هذا مقال اعجبني بقلم د. أحمد شراب
اختصاصي أطفال و علوم وراثية
حان الوقت للتكلم ! لم يعد من المقبول السكوت ، بل لم يعد من الممكن ذلك ، حاولت جاهداً و مراراً و تكراراً أن أتجنب الحديث في المواضيع السياسية فلم أستطع ، تطرقت إلى المواضيع الطبية ، و المواضيع الاجتماعية و التربوية ، أما السياسة .. فلا ! و ليس هذا من باب الخوف من شيء أو من أحد ، فلا شيء مخيف فيما يمكن أن أقوله ، و أنا بطبيعيتي لا أسعى لأن أستعدي أحداً أبداً ، فالكل صديقي ، و الكل في صفي ، لكن .. يبدو أن هناك سمعة التصقت بالأطباء دائماً و منذ القديم ، و عرف راودهم فلم يحل عنهم ، و ذلك أن الأطباء معشر لا يتكلم إلا في الطب ، و هم أولئك الأشخاص المتقدمون في السن ، أو الذين يبدو عليهم انهم كذلك ، و الذين يلبسون النظارات الطبية ، و عادة ما يفقدون قسماً معتبراً من أشعارهم .. فتظهر الصلعة منيرة على رؤوسهم ، و هم القوم الذن إذا اجتمعوا في مناسبة اجتماعية ، أو عن طريق الصدفة .. تراهم اكتنفوا بعضهم و كأن هناك ما يخبر كل واحد منهم أن الشخص الذي أمامه أو بجانبه هو طبيب ، و انكفأوا على أنفسهم .. بحيث لا يستطيع أحد اختراق صفوفهم .. و كأنهم لم يملوا من ممارسة المهنة في عياداتهم و مستشفياتهم ، فيبدؤون بتجاذب أطراف الحديث الطبي .. حيث تتلاقح الآراء .. و تنضج التجارب ، فإذا رمت أن تغير الحديث باتجاه موضوع آخر .. تراه لا إرادياً عاد و انفتح على مصراعيه طبياً ، و يكأنهم لا يحسنون الكلام إلا في الطب . هم في رأي بعض الناس ، أفذاذ المثقفين الذين قضوا نصف أعمارهم في الدراسة و تحصيل العلوم الطبية التي لا تنتهي ، فلم يكد يبقى في عقولهم و لا أرواحهم إلا الطب ، و كنت أستغرب حقاً و أنا طفل صغير حينما أسمع عن طبيب أصبح رئيساً أو وزيراً أو سياسياً ، فالأطباء في السياسة .. ليسوا سوى الجنود المجهولين الذين يقفون خلف الكواليس يسهرون على راحة و صحة السياسيين ، و هم على الرغم من أنهم يعرفون أحياناً أدق التفاصيل و أخطر الأسرار عن حياة السياسيين بحكم مهنتهم كأطباء لهم ، إلا أنك نادراً ما تجدهم على الساحة .. أو واقفين بجوار أحد الشخصيات المشهورة ، إنهم دائماً وراء الأضواء .. ليبقى أحد ما تحت الأضواء ، ترى فلاناً من الشخصيات السياسية أو الاجتماعية قام بإجراء عملية جراحية مثلاً أو أصيب بأزمة صحية ما ثم تماثل للشفاء ، و لله الحمد ، و لا تعرف شيئاً عن حشود الأطباء الذين كانوا سبباً في هذا الشفاء ، و تلاحظ فجأة أن شفاه إحدى الممثلات غدت أكثر نضارة و امتلاءً ، فلا تتساءل عن ذلك الطبيب السري الذي جهد و تحمل إجراء هذه العملية .
و برأي البعض أبضاً .. فالأطباء هم الأشخاص الذي لا يهتم بهم أحد إلا عندما يقع في المرض ، عافانا الله و إياكم ، حيث يصبح الطبيب عندها مركز الأحداث ، و يتحول فجأة كنجم من نجوم هولييود ، تلتف حوله العائلة و تشرأب إليه الأعناق ، و قبل هذه الحادثة .. لم يكن أحد يقيمه من أرضه ، بل ربما تساءل البعض : ترى لماذا يصبح بعض الناس أطباء ؟! . و ينظر آخرون إلى الطبيب على أنه الشخص الذي لا تراه إلا في العيادات و المستشفيات ، أو في نهاية بعض نشرات الأخبار ،أو واقفاً بجوار " دوللي " أو متقوقعاً في بعض مواقع الإنترنت التي ليس لها علاقة أبداً بشيء .. إلا بالطب و علومه و أخباره ، و بالتالي فهو ينظر إلى العالم من منظار طبي ، فلا تهمه أحداث فلسطين و العراق بقدر ما يهمه السارس SARS و اليورانيوم المنضب ، و جل مشاكله أنه لم يتمكن من إجراء جراحة المنظار لمريضه بسبب تحسسه من ثاني أكسيد الكربون أو عدم تحمله له ، و اضطر آسفاً لإجراء جراحة اعتيادية ! و ما ينغص عيشه أنه لظرف ما تأخر عن موعد المستشفى أو غرفة العمليات .. فلهف زميل له الغرفة و أجرى عملياته فيها قبله !
