خطبة أمير المؤمنين "ع" في وصف المتقين بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلً على محمد وآلِ محمد الطيبين الطاهرين وعجل فرجهم يا كرم السلام عليكم ورحمة الله وبركات من أبان بن أبي عياش عن سليم ، قال :قام رجل من أصحاب أمير المؤمنين (ع) يقال له (( همام )) - وكان عابداً مجتهداً - فقال :يا أمير المؤمنين ، صف لي المؤمنين كأني أنظر إليهم .فتثاقل أمير المؤمنين (ع) عن جوابه ، ثم قال : ياهمام ، اتق الله و أحسن ، فإن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون.فقال له همام : أسألك بالذي أكرمك و خصك و حباك و فضلك بما آتاك لما و صفتهم لي.فقان أمير المؤمنين (ع) على رجليه فحمد الله و أثنى عليه وصلى على النبي و أهل بيته صلوات الله عليهم ، ثم قال :أما بعد ، فإن الله خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم ، لأنه لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعة طاعة من أطاعه منهم . فقسّم بينهم معايشهم ووضع من الدنيا مواضعهم . و إنما أهبط آدم إليها عقوبة لما صنع حيث نهاه الله فخالفه و أمره فعصاه .المؤمن في الدنيا:فالمؤمنون فيها هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب و ملبسهم الإقتصاد و مشيتهم التواضع . خضعوا لله بالطاعة فمضوا غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم ، واقفين أسماعهم على العلم . نزلت أنفسهم فيها البلاء كالذي نزلت في الرخاء ، رضى عن الله بالقضاء .لو لا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب و خوفاً من العقاب . عظم الخالق في أنفسهم و صغر مادونه في أعينهم .المؤمن و الجنة و النار:فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، وهم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذبون . قلوبهم محزونة ، و حدودهم مأمونة ، و أجسادهم نحيفة ، و حوائجهم خفيفة و أنفسهم عفيفة ، و معونتهم في الإسلام عظيمة .صبروا أياماً قصاراً أعقبتهم راحة طويلة . تجارة مربحة يسّرها لهم رب كريم . أرادتهم الدنيا فلم يريدونها و طلبتهم فأعجزوها .المؤمن في يومه و ليلته:أما الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتلونة ترتيلاً يُحزنون به أنفسهم و يستثيون به دواء دائهم ، و تهيج أحزانهم بكاء على ذنوبهم ووجع كلم - جمع الكلم بمعنى الجرح - جوانحهم . فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً و تطلعت إليها أنفسهم شوقاً فظنوا أنها نصب أعينهم ، حافين على أوساطهم ، يمجّدون جباراً عظيماً ، مفترشين جباههم و أكفهم و ركبهم و أطراف أقدامهم ، تجري دموعهم على خدودهم ، يجأرون إلى الله في فكاك رقبتهم من النار . و إذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم و أبصارهم ، و اقشعرت منها جلودهم ووجلت منها قلوبهم و ظنوا أن صهيل جهنم و زفيرها و شهيقها في أصول آذانهم .و أما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء ، برأهم الخوف فهم أمثال القداح - أي جعلهم الخوف كالسهام ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ، و أما قد خولطوا ، قد خالط القوم أمر عظيم .إذا ذكروا عظمة الله و شدة سلطانة مع ما يخالطهم من ذكر الموت و أهوال القيامة ، فزع ذلك قلوبهم وطاشت له حلومهم وذهلت عنه قلوبهم و اقشعرت منها جلودهم . أذ استفاقوا من ذلك بادروا إلى الله بالأعمال الزكية . لا يرضون لله بالقليل ولا يستكثرون له الجزيل .