كشف الفنان خالد جبر عن المعاناة الكبيرة التي عاناها طوال 28 عامًا، وهي المدة التي اشتغل فيها على برنامجه "المرسم الصغير"، مشيرًا في حوار اعلامي إلى انه عاش سنوات مريرة عبر هذه الرحلة الطويلة التي اراد فيها أن يقدم خدمة للصغار، موضحًا تفاصيل قرار الغاء البرنامج من قبل العديد من المدراء العامين لدائرة الاذاعة والتلفزيون، ومؤكدًا حزنه لعدم التفات الدولة إلى الفنان العراقي، ما يجعله يفكر في حرق إنتاجه الفني وكتاباته احتجاجًا على الوضع المأساوي الذي يعيش فيه.
وفي ما يأتي نص الحوار:
أين أنت الآن من مرسمك الصغير؟
ما زلت اعمل في قناة (العراقية) مقدمًا (المرسم الصغير)، فضلًا عن عملي في جريدة التآخي مسؤولًا عن صفحة تعنى بالفنون التشكيلية، وأرسم لوحات عديدة من أجل اقامة معرض فني سيكون المعرض الشخصي الرابع.. أنا مستمر في هذه الحياة، لكن الشيء الذي يهمني دائمًا واتمناه هو خدمة الاطفال والطفولة، لأنني منذ العام 1985 مع المرسم الصغير لخدمة الاطفال، وهي رحلة طويلة جدًا مع الطفولة، لأن بعض المسؤولين عندما يأتي إلى الدائرة لا يفهم معنى خدمة الاطفال ولا يعرف من هم الاطفال، لذلك منذ 28 عامًا وأنا أحمل جبلًا من الأسى لخدمة الاطفال، وهذه مشكلة كبيرة، حتى انني الّفت كتابًا من المؤمل أن يصدر قريبا اسمه (المر... سم وسنوات الحنظل)، وكنت اعني المر والسم لانني شفت الضيم والظلم.
ما ابرز هذه المعاناة والهموم ؟
إلغاء البرنامج. فالكثير من المدراء العامين في ذلك الزمن وهذا الزمن يحاولون الغاء البرنامج، وكثيرة هي المرات التي اريد بها الغاء البرنامج، بسبب نقص الاهتمام بالطفولة، لكنني أمسك في يدي الاولى فرشاة وأرسم بها، وفي اليد الثانية امسك سيفًا للمحافظة على هذا البرنامج، وهذه معاناة حقيقية.
لا مربع لا دائرة
كيف كان تعامل المدراء العامين لمؤسسة الاذاعة والتلفزيون مع البرنامج ؟
هناك ما يستدعي الحزن والالم طبعًا، فأغلبهم تعاملوا مع البرنامج على انه غير مهم، ومن الممكن أن اسرد لك بعض ما لاقيته من هؤلاء المدراء.. في العام 1985، كان ماجد السامرائي المدير العام لدائرة الاذاعة والتلفزيون، وخلال شهر واحد أمر بإلغاء البرنامج. وبعد أن قابلته وافهمته طبيعة عمل البرنامج تمت اعادته.. اما صباح ياسين الذي كان نقيبًا للصحافيين فامر بإلغاء البرنامج لانني كنت ارسم اشياء عنقود العنب وفواكه واشجارًا، فتم منع كل هذه الاشياء ولم اعد ارسمها.. وعلمت أن هذا كان بسبب توجيهات الرئيس صدام حسين الذي منع رسم عنقود العنب والمثلث والمربع والدائرة، وكانت هنالك اوراق مكتوبة بخط صدام حسين تشير إلى ذلك.
لماذا هذا الامر العجيب الغريب ؟
لا اعرف.. وما زلت إلى هذه اللحظة لا اعرف لماذا منعني صدام حسين من رسم هذه الاشياء ضمن برنامجي التعليمي للاطفال. واذكر انني عندما ذهبت إلى صباح ياسين للاستفسار منه عن هذه الامور قال لي: "استاذ انت رجل فاهم وكبير، فلماذا ترسم عنقود العنب؟". فقلت له: "انه يمثل طبيعة صامتة، وكل الرسامين الانطباعيين والفنانين الكلاسيكيين يرسمون العنب في لوحاتهم". فاوضح لي من خلال اوراق اراني اياها أن هذا امر صادر من الرئيس نفسه، ويجب تنفيذ الامر من دون معرفة السبب، لذلك قمت ارسم في التلفزيون اشياء بسيطة جدًا، حتى قال الناس إن خالد جبر لا يعرف الرسم، وهم لا يعلمون انني ممنوع، فإذا رسمت اغصان شجرة متشابكة فهذا ممنوع، ورسم الفاكهة ممنوع، ولا اعرف سر العنب والدوائر والمربعات.
