«التفكيكية» ترجمة شائعة مباشرة ومعجمية لعبارة «دي كونستراكشن deconstruction»، ولكنها لا تنقل مضمون الكلمة الأجنبية التي قد يكون من الأفضل ترجمتها بكلمة «التقويضية» (سعد البازعي وميجان الرديلي) أو «الانزلاقية». ولكن كلمة «تفكيكـية» هي الأكثر شيـوعاً ومن هنا استخدامنا لها. وقد تحدَّث كارل مانهايم عن «ديستراكشن destruction»، وهو هدم كل الأيديولوجيات التي تُخادع ذاتها بالضرورة وتتصور أنها تفلت من التاريخانية النسبية ومن قبضة الصيرورة. كما استخدم هايدجر نفس الكلمة بنفس المعنى تقريباً، ففي كتابه كانط ومشكلة الميتافيزيقا، تَحدَّث عن الحاجة إلى إعادة النظر في تاريخ الأنطولوجيا الغربية بطريقة تهدف إلى كشف موضوع دراستها وتطوُّرها وهو ما يتطلب فك تقاليد الأنطولوجيا الجامدة المتكلسة من خلال عملية «هدم». وقد استخدم دريدا كلمة «هـدم» أو «تقـويض» (ديستراكشن) في بداية الأمـر ولكنه عدل عنه واسـتخدم بدلاً منها كلمة «تفكيك». ومع هذا، تظهر النزعة التقويضية بشكل صريح في حديثه عن إجهاد اللغة الذي سيؤدي إلى موت الكلام وحضارة الكتاب. وقد عرَّف هو نفسه التفكيكية بأنها "تهاجم الصرح الداخلي، سواء الشكلي أو المعنوي، للوحدات الأساسية للتفكير الفلسفي، بل تهاجم ظروف الممارسة الخارجية، أي الأشكال التاريخية للنسق التربوي لهذا الصرح والبنيات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية لتلك المؤسسة التربوية". وحيـث إنه لا يذكر بديلاً لهذه المؤسـسات كافة، فإن ما يهـدف إليـه هو تقويض وهدم حتى لو سماه «التفكيك».
وكلمة «تفكيك» تأتي في بعض الأدبيات مرادفة لمصطلح «ما بعد الحداثة»، ولكننا نذهب إلى أن التفكيكية إحدى أوجه ما بعد الحداثة، ففكر ما بعـد الحداثة فكر تقويضيّ معاد للعقلانية وللكليـات، سواء أكانت دينية أم مادية، فهو فكر يحاول أن يهرب تماماً من الميتافيزيقا ومن الحقيقة والمركزية والثبات ويحاول أن يظل غارقاً في الصيرورة. وتَصدُر ما بعد الحداثة عن الإيمان بأن أي نظام فلسفي أو ديني يستند إلى نقطة بدء ثابتة متجاوزة (أساس)، وفي حالة التصور الديني فإن نقطة البدء هي الإله الخالق المفارق للمادة. ولكن الأمر لا يختلف كثيراً في حالة النظم المادية (الصلبة)، فنقطة البدء هي مفهوم الكل المادي الثابت المتجاوز (الذي نشير إليه بأنه الطبيعة/المادة). هناك، إذن، لوجوس أساسي (الإله أو المادة) والعالم كله متمركز حول اللوجوس، ولا يمكن أن يُوجَد نظام دون مركز/لوجوس. وعادةً ما يَنتُج عن نقطة البدء ثنائية هي ثنائية الخالق والمخلوق (في النظم الدينية) أو ثنائية الكل والمركز والثبات مقابل الجزء والهامش والصيرورة. ويرى أنصار ما بعد الحداثة أن الثنائيات المتعارضة تظل في تعارضها ولعبها وحركتها إلى ما لا نهاية حيث تُوجَد نقطة أصل وأسـاس ثابتة. وهي تترجم نفسـها إلى تراتب هرمي. وداخل كل ثنائية، يحكم أحد أطراف الثنائية الطرف الآخر.
وترى ما بعد الحداثة أن هذا الإيمان بالأصل الثابت المتجاوز (الإله أو الكل المادي المتجاوز) الذي يعلو على لعب الدوال وصيرورة المادة يتناقض تماماً مع الواقع المادي الذي يعيش فيه الإنسان وصيرورته الدائمة، فالمادية الحقة ضد الثبات وتؤمن بأن العالم بلا أصل.
كما يرى أنصار ما بعد الحداثة أن اللغة ليست أداة جيدة للتواصل، فثمة انفصال بين الدال والمدلول يؤدي إلى لعب الدوال المستقل عن إرادة المتكلم. فالإنسان لا يتحكم في اللغة بل إن اللغة هي التي تتحكم فيه. فاللغة تشبه المرأة اللعوب التي توهم المتحدث/الذكر، الذي يريد أن يُطوِّعها بأنها تطيع أمره، ولكنها في واقع الأمر تفعل عكس ما يريد تماماً.
