طريق المحيط العظيم .. من ملبورن إلى أدلاييد
رحلة الغوص في تاريخ أستراليا
كانت المنطقة التي تسمى اليوم طريق المحيط العظيم، منطقة مهجورة من البشر، لا يسكنها أحد، ولم يمر بها أحد من قبل
قبل مائة وخمسين عاما، وبعد نحو ستة عقود، على سكن أولى المجموعات الأوروبية في ولاية فيكتوريا الأسترالية، بدأ التفكير الفعلي في إنشاء طريق استراتيجي طويل على طول الساحل الجنوب غربي أستراليا. لم تكن القارة حينذاك، وهي التي كانت مجهولة، ولا يزال جزء منها مجهولا تماما عن البشر، سوى أراض شاسعة لا يحدها البصر؛ إذ، وبحسابات تلك الأيام، التي لم تكن فيها وسائل النقل مريحة نسبيا، كان السفر في الأراضي الأسترالية وبين الولايات، حتى قبل أن تتشكل وتصبح ولايات، مسألة شاقة ومتعبة في أحسن الأحوال، أما في أسوأها، فقد كانت مستحيلة.
البلاد لم تكن مسكونة، وسكانها الأصليون الذين يطلق عليهم اسم (الأبوريجين - Aborigènes)» لم يكونوا من سكان السواحل، بل سكنوا طوال تاريخهم ولا يزالون المناطق الداخلية في الصحراء الأسترالية في أليس سبرينغ Alice Springs وفي بعض المناطق الداخلية في ولاية كوينزلاند الاستوائية المناخ، ومناطق داخلية أخرى من ولاية جنوب أستراليا. تاريخهم يشهد لهم بذلك، فهم لم يكونوا يعرفوا ما القوارب البحرية قبل مجيء الإنجليز إلى بلدهم عام 1788، رغم أنهم كانوا يعرفون الصيد بالأنهار. وعلى هذا، فقد كانت المنطقة التي تسمى اليوم طريق المحيط العظيم، منطقة مهجورة من البشر، لا يسكنها أحد، ولم يمر بها أحد من قبل.
في عام 1864 وبعد مضي نحو ستين عاما على تأسيس ولاية فيكتوريا، بدأ التفكير فعليا بشق طريق ساحلي، يكون عونا للرحالة والمكتشفين داخل الأراضي الأسترالية، من أجل اكتشافها، وسرعة التنقل في فيها. لم تكن هذه الفكرة، بريئة بالكامل يومذاك. لقد بدأت في ذلك الوقت أخبار اكتشاف الذهب تتنقل كالنار في الهشيم، وبدأت الأطماع الفعلية تتحكم بالمستعمرين، فكل من يكتشف منجما يضع يده عليه ليكون تابعا لولايته التي حكما ستصبح من الولايات الغنية والمؤثرة في الحركة الكولنيالية عامة. لكن مع ذلك، فقد كان تحقيق هذا الحلم صعب المنال في تلك الأيام، ليس لأن الإمكانات غير موجودة بل لأن العامل البشري، وهو المهم، لم يكن متوفرا بكثافة. غير أن أخبار اكتشاف الذهب، جعلت من أستراليا وجهة لكثيرين، خاصة أولئك الذين بدأوا يتوافدون إليها من المستعمرات الأخرى القريبة في شرق آسيا والهند والبعض ممكن كانوا في جنوب أفريقيا إلى جانب بعض العائلات الإنجليزية التي لم تغادر بريطانيا قبل ذلك.