الثالثة ثابتة
وبعد العام 2003؟
أول مدير كان جلال الماشطة، حين قابلته من اجل اعادة البرنامج، قال لي: "انا قاسم الملاك لا اعرفه، كيف تريدني أن اعرفك؟".. قلت له: "اين كنت تعيش؟"، فقال: "في روسيا منذ 40 عامًا"، فقلت له: "يا اخي ما الذي اتى بك للعراق، اذهب إلى روسيا ودعنا نحن الفنانين نخدم بلدنا". فيصل الياسري كان رجلًا اعلاميًا ومثقفًا، وانصفني كثيرًا وبعد العام 2003 كان حبيب الصدر، وهو رجل عملاق ومتمكن وأهتم كثيرا بالبرنامج. وكان رئيس قسم برامج الاطفال المرحوم طارق الحمداني يدير 12 برنامجًا، حينها كنت صحافيا واجريت معه حوارًا، وقلت له: "لماذا لا تقدمون برنامجًا عن الرسم؟ انا مستعد أن اعمله".. فوافق وطلب مني أن اقدم حلقة تجريبية. كل القنوات الفضائية العراقية ليس فيها قسم برامج اطفال، وما زلنا أنا وهاشم السلمان نتمسك بالعراقية على الرغم من أن هناك من يطلب منا أن نعمل في فضائية اخرى، وانا اقول كيف وليس هناك ادنى اهتمام ببرامج الاطفال، خلينا مع العراقية نخدم اطفالنا.
هل تتذكر الحلقة بتفاصيلها؟
اذكر انه تم تخصيص ستوديو (رقم 6) لتصوير الحلقة التجريبية، وهو ستديو صغير، وتم تكليف مخرجة لا اريد أن اذكر اسمها، قلت لها: "اتمنى أن تساعديني في الوقوف امام الكاميرات"، وجلبت معي ثلاثة اطفال موهوبين بالرسم، واثناء التسجيل، إذا بالمخرجة تقول لي: "الوقت انتهى ولا بد أن ارجع إلى البيت فلديّ اطفال في الروضة وأنت طولتها". فقلت لها: "انا لست في بيتكم، انا في التلفزيون واعمل الحلقة التجريبية التي تحدد مصيري، الله يرضى عليك طولي بالك معي". راحت تصرخ في وجهي فاحتد الجدال بيننا. بكى الاطفال فخرجت حزينًا وقررت أن اغادر بلا رجعة. لكنني التقيت طارق الجبوري، فقال لي: ها "بشّر ابو الوليد؟". حكيت له الحكاية، فأتصل على الفور بمدير التلفزيون، جبار يوسف، فأصدر بحقها عقوبة وأمر بنقلها إلى قسم اخر. وقال لي الجبوري تعال يوم السبت لتسجل الحلقة مجددًا. جئت ومعي ثلاثة اطفال آخرين، وعينوا لي مخرجًا اسمه مثنى الجميلي، وأوصاه بي وقال له إن المدير العام يريد هذه الحلقة. قال لي مثنى: "انت فرحان وتريد مني أن اسجل لك برنامجًا، وقد عوقبت زميلة لنا بسببك؟ والله لألعن ابو الرسم، تفضل اطلع خارجًا"، فاعترضت على كلامه وكدنا نتضارب لولا تدخل البعض. عدت إلى طارق الجبوري، فقال لي: "ولا يهمك، غدًا هييء نفسك للحلقة مرة ثالثة". جئت هذه المرة وحدي بلا اطفال، وجاءني بمخرج إسمه كريم حمزة، الله يرحمه، وهو مخرج منوعات وفي الاستديو رقم (2). قال لي كريم: "لا يوجد مونتاج، انا اسجل الحلقة واعطيك الشريط ومع السلامة". وبعد أن تعطل جهاز الصوت وتم تصليحه في ساعتين صورنا الحلقة بمدة 35 دقيقة من دون أية غلطة، وعرضت الحلقة من دون مونتاج فعلًا. وما أن بدأ بث الحلقة بدقائقها الاولى حتى تم قطع البث وظهر المذيع غازي فيصل على الشاشة ليقرأ بيانًا عسكريًا، وبعد البيان ظهرت انشودة وطنية ولكن مع ذلك تمت اعادة البرنامج.
هل اجريت لك اختبارات ام دخلت بكفالة طارق الجبوري؟
اجريت لي اختبارات كثيرة جدًا، وكان هناك اختبار الصوت والشكل وحركة الوجه وسرعة البديهية وطريقة الرسم وطريقة الكلام. اختبرني حافظ القباني وسعاد الهرمزي ورشدي عبد الصاحب وغازي فيصل، اما الان فمع الاسف لا توجد مثل هذه الاختبارات وهو شيء مؤلم.
