الأزمة المالية تعصف بالثقافة الفرنسية
نموذج فريد لشبكة مراكز شيدتها باريس حول العالم إلى اضمحلال
أحد مباني معهد «اليانس فرانسيز» في العاصمة الفرنسية
فرنسا لا تنحسر سياسيا فقط، ولكن ثقافيا أيضا، حتى بات ثمة من يتكلم عن «موت الثقافة الفرنسية». أرقام الدراسات الأخيرة لا تبشر أحفاد موليير بخير كثير، فمراكزهم ومؤسساتهم الثقافية حول العالم التي ينفقون عليها مليار يورو سنويا، وهو رقم كبير جدا بالنسبة لما تنفقه دول أوروبية كبرى أخرى، لا يحقق العوائد المعنوية المنتظرة، ولا يروج للثقافة الفرنسية بالقدر المرتجى. فرنسا أمام حقائق جديدة، والجدل محتدم.
النظرية التي تقول إن الدبلوماسية السياسية الفرنسية في أزمة وتراجع في السنوات الأخيرة أصبحت لا تقبل الشك. لكن الجديد هو أن نعلم أن الدبلوماسية الثقافية هي الأخرى آخذة في الأفول. هذا ما يحدث عندما تحاول مؤسسات رسمية اختصار التراث الثقافي لأمة ما بين أربعة جدران، ويتم الحد من إمكانياتها المادية لدرجة تنال من نشاطها وحيويتها.
الجدل يقسم المشهد السياسي والثقافي الفرنسي، وفي قفص الاتهام المؤسسات التي تجسد الحضور الثقافي لهذا البلد في العالم. وهي شبكة واسعة من الفضاءات الفكرية والفنية تضم اليوم أكثر من 161 ملحقية ثقافية، و144 مركزا، ناهيك عن المعاهد الخاصة ومراكز البحوث العلمية التي تصل لـ57، وكذلك الثانويات التي يفوق عددها الـ300، والرابطات المتخصصة في تعليم اللغة «أليانس فرانسيز»، والتي تقدر بنحو 445 معهدا. وتشكل هذه المؤسسات في مجملها أداة قوية في يد الدبلوماسية الفرنسية. وهي من حيث تعليم اللغة نموذج فريد من نوعه من حيث الكثافة والانتشار لا يضاهيه أي نموذج آخر في العالم الغربي. فمجموع ما تملكه بريطانيا من مراكزها الثقافية العريقة (البريتش كونسيل) في العالم لا يتعدى 117 مركزا، كذالك الحال بالنسبة لمعاهد «غوته» الألمانية التي تقدر بنحو 129، ومعاهد «سرفنتيس» الإسبانية التي لا تزيد على 90 معهدا في العالم كله.
هذه الواجهات الثقافية التي كانت بالأمس القريب مدعاة فخر وتباه بالنسبة لفرنسا، باتت اليوم عرضة لحملة واسعة من الانتقادات. فهناك من يراها عبئا ماديا ثقيلا وهدرا للأموال العامة، وثمة من يعتبرها مقبرة المبدعين بسبب كم المشكلات البيروقراطية والتنفيذية التي تعرقل نشاط هذه المؤسسات الحكومية، بحيث إن آثارها الإيجابية في دعم حركة الإشعاع الفكري الفني أصبحت بالكاد تلمس على أرض الواقع بعد أن تقلصت دائرة نفوذها الثقافي.
حملة الانتقادات وصلت ذروتها بعد أن اجتاز الجدل الحدود الفرنسية، واعتبرت «التايمز ماجازين» في طبعتها الأوروبية أن الدبلوماسية الثقافية الفرنسية تجتاز أزمة خطيرة، بل وتنبأت بأفول نجمها وقرب زوالها في تحقيق كتبه الصحافي المعروف دون موريسون بعنوان «ديث أوف فرنش كولتور» أو«موت الثقافة الفرنسية». التحقيق الذي أثار استياء المثقفين، سمح للسياسيين بفتح باب النقاش في هذا الموضوع، بل والخوض في دراسات ميدانية للاستقصاء والبحث في مدى فاعلية هذه المؤسسات في نشر الثقافة الفرنسية في العالم. وقد كانت أولى النتائج التي كشفت عنها تقارير برلمانية عدة قد أكدت جميعها نظرية تراجع نفوذ هذه المراكز.
البرلماني الفرنسي أدريان غوتيرون كتب في تقرير أعده عام 2009 يقول «صحيح أن عشاق الثقافة الفرنسية في أفريقيا وفي الدول النامية عموما لا يزالون أوفياء لمراكزنا الثقافية، وهم يقبلون عليها بالأخص لتعلم اللغة أو سد الفراغ الذي تعانيه بلدانهم من المرافق الحيوية، لكن الملاحظ هو أن الجمهور الغربي المعتاد على حياة ثقافية نشيطة في أوروبا وأميركا وبعض دول آسيا قد بدأ يهجر هذه المؤسسات ولا يفكر في زيارتها، لأنه ببساطة لا يجد فيها ما يروقه. فهو يفضل أن يتعرف على الفنانين والمثقفين في محيطهم الطبيعي أي في المسرح ودار السينما والمتحف، وليس بين جدران مبنى باهت بعيد عن مركز الحياة الثقافية. يواصل أدريان غوتيرون «فمن يريد أن يتمتع بعرض الفنان كريستوف فاركوفسكي في فرنسا لن يجده في المركز الثقافي البولندي، بل في دار أوبرا غارنيه، ومن يريد أن يشاهد أعمال الفنان تكاشي مراكامي فلن يجدها في المركز الياباني، بل في مؤسسة كارتييه، وكذا الحال بالنسبة لجيراننا الألمان الذين يحجزون لحفلات وعروض فنانيهم أجمل القاعات الباريسية التي تحظى بدعاية كبيرة. فلماذا نصر نحن الفرنسيين على السباحة عكس التيار».
