يقول الله تعالى في سورة النمل:]وحُشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون* حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون[[النمل: 17-18].
تذكرت هذه الآية الكريمة وأنا أقرأ خبراً عن كتاب من ثلاثة أجزاء عنوانه "ثورة النمل" لمؤلفه الفرنسي برنارد فربار المتخصص في علوم دراسة الحشرات والمعلّق العلمي في مجلة "نوفال أوبزفاتور" الأسبوعية.
لقد أثار كتابه هذا ضجة غير مسبوقة في حين أعلن عن تصحيحه مواقف خاطئة عن كائنات تعيش في "مجتمع منظم بدون جنرالات ورجال شرطة، ولا تحتاج إلى الأكاديمية الفرنسية لكي تستمع لها" على حد قوله في كتابه.
يتحدث فربار عن مجتمع النمل الذي درسه منذ صباه وتخصص فيه باحثاً علمياً في الحشرات قائلاً: "يعتبر النمل من أقدر الحيوانات على التكيف مع ظروف المحيط الذي يعيش فيه، إذ يستطيع تحسين حياته بشكل يبعث على الدهشة، ويؤكد روحه الاجتماعية".
وتتجسد هذه الحقيقة في نظره في تمكن النمل من بناء أحياء تستوعب أكبر عدد ممكن من الأفراد، وتكمن قدرة الأذكى عنده في الانفراد ببناء أكبر مدينة ممكنة، إن قدرة التنظيم عند النمل عجيبة، والعلاقات الاجتماعية عنده في تطور مستمر، وإذا كانت باريس وضواحيها تجمع حوالي 15 مليون ساكن، فإن أي منملة "قرية نمل" تحتوي على أكثر من 50 مليون نملة ، ولا أثر في هذه القرية لازدحام أو تلوث أو مشاكل أمنية واجتماعية، وفي تقديري: هذه الحقيقة تثبت أن النمل وجد حلولاً ناجعة لواقعه أكثر فاعلية من حلول الإنسان .
ويستمر الباحث فربار مؤكداً سحر التنظيم الاجتماعي الذي ينفرد به مجتمع النمل قائلاً: "إن إمكانية طرح أفكار متوافرة للجميع، وحركة مرور النخبة مضمونة في كل الحالات، وكل نملة لا تتردد في تقديم مقترحات للجميع، وإذا وجدت نملة ما مصدر غذاء، فإنها تخبر الجميع للذهاب معها".
"النمل يستعمل ما يسمى بـ"ذكاء النمل" كما يستعمل الإنسان الذكاء البشري، ومقارنةبقيم النمل أعتقد أننا نظهر سُذجاً، إننا نقول عادة – من وجهة نظر علمية – إن الذكاء يقوم على الذاكرة والتكيف والتخيل، والنمل الذي لا يتوافر على الكتب وأشرطة الفيديو والأسطوانات (أي على وسائل وأدوات تخزين الذاكرة) ليس في حاجة لهذه الأدوات لمواجهة حشرات سامة أخرى وتفادي خطرها وحماية الأجيال المقبلة من النمل، إن الإنسان صنع القنابل النووية، لكنه لم يضمن حماية الأجيال القادمة من الإشعاعات القاتلة، إن الإنسان غير قادر على التكيف مع حالات التسمم".
ويستطرد الباحث فربار كاشفاً عن قدرات مذهلة لدى النمل شارحاً أن التكيف خاصية فريدة من نوعها عنده، وبفضلها يؤكد النمل وعيه بالخطر وبضرورة تفاديه في الوقت المناسب، وحينما ترتكب نملة خطأ مثلاً وتبني بيتاً على منحدر زلق، فإن باقي النمل يهرع نحوها ليحذرها من مغبة الاستمرار في المشروع، الأمر الذي يثبت أن النملة تستفيد من أخطائها خلافاً لحالات كثيرة تؤكد العكس في حياة الإنسان، (وفي إيطاليا مثلاً ما زالت ظاهرة البناء الخطير قائمة).
وأما التخيل الذي يعد ركيزة الذكاء الثالثة فهو قائم في حياة النمل اليومية حتى وإن كان لا يعبر عن صفة يمكن ملاحظتها من الخارج بسهولة، وتتجسد هذه الصفة في تقدير فربار – كما درسها – في فحصه كل شيء مهما كانت قيمته والتأكد من حقيقته، وعوض القيام بخطة نظرية، كما يفعل الإنسان عادة فإن النمل يجرب كل ما يخطر على باله بغرض العثور على الشيء الذي يفيد حياته، وأبرز مثال على ذلك إرساله عدداً كبيراً من النمل إلى الموقع الذي استقرت فيه مجموعة على مقربة من الجدول لمعرفة مدى خطورة الإقامة واحتمال الغرق، وتدوم هذه العملية عدة أسابيع ترسل خلالها مجموعة أخرى تقوم بحفر نفق يمكّن الجميع من المرور دون الوصول إلى الجدول.
والجميل في تجربة فربار العلمية أنها لا تخلو من الطرافة موازاة لطابعها العلمي الصرف، ويقول في هذا السياق إنه قضى ساعات طويلة لما كان طفلاً يتابع سلوك النمل، ولما كبر وقع في أسر نمط حياته، واحتفظ بمستعمرة من النمل في منزله لمدة سنة بهدف مراقبته يومياً، وحدث أن استيقظ مبكراً ووجد عدداً غير قليل منه في سريره: "مع مرور الوقت أصبحت أتعرف على هذه النملة أو تلك تحت وطأة العادة" ([1]).
ولو تأملنا كلمات فربار وبخاصة قوله: "إن التكيف خاصية فريدة من نوعها عنده، وبفضلها يؤكد النمل وعيه بالخطر وبضرورة تفاديه في الوقت المناسب" لوجدناه وكأنه يشرح ما جاء على لسان النملة في القرآن: ]يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده[.
ليت من يعرف هذا العالم الفرنسي، أو من يستطع الوصول إليه، ينقل إليه ما جاء في القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، عسى الله أن يشرح صدره للإسلام.