200 لوحة
هل انشغالاتك بالمرسم الصغير جعلتك تتخلى عن كونك فنانا تشكيليا ؟
ابدًا، عندما ارسم للاطفال احس بمتعة كبيرة لا تضاهيها متعة، لكنني ارسم لوحات وفق المدرسة التعبيرية، ولدي لوحات كبيرة بحدود 200 لوحة في مرسمي، جاهزة لاقامة معرض، لكنني ما زلت ابحث عن قاعة فنية جيدة لاقيم فيها معرضي. كان في بغداد اكثر من 20 قاعة، والآن لا توجد اية قاعة، والحقيقة أن الفنانين الموجودين في العراق هاجروا، ولم يبق إلا نحن مجموعة فنانين نجاهد ونكافح من أجل الفن التشكيلي. وأمنا أقمت اربعة معارض، قليلة جدًا لكن هكذا افضل. جواد سليم اقام في حياته ثلاثة معارض، ونجيب يونس اقام معرضين فقط، فليس الاهمية في كثرة المعارض، انا استغرب أن يقيم بعض الفنانين 30 او 40 معرضًا.
لو عادت بك الذاكرة إلى الطفولة والرسم، ما الذي يمكن أن تراه هناك؟
أراني طفلًا صغيرًا في مدينة الحبانية، حافي القدمين وأرسم في الشارع، وادواتي الجص وقطع الطابوق الصغير. وحين يمر الناس كان يتساءلون: "ماذا يرسم هذا الصغير الحافي القدمين الفقير؟ في اليوم التالي تأتي السيارات التي ترش الماء فتمحو كل ما رسمت، فابدأ من جديد. أذكر أنني في يوم من الايام وانا ارسم جاء شخص على دراجة هوائية يقودها بسرعة كبيرة فصدمني وآذاني، واهتم الناس بي واخذوني إلى مستشفى الحبانية العسكري حيث اهتم بي الاطباء، لكنني كنت مرعوبًا من أبي الذي إن جاء وسأل عني فماذا يقال له. وقد كان عسكريًا ورتبته رفيعة، عصر اليوم نفسه زارني كل اهالي منطقة الحبانية وحملوا باقات الورد بحثًا عن هذا الرسام الصغير. واتذكر احدهم الذي ما زالت صورته شاخصة في الذاكرة وهو يرتدي التراكسوت لانه رياضي، انه الكابتن عمو بابا، رحمه الله.
أفكر بحرق لوحاتي
قام الملتقى الاذاعي والتلفزيوني بتكريمك أخيرًا، اي شعور راودك؟
هذا امر فاجأني حقيقة، فقد وجدت من يتذكرني ويسعى إلى تكريمي وانا حي. فبعد ثلاثين عامًا من العمل الاذاعي والتلفزيوني فوجئت بهذا الخبر على فايسبوك. واتصل بي الدكتور صالح الصحن ليخبرني وشكرته على هذه الالتفاتة التي جاءت متاخرة كثيرًا، بعد أن اعياني المرض وتعب السنين وقساوة الزمن، حتى قررت أن اعتذر عن هذا الاحتفاء لأنني الآن أعيش في حالة احباط نفسي. لكن قناة (الحضارة) العزيزة بدأت تذيع الخبر كل خمس دقائق طوال الايام الخمسة السابقة للتكريم، فقلت في نفسي لا بد أن اذهب واكون اول من يتواجد في القاعة واوزع الابتسامات على الحضور، فلولا حبهم وتقديرهم لي لما تحملوا معاناة الازدحام والسير والمفخخات والسيطرة ومنظر الكتل الكونكريتية ليصلوا إلى اتحاد الادباء العراقيين.
ما الذي يحزنك وانت تمرّ بهذا الوضع وما الذي تمنيته؟
الاحزان كثيرة، كنت اتمنى أن يكون للدولة اهتمام خاص بالفنانين والادباء للوقوف على احتياجاتهم ومعاناتهم. فأنا اشعر بانني اعيش في حالة مرضية ونفسية صعبة جدًا، ستؤدي بي إلى الموت والرحيل عن هذا العالم، لأنني لم أجد من يمد يد العون ويقف على معاناتي المأساوية ويقوم بالوقوف إلى جانبي وانتشالي مما أنا فيه بالشكل اللائق. ليس للوحات من قيمة بعد رحيل الفنان، فبالامس انتابتني فكرة وقد تكون مجنونة وهي حرق كل اعمالي ولوحاتي الفنية وكتاباتي وتاريخي وذكرياتي لأشعر بسعادة كبيرة عندما ارحل عن هذا العالم، عالمًا بان ليس لي شيء اخشى عليه.
ما سر هذه العكازة التي تمسك بها يمناك؟
سبق أن سقطت صريعًا بالضربة الدماغية أو الجلطة التي ادت بي إلى مضاعفات مرضية، ووجدت يدي طريقها إلى العكازة لتساعدني على المشي، والحمد لله إن شاء الله أكون بخير.