هذا التقليد القديم الذي يقضي بتركيز النشاطات الثقافية الخارجية داخل دائرة محدودة وهي المراكز الثقافية، الموضوعة تحت وصاية رسمية، لقي الكثير من النقد، وقيل إنه السبب في تغييب المبدعين الفرنسيين عن الساحة العالمية. فبدل أن يتم التحضير للمعارض والحفلات والدعاية لها على نطاق واسع في أكبر القاعات وأكثرها شهرة، لا تحظى هذه الأخيرة إلا بالأمتار القليلة التي يمثلها محيط المركز الثقافي، والذي غالبا ما يبقى بعيدا عن أعين العامة والخاصة.
فبين 2001 و2006 مثلا لم تشهد المتاحف الكبيرة كالـ«موما» في نيويورك، و«التيت مودرن» في لندن و«الباهنوف» الألماني تنظيم ولا حتى معرض واحد لتشكيليين فرنسيين، في الوقت الذي شهدت فيه تكريم أكثر من 15 فنانا أجنبيا من مختلف الجنسيات. يحدث هذا تزامنا مع وجود كم رهيب من المشكلات البيروقراطية التي تبقى حجر عثرة في طريق أي مبدع يريد تنظيم تظاهرات خارج بلاده.
اللافت للانتباه هو أن تراجع دور هذه المراكز لم يمنع ارتفاع تكاليفها. فمن المعروف عن فرنسا دعمها لمرافقها الحيوية الخارجية بنحو مليار يورو سنويا، متقدمة على بريطانيا التي تمنح «البريتش كونسيل» سنويا 220 مليون يورو، وعلى ألمانيا التي تمنح «غوته انستوتيوت» 215 مليون يورو.
المساعدات الحكومية لا توجه فقط لتغطية تكاليف رواتب الموظفين وأساتذة اللغة، ولكن أيضا للتسيير الإداري وترميم ودفع إيجار العقارات التي تعتبر في معظمها فاخرة وباهظة الثمن. إحدى هذه البنايات التي تؤوي المركز الثقافي الفرنسي في مدينة ريو دي جانيرو، والمسماة أيضا دار فرنسا، تكلف الخزينة العامة سنويا نحو 300 ألف يورو. وهي بناية فاخرة تمتد على مساحة 2000 متر مكعب، وتضم مسرحا يتسع لـ400 متفرج، ومكتبة كبيرة وقاعة للحفلات وأخرى لقراءة الصحف وغيرها للرقص. أما مركز مدينة برازافيل في الكونغو، والذي يتربع على مساحة 4000 متر مكعب ويوظف 26 شخصا، فرغم حصوله على مساعدة حكومية سنوية تصل إلى 360 ألف يورو فإن ذلك غير كاف، وما يسمح له بتغطية تكاليف تسييره يبقى الدعم المادي الذي يحصل عليه هذا المركز من شركتين محليتين. وهذا أيضا هو حال الرابطة الفرنسية في مدينة روزاريو بالأرجنتين التي لم تتمكن بسبب انخفاض ميزانيتها من تحديث قاعة حفلاتها الضخمة ولم يتم لها ذلك إلا بفضل هبات مالية أجنبية. الانتقادات طالت أيضا التسيير الإداري لهذه المؤسسات، وتحديدا مشكلة ازدواجية المهام الملحوظة بين مختلف المؤسسات. فبعض المدن تسجل وجود الرابطة والمركز الثقافي والمعهد والملحقية في آن واحد، رغم أنه يفترض أن تؤدي جميعها وظيفة واحدة، إضافة للازدواجية المسجلة في صلاحيات المسؤولين، تحديدا بين مدير المركز الثقافي والملحق الثقافي التابع للسفارة، اللذين يقومان بمهام متشابهة، وهو ما ينتهي بخلق وضعيات اصطدام وتوتر في العلاقات بين المصلحتين.
تراكم المشكلات وتراجع دور هذه المؤسسات جعل أصواتا كثيرة من عالم الثقافة والسياسة تطالب بإعادة تنظيم الشبكة بكاملها وتخفيف أعبائها المادية عن كاهل الدولة، وهو تحديدا الرأي الذي حمله برنار كوشنير وزير الخارجية السابق. وكان قد أعلن عن ذلك صراحة في صحيفة لوفيغارو ذات التوجه اليميني في مقال رد به على تقرير البرلماني جاك غوتيرون، فكتب يقول إن أول شيء فكر فيه عند وصوله إلى «الكي دورسي» هو القيام بإصلاح المؤسسات الثقافية الفرنسية في الخارج وتغيير طريقة تنظيمها وأسلوب عملها، لأن التحديات التي يفرضها زمن العولمة الجديد تقتضي أن تكون الثقافة التي تصدرها فرنسا للخارج أكثر فاعلية وقوة مما هي عليه الآن.
لكن بدل التغيير اكتفى كوشنير ومن بعده خليفته ميشيل اليو ماري بتخفيض الدعم المادي الذي كانت تحصل عليه هذه المرافق من الإليزيه، وبالأخص تلك التي تخص المراكز الثقافية، حتى أصبحت مؤشرات ميزانيتها لا تميل إلا للسالب. وبذا انخفضت 30 في المائة في كوبا، والفلبين، وتشيلي، ودول جنوب شرقي آسيا، كما انخفضت 15 في المائة في الصين والهند وفي ألمانيا وأوكرانيا، حتى المناطق التي تتمتع فيها فرنسا بنفوذ ثقافي قوي كمنطقة المغرب العربي سجلت سنة 2009 تراجعا في ميزانيتها بنسبة 15 في المائة.