بعد نصف قرن من البدء في التفكير، بدأت العملية الشاقة في شق الطريق العظيم. فيعام 1924 وبعد أن عاد الجنود من الحرب العالمية الأولى، تم تفريغ عدد كبير منهم للعمل في هذا الطريق الذي يبلغ طوله 430 كيلومترا ويبلغ عرضه نحو ثلاثة أمتار في كثير من الأماكن ومترين في بعضها ويمشي على حافة المحيط من كوينز كليف (Queens Cliff) قرب ملبورن وحتى بورت فيري (Port Fairy) التي كانت يومذاك نقطة الحدود المرسومة مع ولاية جنوب أستراليا. لكنها بعد توسيع ولاية فيكتوريا وأخذها مساحات إضافية من الأرض، أصبحت ضمن النطاق الجغرافي للولاية التي أصبحت نقطة حدودها من ولاية جنوب أستراليا قرية صغيرة تدعى نيلسون (Nelson) وأصبح فيها بدءا من الثلاثينات من القرن الماضي ميناء صغير للصيادين.
من ملبورن، بناطحات السحاب التي تتوسطها، كما يتوسط صغير الكانغارو جراب أمه، كانت البداية الشاقة والممتعة في طريق يستمر تقريبا نحو ألف ومائة كيلومتر. الخروج من المدينة الكبيرة جدا، لم يكن مسألة سهلة، مشت السيارة نحو أربعين كيلومترا في طرقات عريضة وملتفة، تعج بالسيارات، وطرقات أخرى مقطوعة بسبب الأعمال، كما مرت على ثلاثة مطارات كبيرة منها المطار الرئيسي للمدينة، حتى خرجت.
طرقات ملبورن الداخلية، المدينة التاريخية، إذا أمكن إعطاؤها هذا الوصف، جميلة يظهر عليها الترتيب والنظام وبعض النمط الهندسي الاستعماري، خصوصا في بعض المباني التي لا تزال قائمة، والتي لا يتجاوز عمر أقدمها مائتي عام فقط. لكنهم هنا، قد صدقوا على قانون يمنع المس بأي بيت أو مبنى من الملكيات العامة أو حتى الخاصة دون الرجوع إلى إذن رسمي من الدولة، التي تريد أن تصنع تاريخا. في البلاد التي نزلها الاستعمار مثل الهند وجنوب أفريقيا وسريلانكا التي كانت تتمتع بعمق تاريخي وحضاري، لم تتمكن القوة الاستعمارية من نهب التاريخ ومنحه لنفسها. سرقت الكثير من الآثار التي وجدتها حكما، لكن التاريخ بقي لأصحابه.
هنا حيث لم تكن معالم تاريخية، فإن أي منزل بني قبل مائة سنة هو معلم حضاري. مع ذلك، فالمدينة جميلة، خاصة بخليطها البشري الذي يظهر جليا في سحنات الوجوه، حيث من الممكن التعرف عليها بشكل أوسع من خلال العشاء في أعلى مطعم في أستراليا الذي يقع في الطابق التاسع والثمانين من مبنى «أوريكا تاورز». المنظر من هناك كان مزيجا من السحر ورهبة العلو وعظمة الهندسة.
ليس بعيدا من ملبورن، تقع غيلونغ (Geelong)التي تعتبر اليوم النقطة الأولى على طريق المحيط وثاني أكبر المدن في ولاية فيكتوريا. بدلا من كوينز كليف (Queens Cliff) التي بدأ الطريق منها يوم بدأ العمل على إنشائه. تعد غيلونغ من أكبر المدن على طريق المحيط العظيم بعد ملبورن، ما عداها يعتبر قرى متناثرة. سواء على الجبال الملتصقة بالبحر التصاقا أموميا، أو تلك المبعثرة على السواحل وفي نهايات الوديان التي تصل مياهها إلى شاطئ المحيط بكامل بهائه.
المدن في أستراليا، غير موجودة بالمعنى الحقيقي لكلمة مدينة سوى في ملبورن وسيدني وأدلاييد وبيرث وداروين وبريسبن. ما عدا هذه المدن، نجد مدنا أقرب إلى القرى منها إلى المدن. يكفي أن يكون للمنطقة شارعا تجارية وسوقا حتى تصبح مدينة. ما عدا ذلك، فإن القرى التي يمكن أن يمر المسافر بها، جميعها وجد بسبب المناجم سواء مناجم الذهب أو مناجم الفحم. وبعض القرى التي يعيش معظم سكانها على العمل في المناجم، وتقع على البحر امتهن سكانها مهنة إضافية هي الصيد، لتكون عونا لهم في حال توقفت المناجم، حيث توقف عدد من المناجم في حالات ومناطق كثيرة.
