في ظل حالة الهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون، وولعهم بتقليد الغرب في جميع شؤونهم وتشبههم بهم، وهي الحالة التي عبر عنها مالك بن نبي بقابلية الشعوب للاستعمار؛ حتى ولو لم تحتل الأرض أو تستعمر من قبل الغرب، نحتاج لتذكير المسلمين بما كانوا عليه من رفعة وعزة يوم كانوا مستمسكين بدينهم، في المقابل فإن عدوهم هو الذي كان حريصا على تقليدهم والتشبه بهم، وخلال هذه المقال نقتطف نماذج لحرص الغرب على تقليد المسلمين، لندرك هذا البون الشاسع بين ما كنا عليه يوم تمسكنا بالإسلام، وما صرنا إليه عندما فرطنا في ديننا.
اللغة العربية:
كان الشباب الأوروبي، من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكل هذه البلاد في فترات مجد المسلمين، يأتون إلى الأندلس؛ ليتلقوا العلم على أيدي العلماء المسلمين، وكانت لغة العلم هي اللغة العربية، فكان لزاماً على كل طالب يريد أن يتلقى العلم الحديث، وأحدث ما وصل إليه العلم أن يتعلم أولاً اللغة العربية، فكان الشاب الغربي إذا رجع إلى بلاده يفتخر أمام أقرانه بأنه درس في بلاد المسلمين، ويعتبر هذا من مظاهر المفاخرة العظيمة، فكان يخلط كلامه أحياناً بألفاظ عربية، ثم يعود يتكلم بلغته القومية، الأمر الذي استفز الكنيسة ودفعها لتهديدهم بالحرمان من الجنة! وقالت لهم: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يذهبون إلى بلاد المسلمين ثم يعودون إلى بلادهم فيبدءون كلامهم باللغة العربية، ثم يتكلمون بلغتهم القومية -يعني: أنهم يفعلون ذلك كي يعرف الناس أنهم تعلموا في بلاد المسلمين- هؤلاء الشبان الرقعاء إن لم يكفوا عن ذلك فسوف تصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان من الجنة! وهذا لا شك أنه مظهر من مظاهر علو همة المسلمين، وكيف أنهم لما كانت لهم الغلبة كان الجميع يتشبهون بهم.(1).
كما أنه هذه الحالة للشباب المسيحيين في أوروبا دفعت القسَّ القُرْطُبي (الفارو القرطبي Alvaro de cordoba) أن يُصْدِرَ آهاتِـه في وثيقة كتبها سنة 240هـ (854م)، يَـنْـعَـى فيها ذلك على النصارى، سَمَّى تلك الوثيقة اللاتينية «الدليل المنير» Indiculus Luminosus، قائلا فيها: "يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين تجد اليوم عالمًا مسيحيًا يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟"
وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟
واأسفاه!
إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية، فهم يقرؤون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون في كلّ مكان بمدح تراث العرب.
وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم!
فواحرّ قلباه!
لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية، فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل قد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم ".(2)
بل إن الكتابات الرسمية قد كتبت باللغة العربية، فعندما زار ابن جبير عكا مع قافلة مسلمة شاهد كتاب الديوان (الجمرك) الصليبيين وهم يكتبون باللغة العربية ويتكلمون بها. (الأوضاع الحضارية في الشام في عصر الحروب الصليبية).(3)
الملابس والزي:
لم يقتصر الأمر على مجرد اللغة العربية فحسب، بل حرص الشبان المسيحيون على ارتداء الأزياء التي تميز المسلمين وقلدوهم في عاداتهم، حتى إن أحد الأساقفة الصليبيين والذي بعث إلى عكا قد أرسل إلى البابا في روما اشتكى فيها تشبه النصارى الصليبيين بالمسلمين في زيهم وطريقة حياتهم، فمن ذلك مثلاً تقليد النساء الصليبيات لنساء المسلمين بالحجاب واللباس المحتشم. حيث قال أحد الكتاب الأوروبيين في ذلك: وكانت النساء الصليبيات يقلدن المسلمات في لبس الحجاب الذي يضفي على المرأة الحشمة والوقار، وإذا لم يكن الفارس في عدته وسلاحه ارتدى برنسا وفوق درعه سترة من الكتان لوقاية الزرد من حرارة الشمس كما جعل على خوذته كوفية على نحو ما يفعل العرب وأقبل الصليبيون على الأقمشة الموصلية والبغدادية والدمشقية والبسط والسجاد. وأطلق البعض منهم لحاه تشبها بالمسلمين، واستعمل النعال التي يستعملها المسلمون في بيوتهم، حتى أن بلدوين (1100- 1118) استبدل ثيابه الغربية بأخرى شرقية وأرسل لحيته، وبلغ الأمر بتانكرد صاحب أنطاكية (ت 1112) أن سك النقود وعليها صورته بزي عربي.(4)
وقد كان الزي العربي علامة على الوجاهة والتحضر والرقي الثقافي والأخلاقي والحضاري، لذلك فقد حرص إمبراطور النورمان في صقلية "روجيه الثاني" أن يلبس ثوبا عربيا في بلاطه ويتعلم العلوم العربية ويتكلم العربية.
