواقف غربية حازمة أحيانا، ومتخاذلة في أحيان أخرى، ومن الواضح أن الغرب يقيم موقفه من الحركات الشعبية بحسب مصالحه الاستراتيجية فيسكت عن القمع في مكان ما ويندد به في مكان آخر. لا جديد في ذلك، غير أنه يبرهن مرة أخرى على أن واقع السياسة أعقد بكثير من التقويمات المبسطة للأمور، وأن المنطقة بحاجة إلى قاموس جديد أكثر واقعية في فهم ما يحصل والتخلص من خلط التحليل بالشعارات.مؤخرا، أظهرت تسريبات لوثائق بريطانية أن الحكومة البريطانية عقدت اجتماعات مع ممثلين لشركتي «بريتيش بتروليوم» و«شيل» تم التداول فيها بشأن النفط في العراق قبيل الحرب عام 2003، واستشف البعض من ذلك أنه تأكيد على أن مجمل الحرب كان حول النفط والسيطرة عليه بالمعنى التبسيطي. غير أن مثل هذا التفسير يرد عليه البعض ليس فقط بالحجم الهائل مما أنفقه الأميركيون والبريطانيون، الذي يفوق ما يمكن أن يوفره النفط العراقي للدولتين بافتراض أنهما وضعتا اليد عليه، لكن الأهم من ذلك هو أن وقائع ما بعد 2003 تشير إلى حقائق مهمة يميل البعض إلى تجاهلها، من بينها: أن موضوع الاستثمار النفطي في العراق ظل مؤجلا حتى خمس سنوات بعد الاحتلال، وأن أول العقود النفطية التي تم توقيعها انتظرت حتى عام 2008، ابتداء من إعادة تفعيل اتفاقية مع شركة البترول الوطنية الصينية لاستغلال حقل الأحدب كان نظام صدام قد وقعها، واللافت أن الاتفاقية قد عدلت بحيث تم تقليص الأرباح التي كانت مقررة إلى الشركة في الاتفاق الأصلي. وفي عام 2009 تم توقيع 11 عقدا جديدا، جميعها جاءت بشروط أفضل للدولة العراقية ووفق اتفاقات خدمة لا شراكة في الملكية والعقود شملت شركات صينية وتركية وروسية ويابانية وإيطالية وكورية وماليزية وبريطانية وكندية وأميركية وفرنسية، مما يوضح أنه إذا كانت الحكومتان البريطانية والأميركية قد شنتا الحرب للحصول على النفط لشركاتهما فإنهما قد فشلتا في ذلك بوضوح. وبموجب العقود يحتفظ العراق بـ50% من الأسهم وبالسيطرة على البنية التحتية والمبيعات، وهامش الربح الذي حصلت عليه الشركات يقل عمَّا تحصل عليه في بلدان أخرى.لأول مرة بتاريخ العراق جرى توقيع العقود بشكل معلن وجرت العطاءات أمام كاميرات التلفزيون ولم تعد سرا من أسرار الأمن القومي، كما أن قانون النفط والغاز الذي ضغط الأميركيون باتجاه توقيعه والاتفاق خلاله على طريقة توزيع العائدات بين المركز والأقاليم لم يمرر حتى الآن بسبب خلافات الكتل البرلمانية وخشية البعض من تمرير منافع معينة للشركات الأجنبية، بمعنى أن السياسة النفطية في العراق بعد الاحتلال أصبحت أكثر شفافية وديمقراطية وتشددا من ناحية الشروط، وهو ما يناقض أيضا الأطروحة المبسطة حول السعي الأنغلو - أميركي للسيطرة على النفط. بالطبع هنالك عدم كفاءة واضحة في إدارة عوائد النفط وإرهاب يستهدف الأنابيب والبنية التحتية، مما أثر طويلا على إمكانات العراق التصديرية، لكنها قضايا لا تتعلق بصلب موضوع المقالة وربما نفرز لها مقالة أخرى.لكن هل غاب النفط عن ذهن صانعي القرار الغربيين؟ بالقطع لا، بل إنه كان وسيكون دائما حاضرا في تقرير الاستراتيجية الغربية بمنطقتنا، ولكن بطريقة تتجاوز التفسير التبسيطي القائل إنهم هنا ليأخذوا نفطنا. لقد كان بإمكانهم أن يسيطروا على آبار النفط فعلا، بل إن هنالك اتجاها يمينيا متشددا داخل إدارة بوش طالب بذلك، لكنه أمر لم يحدث ولن يحدث؛ لأن الزمن تغير والسياسات الإمبريالية التقليدية باتت غير ممكنة. إن حضور النفط مرتبط برؤية استراتيجية أميركية أساسية تقوم على مبدأين، الأول: أن يستمر تدفق النفط بسلاسة ومن دون انقطاع وبأسعار قابلة للاحتمال من الشرق الأوسط إلى الأسواق الغربية. والثاني: ألا تسيطر أي قوة عالمية أو إقليمية معادية على مصادر النفط أو على جزء كبير منها. هذان المبدآن يحكمان البعد النفطي للسياسة الأميركية إلى حد لا يتطلب معه أن تسيطر أميركا على كل الحقول والأنابيب والتسهيلات والموانئ في المنطقة من أجل أن تصل مقصدها، كما هو الحال مع البريطاني الذي لم يحتج السيطرة على كل الحانات في الطريق ليضمن مرورا سهلا.