علامات المؤمن الظاهرية:فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون . إن زكي أحدهم خاف مما يقولون و قال : "(( أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي من غيري . اللهم لا تؤاخذني بما يقولون و اجعلني خيراً مما يظنون و اغفر لي مالا يعلمون ، فإنك علام الغيوب و ساتر العيوب ))".و من علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين ، و حزماً في لين ، و إيماناً في يقين ، و حرصاً على علم ، و فهماً في فقه ، و علماً في حلم ، وشفقة في نفقة ، وكيساً في رفق ، و قصداً في غنى ، و خشوعاً في عبادة ، وتحملاً في فاقة ، و صبراً في شدة ، ورحمة في مجهود - الطاقة و الإسطاعة - ، و إعطاء في حق ، ورفقاً في كسب ، و طيباً في حلال ، ونشاطاً في الهدى ، و تحرجاً عن الطمع ، وبراً في استقامة ، و اعتصاماً عند شهوة .علامات المؤمن الباطنية:لا يغره ثناء من جهله و لا يدع إحصاء عمله ؛ مستبطأ لنفسه في العمل ، يعمل الأعمال الصالحة.و هو رجل يمسي وهمه الشكر و يصبح و شغله الذكر . يبيت حذراً و يصبح فرحاً ، حذراً لما حذّر و فرحاً لما أصاب من الفضل و الرحمة . و إن استعصب عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما إليه بشره . ففرحه فيما يخلد و يطول ، وقرّة عينه فيما لا يزول . رغبته فيما يبقى و زهادته فيما فنى .يمزج الحلم بالعلم و العلم بالعقل . تراه بعيداً كسله ، دائماً نشاطه ، قريباً أمله قليلاً زلَله ، متوقعاً أجله ، خاشعاً قلبه ، قانعة نفسه ، متغيباً جهله ، سهلاً أمره ، حريزاً لدينه ، ميتة شهوته ، مكظوماً غيظة ، صافياً خلقه ، آمناً من جاره ، ضعيفاً كبره ، قانعاً بالذي قدّر له ، متيناً صبره ، محكماً أمره ، كثيراً ذكره.لا يحدث بما أؤتمن عليه الأصدقاء ، ولا يكتم شهادة الأعداء ، ولا يعمل شيئاً من الحق رياء ولا يتركه حياء . الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون .يعفو عمن ظلمه و يعطي من حرمه و يصل من قطعه . لا يعزب حلمه ولا يعجل فيما يربيه ، و يصفح عما تبين له . بعيد جهله ، ليَّن قوله ، غائب منكره ، قريباً معروفه ، صادق قوله ، حسن فعله ، مقبل خيره ، مدبر شره . و هو في الزلازل وقور ، وفي المكاره صبور ، و في الرخاء شكور .المؤمن و الناس: لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيما يحب ، ولا يدعى ما ليس له ، ولا يجحد حقاً هو عليه ، يعترف بالحق قبل أن يُشهد به عليه .لا يضيع ما استحفظ عليه ، ولا يُنابز بالألقاب ، ولا يبغي على أحد ، ولا يُهم بالحسد ، ولا يضارُ ، ولا يشمت بالمصائب.مؤد للأمانات ، سريع إلى الصلوات ، بطئ عن المنكرات ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . لا يدخل في الأمور بجهل ولا يخرج من الحق بعجز .إن صمت لم يغمه الصمت ، و إن نطق لم يقل خطأ ، و إن ضحك لم يعلُ صوته . قانع بالذي قدر له لا يجمح به الغيض ولا يغلبه الهوى ، ولا يقهره الشح ، و لا يطمع فيما ليس له .يخالط الناس ليعلم ، ويصمت ليسلم ، و يسأل ليفهم ، و يتجر ليغنم ، ويبحث ليعلم . لا ينصت للخير ليفخر به ولا يتكلم ليتجبر على من سواه .نفسه في عناء ، و الناس منه في راحة . أتعب نفسه للآخرته , و أراح الناس من نفسه . إن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو المنتصر له . بُعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة ، و دنوه ممن دنا منه لين و رحمة . ليس تباعده تكبراً و لا عظمة ، ولا دنوه خديعة ولا خلابة ، بل يقتدي بمن كان قبله من أهل الخير . فهو إمام لمن خلفه من أهل البر.