لكل هذا يرى أنصار ما بعد الحداثة أن ثمة تناقضاًَ لا يمكن حسمه داخل كل نص يدعي لنفسه الثبات، هو التناقض بين ظاهره الثابت المتجاوز للصيرورة، وباطنه الواقع في قبضة الصيرورة وأن كل نص يحتوي على أفكار متسقة بشكل ظاهري، متعارضة بشكل فعلي. ولكن علاقة النص بالواقع لا تختلف عن علاقة الدال بالمدلول، أي أنها عـلاقة واهـية جداً لأن النص في واقـع الأمر يسـتند إلى ذاته ويُشير إلى ذاته ولا يُشير إلى أي شيء خارجه. وقد جعل أنصار ما بعد الحداثة همهم تفكيك كثير من الأفكار الأصولية (الدينية والمادية) وتوضيح استحالتها وتناقض الأساس الكامن داخلها، بحيث يظهر أن اللوجوس الذي يستند إليه نص أو ظاهرة إنما هو مجرد عنصر واحد من بين عناصر شتى، وأن الثنائيات الكامنة داخل نص ما ثنائيات متعارضة بشكل لا يمكن حسمه من خلال العودة إلى نقطة الأصل الثابتة، ومن ثم تسود حالة من الانزلاقية واللعب ويتهدم أي تراتب هرمي أو أي تنسيق للواقع.
في هذا الإطار يمكن القول بأن الرؤية الفلسفية هي «ما بعد الحداثة»، أما «التفكيكية» فهي منهجها في تفكيك النصوص وإظهار التناقض الأساسي الكامن فيها، وقد قيل إن الجراماتولوجي هو «علم الكتابة»، وذلك باعتبار أن الكتابة كتابة أصلية أو أولية، أما التفكيكية فهي الشكل الذي تأخذه حينما تتوجه إلى نصوص بعينها.
والتفكيكية تحاول تفكيك/تقويض النص بأن تبحث داخله عما لم يقله بشكل صريح واضح (وهو ما يُشار إليه بعبارة «المسكوت عنه») وهي تعارض منطق النص الواضح المُعلَن وادعاءاته الظاهرة، بالمنطق الكامن في النص، كما أنها تبحث عن النقطة التي يتجاوز فيها النص القوانين والمعايير التي وضعها لنفسه، فهي عملية تعرية للنص وكشف أو هتك لكل أسراره وتقطيع لأوصاله وصولاً إلى أساسه الذي يستند إليه، فيتضح تناقض هذا الأساس وضعفه ونسبيته وصيرورته فتسقط عنه قداسته وزعمه بأنه كلٌ ثابتٌ متجاوزٌ.
ويصل النـص إلى طريق مسـدود إذ تظهر الهوة الموجودة داخلـه (العنصر الذي يهرب من قبضة كل النظم المعرفية). عندئذ، يظهر عدم تماسك النص وانعدام اتساقه الداخلي فيتعثر المعنى الظاهر ويتناثر، بعد أن كان متماسكاً وله مركزه الواضح، وتنزلق الدلالة من عالم تَرابُط الدال والمدلول إلى عالم من اللا تحدد ولا يرتبط فيه الدال بالمدلول.
وتتم عملية التفكيك على مرحلتين: يقوم الناقد بالتعمق في النص حتى يصل إلى الافتراضات الكامنة في النص ومنظوماته القيمية والهرمية وافتراضاته الأصولية وأساسه الميتافيزيقي الكامن (التمركز حول اللوجوس). أما المرحلة الثانية، فهي حين يبدأ الناقد في اكتشاف عنصر ممالئ في النص (تفصيلات هامشية ـ مصطلحات غير هامة متكررة ـ إشارات عابرة)، فيأخذها الناقد التفكيكي، ويظل يُعمِّق فيها ويُحِّملها بالمعاني حتى يبيِّن احتواء الكل الثابت المتجاوز على تفاصيل تُقوِّض من كليته وثباته وتجاوزه، وحتى يبيِّن مدى اشتراك الثنائيات في السمات رغم اختلافها، فهما ليسا متعارضين بما فيه الكفاية حتى يتداخل القطبان.
إن النقد التفكيكي لا يفكِّك النص ويعيد تركيبه ليبيِّن المعنى الكامن في النص (كما هو الحال مع النقد التقليدي) وإنما يحاول أن يكشف التوترات والتناقضات داخل النص وتعددية المعنى والانفتاح الكامل، بحيث يفقد النص حدوده الثابتة ويصبح جزءاً من الصيرورة ولعب الدوال، ومن ثم تختفي الثنائيات والأصول الثابتة والحقيقة والميتافيزيقا.
وقد أشار كثير من الدارسين إلى أن النقد التفكيكي يتسم بما يلي :
1 ـ النقد التفكيكي نقد ممل لأنه يقول الشيء نفسه عن النصوص كافة ونتيجته معروفة مسبقاً.
2 ـ لم يأت التفكيك بأي عنصر جديد، فكل العناصر موجودة في النقد التقليدي ولكنها مبالغ فيها ويتم تناولها بشكل لا تسمح به حدود النص.
3 ـ النقد التفكيكي نقد واحدي، فكل العناصر سيتم تفكيكها، وإن بقي عنصر سيأتي ناقد آخر ليكمل عملية التفكيك إلى أن ينتهي التفكيك بواحدية سائلة محضة.
4 ـ النقد التفكيكي نقد ثوري فيما يتعلق بتحليل خطاب الآخر، ولكنه رجعي في كل شيء آخر، فهو لا يمكن أن يطرح بدائل.
[ موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية : مادة / التفكيكية ]