لا يوجد في غيلونغ الشيء الكثير. وصلت إليها في فترة الصباح حيث لم تكن بعد قد استفاقت. وعلى كورنيشها الممتد بطول نحو 500 متر لم يكن سوى عجوز وحيدة تجلس في الكشك المخصص لإرشاد ومساعدة السياح إلى جانب بضعة أشخاص يجلسون في المقاهي المقابلة للميناء لأخذ فطورهم ثم متابعة أعمالهم في الغالب. غيلونغ المدينة كانت تسمى بلغة السكان الأصليين وذارونغ (Wauth arong)وقد تساءلت لحظة وصولي في صباح المدينة الذي بدت شمسه قوية جدا: ماذا وجد الملازم جون موراي حين وطأتها قدماه عام 1802 وهو الأوروبي الأول الذي وصل إلى المنطقة؟ فإن كنت في بداية الألفية الثالثة لم أقابل سوى تلك العجوز التي تعمل مرشدة سياحية، ماذا كان وجد هو؟ مجرد عبث مسافر يحاول الترفيه وإيجاد حجج للمقارنة بين الحال وما كان عليه قبل قرنين من الزمان. مع ذلك، ففي المدينة مبان جميلة لا يمكن اكتشافها بسهولة في المدن الكبرى.
يرتفع في غيلونغ مبنى البريد المبني قبل مائة وعشرين سنة، هو الأكبر في المدينة، وهو يضم إضافة إلى مؤسسة البريد، أكبر ساعة في المدينة. في ذلك الوقت لم تكن الساعات موجودة عند الجميع، وكان الناس حين يريدون معرفة الوقت يخرجون من بيوتهم وينظرون باتجاه هذه الساعة التي ما زالت تعمل رغم الزمن وهواء المحيط المالح. لكن ما يميز ميناء المدينة، أنه يقع في قلب الخليج البحري الأكبر في أستراليا، ولهذا، فإن الحال فيها مستقرة وهي أقرب إلى الصيف الدائم.
باستثناء ما ذكر، لم يسعف الوقت لرؤية المزيد في المدينة التي كانت وما زالت لم تستفق كليا. والطريق إلى توركي (Torquay) القرية الوادعة بسكانها الستة آلاف والمشهورة برياضة ركوب الأمواج كمعظم قرى الساحل الأسترالي، رائع. زيارة قصيرة لم تتجاوز عدة دقائق إلى الشاطئ الكبير برماله الناعمة التي تشبه الملح ورؤية بعض السياح، الذين قضوا ليلتهم في المخيم القريب المخصص لأصحاب العربات، ثم استكملت الطريق باتجاه أنجل سي (Angle sea)القريبة التي تشبه سابقتها في رياضة ركوب الأمواج، لكنها تتميز عنها بأنها تحتوي على واحدة من المحميات النادرة على مستوى العالم، وهي تقع على شاطئ المحيط مباشرة وتعد الحديقة الوطنية البحرية وفيها الكثير من حيوانات الكانغارو البنية اللون والناعمة الملمس، إضافة إلى عدد كبير من الطيور البحرية والزواحف البرمائية وهي تستقبل السياح منذ الصباح الباكر وحتى الخامسة عصرا.
