الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحقوق الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيمأرى أن الحديث عن سياسة الإمام علي (عليه السلام) وعن مواقفه الخالدة في مجال حقوق الإنسان لابدّ أن يتنزل ضمن الرؤية الشمولية لحقوق الإنسان في الإسلام، فقد كانت مواقفه معبرة أصدق تعبير عن هذه الرؤية، مستميتاً في الدفاع عنها قولاً وعملاً إلى آخر لحظة في حياته.
ولما تغيرت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي، وأصبح الناس كما وصفهم صديقه الوفي الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، (رحمه الله) قائلاً: (كان الناس ورداً بلا شوك، فأمسوا شوكاً بلا ورد)، ازداد تمسكه الشديد بهذه الحقوق، والذود عنها، وخصوصاً بعد بيعته بالخلافة، وقد اتضح ذلك من خلال ممارسته اليومية للسلطة، ومن خلال تربيته للمسلمين، وغرس مبادئ الإسلام في نفوسهم، وفي مقدمتها مبادئ حقوق الإنسان.
ولما ظهرت محاولات الحزب الأموي لتحويل مؤسسة الخلافة إلى ملك عضوض يحرم الناس حقوقهم، ويسلط عليهم ألواناً من القهر والعسف تفطّن الإمام علي (عليه السلام) إلى محاولات الانحراف، وإلى الخطر الداهم فازداد تمسكه بمبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها، ولا غرابة في ذلك فقد تشبّع بروحها من القرآن الكريم، ومن السيرة النبوية الشريفة، وهو أعلم الناس بهما دون منازع.
وأود في هذا الصدد إبداء الملاحظات الأساسية التالية:
- أولاً: امتزاج مفهوم حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) بحقوق الأمة، فلا يمكن أن تحترم حقوق الإنسان وتصان إلا في مجتمع الحق والحرية والعدل الاجتماعي. ومن هنا فإن السلطة لم تكن أبداً في نظره غاية في حدّ ذاتها، ولم يسعَ إليها في يوم من الأيام، بل كان من أزهد الناس في السلطة، ولما جاء المسلمون لمبايعته بالخلافة قبل أن يتولى المسؤولية الأولى في جهاز الدولة الإسلامية الفتية (أي الخلافة) لتكون أداة المقاومة مظاهر الحيف والانحراف ولإرجاع الحقوق إلى أصحابها، دخل عليه صفيه وتلميذه عبد الله بن عباس يوماً فوجده يخصف نعله فعجب ابن عباس من أن يخصف أمير المؤمنين نعله بنفسه، وهو يحكم مناطق شاسعة من العالم القديم، فقال لابن عباس:
(ما قيمة هذه؟) - مشيراً إلى نعله - قال: لا قيمة لها.
فقال الإمام: (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).
فالسلطة تعني عنده - إذن - إقامة الحقوق، ومقاومة الباطل وأهله.
- ثانياً: قد يقول قائل: إن الإمام علي (عليه السلام) قد خاض حروباً طاحنة، وقاتل طيلة أربعين سنة، وأصاب سيفه مئات الناس فكيف نوفّق بين هذا وبين دفاعه عن حقوق الإنسان؟ قد يشتبه الأمر عند البعض، وأقول إجابة على مثل هذا التساؤل:
أ: إن الدفاع عن حقوق الإنسان اقتضى بالأمس، ويقتضي اليوم أيضاً مقاومة أهل الظلم والبغي وكل قوى الشر المعادية للإنسان ولحقوقه.
ب: تُجمع الروايات التاريخية على أن الإمام لم يقاتل إلا دفاعاً عن العدل ليقيم الحق ويقاوم الظلم بشتى مظاهره، وبخاصة الظلم السياسي والاجتماعي.
- ثالثاً: إنه من المعروف تاريخياً أن تمسكه بالحق وصرامته في تطبيقه قد جعلت كثيراً من سادة قريش وزعماء العرب يعادونه، ويلتحقون بصفوف معاوية، وقد ضاقوا خصوصاً بالتسوية في القسمة بينهم وبين العامة وهم الرؤساء، وقد كان واعياً بذلك ولكنه لم يتنازل قيد أنملة، فقال عنهم:
(.. وقد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة (سواء) فهربوا إلى الأثرة فبعداً لهم وسحقاً).
إنه كان (عليه السلام) شديداً في الحق حتى مع أقرب الناس إليه، مع أفراد أسرته، وقصته مع ابنته التي زينت بلؤلؤة من بيت المال مشهورة فقال:
من أين لها هذه؟ لله علي أن أقطع يدها.
قال ابن أبي رافع، وقد كان خازناً لعلي (عليه السلام) على بيت المال:
فلما رأيت جدّه في ذلك قلت: أنا والله يا أمير المؤمنين زينت بها ابنة أخي، ومن أين كانت تقدر عليها لو لم أعطها فسكت (1).