إنه ، كما قيل لي من قبل البعض ، الشخص الذي يعيش على آلام الآخرين ، و الشخص الوحيد الذي يكون سعيداً عندما تمتلئ عيادته بالمرضى ، و هو النوع الذي سينقرض عندما يصل المجتمع إلى قمة رقيه الصحي العام ، تماماً كما سينقرض الفقراء في مجتمع الأغنياء ، و من هذا المنطلق .. فهو الشخص الذي لا يرحب به أبداً إلا مصادفة ، و لا يتمنى له أحد أن يدخل بيته إلا زائراً ، و في مثل هذه الحالات فحديثه مرحب به إن لم يخرج من " كاره " و لم يتعد على فنون أخرى .. فهو طبيب .. ما الذي يعرفه حقاً في السياسة ؟!
ينزعج البعض منه لأنه شخص اعتاد على التوبيخ و إطلاق الأحكام الجزافية ، و التي بالنسبة إليه .. أحكام مقدسة لا يمكن أن تكون خاطئة أو باطلة ، فالطفل مريض لإهمال أبويه له ، و الرجل مريض لأنه لم يحم نفسه من المرض ، و هذا خلع اسنانه لأنه مهمل في تنظيفها و لم يراجع طبيب أسنانه مة كل ستة اشهر على الأقل ، فالالية الوحيدة للمرض من وجهة نظره .. المريض بحد ذاته ، و لولا المريض ، لم يكن هناك أي مرض ، و عبثاً تحاول أن تخبره أنك قد اتبعت كل وسائل الحيطة و الحذر ، و أنك سددت كل ذرائع المرض لكن دون جدوى ! فالمرض واقع لا محالة ، و بقدر ما يعتاد الطبيب على هذا النوع من التوبيخ و التقريع .. ينسى الكلام في مواضيع أخرى !
و الآن أتنفس الصعداء بعد أن تناولت هؤلاء الأطباء بما فتح الله علي في ما سبق من هذا المقال ، و الواقع أنني كطبيب ، لا أهزأ من الأطباء أبداً .. بل على العكس .. فأنا أعتبرهم أساس الحياة على هذه الأرض ، و أرى أن الأرض تدور بحسهم ، و أنهم أشخاص نادرون جمعوا إلى العلم و الثقافة .. كل الأخلاق الحميدة و الآداب الإنساية الراقية ، المخلصون الجيدون منهم طبعاً ، و هم حقاً مهرة نجيبون ، فمن استطاع التعامل مع علل الناس و درسها و فهمها ، يمكن أن يعالج أي علة في أي مجال و تبعاً لأي اختصاص ، تراه في السياسة حكيماً ، و هذا هو اسمه الثاني ، و في الفن معطاءاً ، و في الجامع شيخاً ، و في المدرسة أستاذاً ، لأن مهنته تفرض طابعها عليه ، و الحديث دائماً يخص ذوي الأفضال منهم ، و الفضل لله تعالى ، فتغدو روحه عارفة ، و ذهنه متقداً ، و بصيرته نافذة ، و ملاحظته دقيقة ، و ينتبه إلى بواطن الأمور و خوافيها كما إلى ظواهرها و معانيها ، و هو سيد من اتخذ القرار و توصل إلى تشخيص الأحوال ، و أحسن من اختار العلاج الناجع الذي ينهي أسوأ الحالات و أنحس الأوضاع ، و نحن نعلم دوماً أن ما لا يمكن لطبيب أن يعرفه و يتعلمه .. لا يمكن لأحد أن يعرفه أبداً .
و أرجو ألا يساء فهم كلامي هذا .. فهذا ليس اعتذارأقدمه لزملائي على ما بدر مني في هذا المقال ، بل إنه من قناعاتي و معتقداتي .. و إنما كنت أحاول أن أفصح في مطلع المقال عما يعتمل في صدور كثير من الأناسي ، و الذين يمكن أن يغضب عليهم أو أن ينفوا من قبل الأطباء فيما لو تجرأ أحد عليهم بمثل هذا الكلام ، و أن أهاجم معشر الأطباء في عقر دارهم و في وضح النهار ، عل ذلك يخفف من معاناة الناس من جراء ما يتجمع في قاع النفوس ، فها أنذا شاهد منهم ، ربما ألام إن تحدثت بمثل هذا الحديث .. و لكني منهم ، و هم مني في نهاية المطاف ، لا أهون عليهم .. و لا يهونون علي ، و سترجع المياه إلى مجاريها بيننا في القريب العاجل ، فنحن زملاء المهنة ، و كما يقول المثل .. أنا و الدكتور على الصيدلي .. و أنا و الصيدلي على ... المريض !
المشكلة عزيزي القارئ .. أنني بعد كل هذا اللف و الدوران .. لم أبدأ حتى بالحديث في السياسة ، و لم أتكلم فيما أردت أساساً أن أتكلم عنه ، و لعلكم ستجدون ذلك في المقالة القادمة .. إن شاء الله تعالى ، يبدو أن الأطباء فعلاً .. لا يتكلمون إلا في الطب .. أو عن الأطباء الآخرين ..
و اعذرونا .