بعد أنجل سي أصبح الطريق ضيقا أكثر على السيارات، وهي تمشي على حافة المنحدر الذي يوصل إلى مياه المحيط الباردة حتى في فترة الصيف. لقد كان فعلا شق هذا الطريق في ذلك الزمن، عملا جبارا، وفي بعض الأماكن غالبا ما تشاهد النصب التذكارية التي نقشت عليها أسماء الذين قضوا وهم يعملون هنا، بين لورن (Lorne) وأبولو باي (Apollo Bay). عرفت من واحدة من اللوحات أن ثمة لبنانيين من الذين وصلوا إلى هذه القارة البعيدة، بعد الهجرة الأولى من لبنان في القرن التاسع عشر، عملوا في شق هذا الطريق، أحد هؤلاء العمال اسمه منقوش هنا: ميشال الشمالي، وهو ربما وصل وحيدا بعد سفره من لبنان، فعمل ومات دون أن يحقق أحلامه بالثراء. الاسم كان منقوشا مع أسماء عديدة، لكنه اللبناني الوحيد على الأرجح، أما الباقين فهم في غالبيتهم جنود كانوا في الجيش البريطاني. في القرية التي يقطنها نحو ألفي شخص، الكثير من البيوت الخاوية التي يستخدمها أصحابها، وهم على الأغلب من أثرياء ملبورن، في فصل الصيف والأوقات التي تكون فيها الشمس قوية بما يكفي للاستمتاع بالهدوء وجمال الطبيعة ومياه المحيط. ما عدا ذلك لا يوجد الشيء الكثير. فمعظم أو غالبية القرى، لا يوجد فيها الكثير لرؤيته سوى بعض المنارات على الشواطئ.
يستمر الطريق إلى برنس تاون (Prince Town)وبورت كامبل (Port campbell) اللتين تحتويان على أكثر المشاهد إثارة على هذا الطريق الطويل، أي التشققات الطبيعية التي أحدثتها مياه المحيط ونحتتها طوال آلاف السنين، وعلى مثال شبيه إلى حد ما بصخرة الروشة في بيروت، لكنه أكثر جلالا ورهبة، تمتد إحدى عشرة صخرة في قلب المحيط وبعلو شاهق جدا على مسافة طولها التقريبي خمسة عشر كيلومترا. ليس مشهد هذه الصخور هو الوحيد المغري، بل التداخلات التي أحدثها المحيط باليابسة المقابلة له، حيث حفر مغارات كثيرة وأنفاقا يصل عمق بعضها إلى أكثر من ستة وعشرين مترا داخل المياه وارتفاعها عن سطح المحيط أكثر من عشرين مترا. المشهد خلاب، خاصة وقت الغروب، ويصبح خلابا أكثر حين يقوم السائح برؤية المشهد من خلال طائرة هيلكوبتر صغيرة بمبلغ مائتين وخمسين دولارا للشخص الواحد. وينصح عادة بالسفر إلى هذا المكان في منتصف الصيف حين يكون المحيط هادئا جدا لتتم الرؤية بوضوح. أما هذه الصخور العالية، فهي ملجأ للطيور التي تهاجر، خاصة في بداية الصيف، إلى الدفء الذي تبحث عنه هنا. على الجهة المقابلة، ثمة خطر كبير في النزول إلى الشاطئ من بين الصخور حيث تستوطن مجموعات الأفاعي الخطرة المنطقة، وهي موجودة بكثافة هنا، إلى بعض الحيوانات المصنفة خطرة أيضا. يمكن رؤية الأفاعي بسهولة هنا، أما ما تبقى من الحيوانات فهي تخرج في أوقات معينة من النهار والليل. لذلك، فإن الطرقات المخصصة للمشاة ممتلئة باللوحات التي تحذر من الخروج عن الطريق المخصص من أجل عدم الوقوع في أي خطر.
تستمر الرحلة إلى بورتلاند (Portland) التي سأقضي فيها ليلتي الأولى على الطريق مرورا ببعض القرى الصغيرة وموانئ الصيادين مثل وارنامبول Warrnambool)) وكذلك بورت فيري (Port fairy) التي يوجد فيها واحدة من أقدم وأجمل المنارات البحرية في أستراليا. أما في بورتلاند، فقد كان العثور على فندق كمن يبحث عن إبرة في كوم من القش. أخيرا وجدت الفندق، لكنه ليس فندقا كما هو متعارف عليه بل «موتيل» صغير بغرف بسيطة أثاثها قديم. أما النصيحة المعلقة على جدار الغرفة فهي: «الرجاء تفتيش ونفض السرير جيدا من الأفاعي قبل النوم».