وكتب مرة إلى أحد عماله مؤنباً، وقد بلغه أنه أصاب شيئاً من بيت المال، وزعم أنه حقه وختم رسالته قائلاً:
(.. فوالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولما تركتهما حتى آخذ الحق منهما).
- رابعاً: إن نموذج الإمام علي (عليه السلام) في الدفاع عن حقوق الإنسان يتجاوز المجتمع الإسلامي ليشمل المجتمع البشري كله، فإذا أصبح موضوع حقوق الإنسان اليوم معروفاً (ويخطئ البعض عندما يرطبه بالثورة الفرنسية) ويتجاهل تراث الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية وهي حضارة تفخر بأنها أنجبت نموذجاً نادراً في مقاومة جميع مظاهر الحيف، ونصرة حقوق الإنسان، هذا النموذج القدوة هو الإمام علي (عليه السلام). سيسجل تاريخ الإنسانية المواقف الخالدة التي وقفها الإمام علي (عليه السلام) في الدفاع عن حقوق الإنسان. رحمك الله يا أبا الحسن فقد عشت ما يربو عن أربعين سنة حاملاً لواء العلم والسيف في مقاومة البغي والظلم، وفي الذود عن حقوق الإنسان.
إن الدارس لمواقف الإمام علي (عليه السلام) من قضايا حقوق الإنسان يلمس بسهولة بأن جل أقواله، والقيم التي آمن بها، وعلمها المسلمين تخدم حقوق الإنسان وحريته، وتناهض كل سلطة تحاول أن تظلم الإنسان، وتغتصب حقوقه، وخصوصاً حقوقه السياسية والاجتماعية، وهو ما يوضح لنا صرامة المدرسة السياسية الفكرية التي أسسها في نضالها من أجل بناء مجتمع العدل السياسي والاجتماعي، ولقد نبّه المسلمين إلى خطر الانحراف الذي بدأت تبرز معالمه في خلافة عثمان، فقد خطب الإمام في المدينة إثر بيعته قائلاً:
(.. ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سباقون كانوا سبقوا) (2).
وجاء حق الأمة والمجتمع مرتبطاً بحقوق الفرد في نضال الإمام من أجل حقوق الإنسان، وجاءت ممارسته للسلطة بعد بيعته إماماً تطبيقاً لمواقفه التي عرف بها في هذا المجال منذ عهد الصبا، فقد روي عن ابن عباس أن علياً (عليه السلام) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال:
(ألا إن كل قطعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته ولد تُزوج به النساء وفُرّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق) (3).
إن هذا الوضع الذي بلغه انتهاك حقوق الإنسان هو الذي جعل زعيماً عربياً معروفاً مثل عبد الله بن الزبير يقول:
(لو شايعني الترك والديلم على محاربة بني أمية لشايعتهم وانتصرت بهم) (4).
وأعود إلى الاستشهاد ببعض أقوال ومواقف الإمام في الدفاع عن حقوق الإنسان الفردية والجماعية منها فقد رأينا مفهومه النبيل السامي للسلطة، وهو مفهوم نادر في تاريخ نظم السلطة السياسية بالأمس واليوم، فنَعْله أحب إلى نفسه من الخلافة أو الإمارة، وهي قمة السلطة إلا أن يقيم حقاً، أو يدفع باطلاً، فأي نظام في الدنيا بلغ هذه النظرية السامية للسلطة؟
وقد كان (عليه السلام)، حريصاً كل الحرص على حماية حقوق كل فرد من أفراد الرعية بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو دينه. فقد سيّر يوماً ما جنداً لمقاومة قوى الشر فكتب إلى أمراء بلاده التي سيمر بها الجند كتاباً يقول فيه:
(من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباة الضرائب وعمال البلاد: أما بعد، فإني سيرت جنوداً هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب عليهم من كف الأذى وصرف الشذى (الشر). وأنا أبرأ إليكم، وإلى ذمتكم من معرة (أذى) الجيش إلا من جوعة المضطر الذي لا يجد عنها مذهباً إلى شبعه فنكلوا (عاقبوا) من تناول منهم شيئاً ظلماً عن ظلمهم، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضارتهم، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم).
وأود الملاحظة في نهاية هذه الكلمة أن الإمام (عليه السلام) قد كان واعياً بأن المدافعين عن حقوق الإنسان في عصره قد أصبحوا قلة فقد قال:
(اعلموا رحمكم الله أنّا في زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل...). الهوامش1- الطبري: ج5، ص156.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1965، ط2، ج، ص272.
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج1، ص269.
4- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج5، ص131.