النظافة:
تعلم الأوروبيون النظافة من المسلمين وقلدوهم في حرصهم على نظافة بدنهم وأجسادهم، وقد عقدت المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه مقارنة بين الحضارة الإسلامية في ذلك الوقت وبين حال أوروبا والغرب في هذا الصدد، فقالت: "إن الفقيه الأندلسي الطرطوشي خلال تجواله في بلاد الفرنجة صادفته أمور تقشعرُّ منها الأبدان، وهو المُسْلِمُ الذي فُرِضَ عليه الاغتسال والوضوء خمس مرات يوميًّا، اسمعه يقول: لن ترى أبدًا أكثر منهم قذارة؛ إنهم لا ينظِّفُون أنفسهم، ولا يستحمُّون إلاَّ مَرَّة أو مرتين في السَّنة بالماء البارد، وأمَّا ثيابهم فإنهم لا يغسلونها بعد أن يرتدوها؛ حتى تُصْبِحَ خِرَقًا بالية مهلهلة. وتُضِيف فتقول: إن مِثْلَ هذا الأمر - من القذارة- لا مجال لأنْ يفهمه العربي المتأنِّق أو يحتمله؛ وهو الذي لم تكن نظافة الجسم وطهارته بالنسبة إليه واجبًا دينيًّا فحسب، وإنما -أيضًا- حاجة ماسَّة تحت وطأة الجوِّ الحار ذاك. ثم ذَكَرَتْ أن مدينة بغداد كانت تزدحم في القرن العاشر للميلاد بآلاف الحمَّامات الساخنة مع المولجين بها، من ممسَّدين ومزيِّنين.(5).
وبلغ من قذارة الأجساد في أوروبا أن إيزابيلا ملكة قشتالة، التي استولت على الملك سنة 1474م ، كانت تفتخر بأنها لم تغتسل في حياتها إلا مرتين يوم ولادتها سنة 1451 و ليلة عرسها سنة 1469.(6).
ونقل أحد الباحثين رأيا في ذلك لمؤرخ أوروبي معاصر لفترة الحروب الصليبية وهو قوله: ولكنهم - أي الصليبيين - يعيشون كالحيوانات، ولا يغسلون أبدانهم ولا ثيابهم التي لا ينزعونها إلا إذا تمزقت، وبعد مخالطة الصليبيين للمسلمين اكتسبوا هذه العادة الحميدة، فتردد الكثيرون منهم على الحمامات العامة المنتشرة في الشام ومصر حتى الرهبان والراهبات الذين يعتكفون في كنائسهم وأديرتهم، مما جعل أحد مقدميهم واسمه جاك دوفتري يحتج على الراهبات لخروجهن من الأديرة مخالفات بذلك تعاليم شريعتهم ليذهبن إلى الحمامات العامة، وقد ساق أسامة بن منقذ، في كتابه الاعتبار، نماذج على استغرابهم اهتمام المسلمين بالنظافة، ومحاولتهم التشبه في ذلك وترددهم على الحمامات العامة للمسلمين رجالاً ونساءً لهذا الغرض.(7)
بابا روما:
ولم يكن الولع بتقليد المسلمين مقتصرا على الشباب الأوروبي وحسب، بل بدأ القساوسة يقلدون المسلمين في أحوالهم وكذلك النبلاء، حتى أن البابا سلفستر الثاني (توفي 393 هـ / 1003 م) واسمه كربرت دي لوفرينه وقد ارتقى كرسي البابوية عام (999م)، كان قد درس في قرطبة; وتعلق بالعرب; وعشق الرياضيات والفلك; واستمع في الأندلس إلى الأساتذة العرب; وتعلم أشياء لم يكن أحد في أوروبة ليحلم أن يسمع بها; وكان من أهم ما تعلمه نظام الأرقام والأعداد العربية; فكان أول رجل في الغرب تعلم واستخدمها; ونشرها في إيطالية; ومنها عبرت إلى أرجاء أوروبة كلها; وحلت بدل الأرقام الرومانية المعقدة. ولكن بسبب روح الخرافة التي سادت ذلك الوقت نسب النّاس أعماله ومعارفه إلى فنون السحر لأنّ النّاس اعتقدوا أنّ مثل هذه القدرات لا يمكن إلاّ أن تكون نتيجة التحالف مع الشيطان".(8)
وكان سلفستر الثاني هذا منبهر جدا بالمسلمين حتى أن قال: "إنه لمن المعلوم تماما; أنه ليس ثمة أحد في روما له من المعرفة ما يؤهله لأن يعمل بوابا; لتلك المكتبة – يقصد مكتبة الخليفة المسلم في القاهرة، والتي كانت تحوي على مليونين ومئتين من المجلدات- وأنَ لنا أن نعلم الناس ونحن في حاجة لمن يعلمنا. إن فاقد الشيء لا يعطيه ".(9)
وأخيرا
كان هذا حال أوروبا مع المسلمين عندما كانوا حرصين على الاعتزاز بدينهم. دانت لهم دول الأرض قاطبة. أصبحوا سادة العالم . وقد صدق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عندما قال :"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غير أذلنا الله".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
الإحالات(الهوامش):
(1)علو الهمة، محمد إسماعيل المقدم، نسخة إلكترونية.
(2) رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب ، ص20.
(3) الأوضاع الحضارية في بلاد الشام في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الميلا، د. محمود محمد الحويري، ص 244، دار المعارف.
(4) الأوضاع الحضارية، مرجع سابق.وانظر الأيوبيون بعد صلاح الدين ، د. علي الصلابي ، دار المعرفة للطباعة والنشر.
(5) شمس العرب تسطع على الغرب، زيجريد هونكه، نسخة الكترونية.
(6) مدنية المسلمين بإسبانيا ـ جوزيف ماكيب . ترجمة تقي الدين الهلالي.
(7) الأيوبيون بعد صلاح الدين، د. علي الصلابي، دار المعرفة للطباعة والنشر.
(8) دور الإسلام في إصلاح النصرانية، خالد الحربي،نقلا عن كتاب مختصر تاريخ الكنيسة ص 236.
(9) شمس العرب، مرجع سابق.